الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الزواج والاستقلالية: قراءة في مفارقات الزواج

محمد إشو

2020 / 3 / 16
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


تقديم:
لكثرة ما ارتبط الزواج بالجانب الثقافي-الاجتماعي (*) ، قد حجب عنه الجانب الفكري الفلسفي، الذي يقف عند المفارقات العويصة والتناقضات المستعصية، التي ينطوي عليها الزواج من حيث هو علاقة تجمع بين شخصين، من المفترض أن يكونا مستقلين ويتسمان بدرجة عالية من النضج والمسؤولية.
لقد سبق لأحد الباحثين في التاريخ المغاربي أن اشتكى من التغيب الذي طال هذا الفعل الإنساني البارز من الدراسات التاريخية، وأكد أن "موضوع العلاقات الزوجية على نحو خاص، لازال تاريخا مجهولا ومنسيا، وهو نتيجة حتمية لتغييب تلك الخانة الاجتماعية من قبل المؤرخين القدامى، والذين أدرجوا ظاهرة الزواج بشكل عام ضمن "المسائل العائلية" التي تقع خارج دائرة اهتمام المؤرخ؛ فأسدلوا عليها ستارا من الصمت والتهميش، لم يقتصر فقط على الأوساط الشعبية وإنما امتد للنخب الحاكمة، حيث نظر المؤرخون إلى الحياة الخاصة لأفرادها نظرة مغلقة بمسوح أخلاقية تعتبر الكتابة فيها نوعا من المحرمات؛ التي لا يجوز الاقتراب منها" . وفي سياق آخر "دعا الكونت كيسرلنج برنارد شو للمساهمة في كتابة فصل في كتاب الزواج، رفض شو قائلا: لا يجرؤ أي رجل أن يكتب شيئا عن حقيقة الزواج حين تكون زوجته على قيد الحياة" .
لهذا ليس من قبيل الصدفة أن نجد هيمنة واضحة للدراسات القانونية وللاجتهادات الدينية وللأبحاث الأنتروبولوجية على موضوع الزواج، لأنه موضوع تحفه هالة ثقافية، مليئة بالأساطير والتمثلات الغريبة، تحول دون معالجته فكريا وتاريخيا، بل إن المعالجة الفكرية تبدو غير ذي أهمية، مادامت العلاقات الزوجية تنظمها قوانين وعادات عصية على التجاوز وغير قابلة للمواجهة والنفي. لأن الإنسان يخضع فيها لغيره أكثر من خضوعه لأفكاره وقناعاته الشخصية. فهو موضوع ينتمي إلى المجال العام، يقصي الذات "ويجعل الآخرين يختفون أكثر فأكثر ويفقدون ما يميزهم وما ينفردون به (...) يسمح للضمير المبني للمجهول "on" أن يطور خاصيته الديكتاتورية التي تميزه" .
لكن الناظر في مسألة الزواج سيكتشف مدى الارتباط الوثيق الذي يوصل الزواج بالاستقلالية الذاتية، من حيث هي "سيرورة ناتجة عن مجموع أفعال الأفراد الذين تجمعهم علاقة" ؛ فالقوانين والتوجيهات الدينية تقف عند المقتضيات الخارجية السطحية التي تجمع بين الأزواج، وتنتهي صلاحيتها بمجرد ما يتم الاقتران بينهما، ولا تعود للظهور إلا في لحظات الخلاف والبحث عن الانفصال. فكلما كانت هذه العلاقة الإنسانية الخاصة منحازة إلى شكلها القانوني والثقافي والديني والاقتصادي، كلما تلاشت وتدهورت. وكلما كان الارتباط على أسس داخلية غير هذه، كلما امتدت واستمرت.
لقد أفرز هذا التداخل بين مكونات مختلفة حول العلاقة الزوجية، أنماطا متعددة من الزواج، فأصبحنا نتحدث عن زواج ثقافي (عتيق) وزواج اتفاقي (حديث)، وزواج اقتصادي (شركة). وفي جميع هذه الأنماط تظهر جملة من المفارقات العويصة، التي لا مجال لتجنب السقوط في مآزقها. سنركز في هذا المقال على التناقضات الفكرية التي يتضمنها النمطين الأولين، لأنهما السائدان والمنتشران بكثرة، ولأن غالبية المتزوجين لازالوا غير واعين بهذه المفارقات التي تكون في الغالب من الأسباب الرئيسية في انتهاء العلاقة الزوجية. فأين تتجلى إذن هذه المفارقات؟ ولماذا تعد من العوامل الرئيسية التي تهدم العلاقة بين الأزواج؟ كيف يمكن الوعي بها وتجاوزها؟





1- الزواج الثقافي-العتيق: تغير كل شيء ولم يتغير أي شيء
يستغرب كثيرون اليوم من بعض الممارسات الطقوسية السائدة في العصر الوسيط حول الزواج؛ بالخصوص حين يتعلق الأمر بما يسمى "حق السيد" أو "حق الليلة الأولى" droit de cuissage وهو الحق الذي يمنح للكاهن لإمضاء ليلة الزواج الأولى لفض غشاء بكارة المرأة، قصد مباركة ذلك الزواج. كما أنهم يسخرون من بعض الأحداث التي وقعت في الماضي، مثل "اضطرار بعض الأزواج –تحت ضغط الفقر- إلى بيع زوجاتهم أو رهنهن لاسيما في سنوات الأوبئة والمجاعات " . غير أن ما يحتوي عليه الزواج في حاضرنا من مفارقات لا تقل غرابة عن الماضي السحيق، ومدعاة للسخرية أكثر من الطقوس القديمة.
