الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عبء النفوذ السياسي لرجال الدين – نموذج السيد حسن نصرالله

جوزيف بشارة

2006 / 6 / 7
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لست أرى أية بارقة أمل في مستقبل افضل لشعوبنا ومجتمعاتنا ومنطقتنا دون الفصل التام للدين عن السياسة. لقد علمنا التاريخ دروساً عملية في أهمية هذا الفصل في إحداث الاستقرار السياسي والتسامح الديني والاندماج الجتماعي والتقدم العلمي. لنا في المجتمعات المختلفة في الشمال والجنوب، والشرق والغرب أمثلة لا حصر لها للنقلات الحضارية التي شهدتها بعد التخلص من العبء الثقيل الذي يمثله الخلط بين الدين والسياسة ومن ثم سيطرة نفوذ رجال الدين على مظاهر الحياة. لا يكاد يتبقى حول العالم من دول تخلط الدين بالسياسة إلا البؤرة العربية والإسلامية، وما عداها أدرك أن لا ديمقراطية حقيقية بدون علمانية تقدس المجتمع المدني، وأن لا حقوق متساوية من غير تحديد إقامة الأديان في الدور المخصصة لها من معابد وكنائس ومساجد، وأن لا حريات أساسية إلا عبر الاستبعاد الكامل لرجال الدين من الحياة السياسية.

المثير أن الدول العربية والإسلامية لا تزال تخطو بخطىً ثابتة في الاتجاه المعاكس للمجتمع المدني والحقوق المتساوية والحريات الأساسية، فنجد أن الأصولية الدينية المتطرفة تكاد تنفجر في وجه الاعتدال الذي تمثله الأقلية الليبرالية العلمانية، ونجد أن التيارات الدينية تكاد تفرض سطوتها على زمام الأمور هنا وهناك إما بقوة القوانين الدينية المترسخة في الدساتير أو عبر النفوذ القوي المتصاعد للمراجع الدينية. المؤسف حقاً أن الأجيال الجديدة في المجتمعات التي تخلط الدين بالسياسة باتت تنشأ على تعاليم شوفينية مطلقة تحض على الانغلاق الفكري وإنكار واستبعاد الأخر سياسياً كان أم دينياً، حتى أنه لا يكاد يكون هناك موطئ لقدم للمبادئ الإنسانية التي تفتحت عليها الأجيال الحرة في المجتمعات الديمقراطية العلمانية، فأصبح الفارق الحضاري بين مجتمعاتنا ومجتمعاتهم هو الفارق بين السياسة الممزوجة بالدين والسياسة المفصولة عن الدين.

إن ما يجنيه النفوذ السياسي لرجال الدين على الشعوب من مآس يفوق بكثير الفوائد التي تحصدها هذه الشعوب من تسييس الدين وتديين السياسة. فلقد امتدت الأثار السلبية لمزج الدين والسياسة في العالمين العربي والإسلامي لتهدد التعايش المشترك بين أتباع الديانات والملل والطوائف والأعراق والقبائل المختلفة نتيجة الإيمان بقدسية السياسة المتدينة. فأضحت الاختلافات في الرؤى تتحول إلى إنقسامات تقود إلى تظاهرات وأعمال شغب وربما معارك وحروب أهلية. ليس ما يحدث في العراق والصومال ولبنان وبدرجة أقل في مصر إلا أمثلة حية على ذلك، بعدما سطت المجموعات الدينية على السياسة وفرضت عليها الخلافات الدينية والطائفية. الأمثلة على الأثار السلبية التي يتركها إقحام رجال الدين أنفسهم في السياسة كثيرة ولا تتطلب دقة الملاحظة لمراقبتها، فهي تحدث بصورة دائمة بصفة شبه يومية.

لعل من أخر هذه الأمثلة أعمال الشغب التي نشأت بسبب البرنامج الساخر "بس مات وطن" الذي بثته شبكة LBC اللبنانية الأسبوع الماضي، وتناول بالتقليد السيد حسن نصراللة أمين عام حزب الله. اشتعل الشارع اللبناني بغضب عارم من أنصار الحزب الشيعي الذين اعتبروا تقليد السيد نصرالله بصورة ساخرة في البرنامج بمثابة إهانة غير مقبولة لمرجع ديني له حرمته. لم أشاهد البرنامج ولا أعرف ما دار به على وجه التحديد، ولذلك فأنا لا أدافع عن البرنامج. ولكن حقيقة ما أثار دهشتي وألمي هو رد الفعل العنيف الغير مبرر الذي أتى به أتباع حزب الله. رد الفعل هذا الذي لست أدري إن كان المقصود به استعراض العضلات، أم توجيه تهديد مباشر لقوى 14 آذار/مارس المعارضة لنفوذ حزب الله.