بعد إدخال بعض التعديلات على الطريقة التي يتم بها الزواج حاليا، صار يبدو في ظاهره زواجا حديثا، لكن في باطنه لم ينفصل قيد أنملة عن الثقافة التقليدية وعن الأعراف البائدة؛ فالزوج (الرجل) في الغالب يظل أسيرا لموروثات قديمة وعتيقة لا يستطيع الانفكاك عنها، يسعى دائما للظهور بمظهر الثابت الذي لم تزعزعه الحالة الجديدة (المتزوج)، ويحاول في كل مرة أن يقنع نفسه ويبين لمن حوله أنه لم يتغير أي شيء، رغم أن كل شيء تغير، ويتصرف بطرائق جلها خاضعة للاشعور الثقافي، يريد أن يمرر من خلالها أن هويته ظلت جامدة، وأنه بقي كما هو وسيظل كذلك في الحاضر والمستقبل. بل إن بعض الشباب كانت لهم قبل الزواج ميول نحو الانعزال عن الآخرين، وبمجرد ما يتزوج، يبدأ في الالتحام بالآخرين، ليبرهن لهم أنه لن يتغير رغم تبدل الحالة الجديدة.
وليس هذا الفعل غريبا عن تاريخ البشرية، حيث كان نمط الزواج في إسبارطة (اليونان) يتم بشكل يجعل الشاب متمسكا بحالة العزوبة دون تغير، "ففي الأيام الأولى للزواج، الشاب لا يبيت مع زوجته في الغرفة، لكن يستمر في المشاركة في الحياة الذكورية الجماعية، ولا يزور زوجته إلا في الليل، ومتسللا" ، وذلك ليبين لزملائه أنه لم يتأثر بالظروف الجديدة. هو في أحسن لحظات تاريخه الشخصي، يفضل أن ينسجم مع ما يوجد في أذهان الآخرين، وليس التطابق مع ما يراه بنفسه. إنه لا يعلم –سواء شاء أم أبى- أن تلك الخطوة (الزواج) كانت فاصلة بين حياتين، بفضلها انتقل من وضع إلى وضع، فعندما كان جزءا من كل (أسرته الأصلية)، أضحى مؤسس أسرة جديدة، فبقاؤه في الأسرة الأولى دون استقلال وانفصال، لا يعبر عن الانسجام والتكامل في أسرة واحدة، وإنما الأمر يزداد تعقيدا مع مرور الزمن، فينتج عنه وجود كل داخل كل (إمبراطورية داخل الإمبراطورية دون توزيع للسلطة).
إن عدم الوعي من لدن المتزوج بهذا التغير تكون له انعكاسات سلبية كثيرة على العلاقة الزوجية، فعلاقته بالأسرة الأولى –التي تؤطرها حمولة ثقافية معقدة- تبدو وكأنها متصلة بقضبان حديدية سميكة، غير قابلة للقطع، وأي محاولة من هذا القبيل، ينتج عنها حرب على الزوجة، لأنها –في اعتقاد الجميع- السبب الأول في هذه الدعوة إلى الاستقلال، فقد كانت الأمور فيما مضى تسير على ما يرام وبانتظام، وكان يسود الأسرة الانسجام والتماسك، حتى دخلها العنصر الأجنبي (المرأة). لذلك نجد الزوج يتجنب دائما السقوط في هذا الصراع، (رغم أنه حتمي، لأنه لا وجود لإمبراطورية داخل الإمبراطورية)، ويبذل كل ما في وسعه ليحافظ على الصورة نفسها التي لدى إخوته وأخواته ووالديه حوله، ويتفنن في التباهي بأن شيئا لم يتحول عن موضعه، وأن الأمور كلها تسير كما كانت، كمن وضع يده على كرة ثلج ويحملق يمنة ويسرة، ويتظاهر أمام أقرانه، أن جسده مختلف عن أجساد الآخرين، لديه مقاومة شديدة لدرجة الحرارة المنخفضة جدا. في حين أن الأبدان كيفما كانت تتأثر بسهولة بالبرودة القاسية، والتأقلم معها يتطلب اكتساب ميكانيزمات طبيعية تساعد الجسم على التكيف. فكما أن انفصال القارات عن بعضها البعض تم وفق عملية جيولوجية طبيعية، بفعل قوة طرد مركزية، فكذلك الأسر، لا بد لها من الانفصال، لعوامل ذات صلة بالسيادة والهيمنة. من غير الممكن أن يقبل الطرف الآخر (الزوجة) أن يخضع لسيطرة للطرف الثاني (الزوج)، في الوقت الذي يكون فيه الزوج نفسه لا زال خاضعا لسلطة الأم أو الأب أو الأخ الأكبر أو العم... فالمرأة تواجه زوجها بسؤال بسيط، لماذا تزوجت وأنت لا زلت تحت مسؤولية وسلطة الآخرين؟
إن هذا السؤال هو بداية تأزم العلاقات، وبداية التمرد على السلطة المهيمنة، لكن الأمر لا يمر دون آثار سلبية؛ فكم من نقاشات وجدال وخصومات لم يستطع الزوج أن يوفرها على نفسه، لكن الأمور قد بلغت حدا لا يمكن الاستمرار في ظله. وقد يظهر للجميع أن الرجل أقوى، من السهولة أن يفرض على المرأة كافة الأوامر، وفي كلمة واحدة يمكن أن يحسم الأمور لصالحه، ويجعلها تعلن استسلامها. غير أن المسألة ليست بهذه السهولة التي نتصورها بها، فالمرأة هي التي تفوز في النهاية، فهي "لا تنتصر بالقتال أو الشجاعة، بل بالمثابرة والثبات. وقتال الرجل أشد وأصرح، ولكنه أقل ثباتا. وهو أكثر منها استعدادا للصلح أو التسليم في سبيل السلام. وقد يزمجر في وجه زوجته أو يضربها، ولكنها تنتصر في النهاية بالتكرار والإلحاح، كما ينتصر الإعلان. وإذا كانت تعاود الكرة فلأنها لا تستطيع الإضراب، فالأنواع والشعوب والأجناس والأفراد الضعيفة غنية بالصبر والخداع. فهذا نابوليون لم يستطع حكم زوجته، مع أنه تمكن من حكم قارة" . لذلك من الأفضل ألا يشغل المرء نفسه بمعركة، واضح منذ البداية أنها خاسرة، مهما طالت المدة الزمنية، وأن أقل ما يمكن هدره فيها مجموع طاقة كان يمكن أن تضيء مدينة متوسطة بأكملها.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه بشدة حين يتعلق الأمر بهذا الموضوع بالذات، ما سبب تشبث الزوج بالأسرة الأصلية؟ وما هي دوافع تشبث أسرته الأصلية به؟
قد يقول قائل أن هذا التشبث بالأسرة لا يوجد إلا لدى أفراد المجتمع الذين لم يحصًلوا قدرا من المعرفة والعلم الكافي، لذلك هيمنت عليهم هذه العادات الثقافية البائدة، غير أن هذه الفكرة تتلاشى كلما علمنا بوجود نخب من المجتمع حققوا درجات عليا في مجال العلم والعمل، لكنهم لم يقدروا على مواجهة هذه المسلمات الثقافية التقليدية، بل إنهم أكثر الأفراد تشبثا بها والمواظبة عليها، فهم يدافعون عنها بالقدر نفسه الذي يدافعون به عن قيم الحداثة والحرية والكونية، ولا يرون في ذلك أي تناقض، لأن مفهوم الاستقلالية غائب عندهم؛ فاللاشعور الثقافي يظل حاضرا في ممارساتهم وفي تفسيرهم للعلاقة التي توجد بين الابن وأسرته الأولى. وفي هذا السياق تحديدا يقول غوستاف لوبون "فبين عالم مشهور وصانع أحذية يمكن أن توجد هوة عميقة من حيث العلاقة الفكرية، ولكن الفرق بينهما يكاد يكون منعدما أو ضئيلا بشكل كبير فيما يخص المزاج والاعتقادات" ؛ فمن الصعب إذن التخلص من هذا اللاشعور بسهولة، فالأمر يقتضي تمييزا بين ما هو عقائدي وما هو ثقافي وما هو إنساني-أخلاقي. ويزداد هذا الحنين إلى الأسرة الأصلية كلما كانت الوضعية الاقتصادية للزوج مريحة، لكن بالنسبة للموظف البسيط فالعائلة تكون بمثابة أفيون، فيغدو بالنسبة لها كمعدن لا ينضب مخزونه، لذلك ترى الأسرة الأولى في الزوجة مصدر تهديد لموردها الاقتصادي الدائم (*). وبالإضافة إلى العامل الاقتصادي، هناك عوامل أخرى، أبرزها العامل النفسي، الذي له جذور تعزى إلى الطفولة المبكرة. وسبق للعالمة النفسانية النمساوية أن نبهت إلى ضرورة تجنب الارتباط المرضي للطفل بأمه، بفعل تلك الطريقة التي تتم بها الرضاعة؛ فالأم التي ترضع طفلها كلما بكى لا تخلق لديه صراع بين الرغبة وإشباعها، فينكس ذلك سلبا على شخصيته في المستقبل، حيث يصبح شخصية غير فعالة وغير مبدعة، غير قادرة على أخذ المبادرة ومواجهة الصعاب .