خرج علينا السيد نصرالله بالأمس بمقترح يطالب بميثاق شرف إعلامي. يبدو أن ما يريده السيد نصرالله ليس ميثاق يلتزم به الإعلاميون، ولكن تقييد حريات الإعلام والصحافة في نقد رجال الدين. إنها الخطوة المعتادة التي يبدأ بها عادة رجال الدين مساعيهم لتكميم الإعلام والحريات والرأي الأخر. مرة أخرى يطرح البعض رؤاهم للحرية على أنها طريق ذو اتجاه واحد يذهب ولا يأتي. من منا سينسى الاقتراح الذي حملته بعض الدول العربية والإسلامية للأمم المتحدة بعد الصخب الذي صاحب الرسوم الدنماركية والذي طالبت فيه بحظر المساس بالمقدسات الدينية. ولكن ما كادت تهدأ العاصفة ويخرج للنور فيلم "دا فينشي كود" الذي يهزأ بأقدس مقدسات الدينية للمسيحيين حتى قام عدد من هذه الدول بعرض الفيلم. مرة أخرى أشدد على أنني لست ضد حرية التعبير أياً كانت، ولقد كنت من القلائل من المسيحيين الذين رفضوا منع الفيلم احتراماً لحرية التعبير وذلك على الرغم من رداءته الفكرية والفنية. ولكن أن يقوم أتباع حزب الله بأعمال غوغائية تهدد سلام الوطن لمجرد تصوير أمين الحزب في صورة ساخرة فهذا هو ما يعد مساساً حقيقياً بالحريات العامة.

لقد اختار السيد نصرالله طواعية أن يكون زعيماً سياسياً محترفاً، وهو يعلم تماماً أن لا حرمة للسياسيين من النقد، لا سيما في البلدان الديمقراطية أو متعددة الأحزاب والطوائف والأعراق. فإذا كان المتدينون يرون في أن لرجال الدين حرمتهم، أفليس من الاولى بالسيد نصرالله أن ينسحب طواعية من المعترك السياسي حتى يحفظ لشخصيته الدينية قدسيتها التي يريدها له أتباعه؟ يجدر بالذكر هنا أن السيد نصرالله أيضأ هو الشخصية الدينية الوحيدة الممثلة في جلسات الحوار الوطني، وهو يعد المرجع الديني الوحيد في لبنان الذي يتخذ من السياسة وظيفة وزعامة، في حين أن الزعماء الدينيين الأخرين في لبنان مثل البطريرك الماروني مار نصرالله صفير والمفتي السني رشيد القباني لا يمتهنون السياسة ولا يسعون لمجدها، حتى وإن كان نفوذهم الديني ينعكس في بعض الأحوال على القضايا السياسية.

لقد صنعت الظروف السياسية التي مرت بها لبنان من السيد نصرالله بطلاً قومياً احترمه وقدره الجميع على مختلف انتماءاتهم ومعتقداتهم وطوائفهم، ولكن ذلك لا يعني أن الرجل يبقى فوق النقد وبخاصة بعد انتهاء الأسباب التي استقى منها منزلته ومن أهمها الاحتلال الإسرائيلي للشريط الحدودي بجنوب لبنان. فهو مثله كجميع السياسيين اللبنانيين الذين تتعرض سياساتهم للنقد والسخرية اللذين لا يعنيان بالطبع النيل من الكرامة الشخصية للمنتقدين. لقد شاء السيد نصرالله أن سياسياً، عرضة للصواب والخطأ وبالتالي فقد سقطت عنه "القدسية" الدينية التي ثار المتظاهرون دفاعاً عنها. فهل يعتزل السيد نصرالله السياسة حتى يبقي على جلاله الديني، أم يتخلى عن مرجعيته الدينية من أجل مجد السياسة؟ فالسياسة والدين لا يصلحان في بلد ديمقراطي متعدد الطوائف. أشك في أن يتخلى الرجل عن مجد السياسة الذي ظل يتذوقه طيلة المرحلة الماضية، لذا ستبقى المحاولات المضنية لرجال الدين للتوصل لحل وسط بين الدين والسياسة والذي عادة ما يكون على حساب مبادئ الحريات والحقوق والمساواة والعدل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حتة من الجنة شلالات ونوافير وورد اجمل كادرات تصوير في معرض


.. 180-Al-Baqarah




.. 183-Al-Baqarah


.. 184-Al-Baqarah




.. 186-Al-Baqarah