وتشير الأسطورة اليونانية إلى العلاقة المتوترة بين الأم والابن، بمجرد معرفتها بأنه ينوي الاقتران بفتاة يكن لها مودة، وتبدأ الأم في تقديم توجيهات وأوامر لابنها قصد العدول عن ذلك الفعل، وبدأت باتهام الفتاة بأنها سبب ما آل إليها حالها من ضعف بعد انجذاب ابنها إلى الفتاة (بسيشيه)؛ فقد جاء في أسطورة "كيوبيد وسهام الحب العذري"، أن الإلهة فينوس قالت لابنها كيوبيد يا "بني العزيز أترى ما آل إليه حالي من هوان وسخرية بسبب تلك الفتاة التعسة التي جعلت الناس تنصرف عن عبادتي وهجروا معابدي وصرت مثار سخرية الآلهة وفارقتني الصحبة وتقتلني الوحدة... أيرضيك يا بني أن ترى دمعي وكنت بسمة العاشقين، أيرضيك حزني وكنت فرحة اللاهيين والعابدين، أيرضيك سقمي وكنت ترياق المجروحين، وأمل البائسين وهناء الملتعين وواحة المحبين. بني فيك رجائي أن تقضي على هذه المخلوقة التي سلبت مني حياتي وأشقت هنائي وأذابت قلبي(...) حمل كيوبيد كنانته العامرة بسهام من الذهب والفضة ومضى إلى قصر الملك، وقد غل قلبه وثارت نفسه وخمر عقله وعميت بصيرته، ولا هم له سوى قتل تلك المخلوقة التي كانت سببا في حزن أمه وحولت قلبها المفعم بالحب إلى جمرة من نار تنفث حقدا وكراهية" . إذا كان هذا الأمر قد وقع للآلهة، فكيف بالإنسان؟ من المحتمل جدا أن تكون كل التبريرات التي قدمتها الأم (الإلهة) زائفة، فيعود سبب هجر الناس لها إلى عدم تلبية دعواتهم، وعدم الاستجابة لطلباتهم، لا دخل للفتاة فيها. لذلك ليس غريبا أن تلاحظ الفرق الشاسع بين معاملة الأم للشاب وهو عازب، وبين ما يتبدى من قسوة في كلامها وأفعالها بعد الزواج، قصد التنبيه والإعلام بأن أي محاولة للانفلات من قبضتها سيواجه برد فعل أقوى وأشد.





خلاصة
إن استقلالية المرء ليست "عقوقا" للوالدين، فهي لا تتعارض البتة مع كونه ابنا "بارا"، إنها بحث عن الهدوء والسكينة، وسعيا نحو الحرية، وتجنبا للاصطدام والصراع، وبناء لحياة ناجحة، وتشكيلا لأسرة متوازنة قادرة لى تخطي الصعوبات والمشاكل الاجتماعية، وتساهم في تطور المجتمع قيميا وأخلاقيا وفكريا. لهذا من الضروري للدولة، من حيث هي قوة شرعية، أن تفرض عبر مؤسساتها، قوانين تتجه نحو وضع شروط جديدة للزواج، تتجاوز ما هو طبيعي (البلوغ) وما هو مادي-ديني (القوامة)؛ ويتعلق الأمر بالتركيز على الاستقلالية الفكرية، أي أن يكون الفرد واعيا بما يروم فعله ويما هو مقدم عليه، ويدرك الغاية من الزواج، بمعنى أن يتخلص من الفكرة التقليدية التي تلخص الزواج في إنتاج الأطفال، كمبدأ أول وأخير في الزواج ، ويشغل نفسه بما يتطلبه الأطفال من عناية كبيرة. لذلك على المرء أن يعلم أنه مقدم على تأسيس مجتمع مصغر، مطلوب منه أن يقوم بجميع الوظائف، من تربية وحراسة وتعليم وتحليل نفسي... ولن يتأتى ذلك إلا إذا كان متمتعا باستقلالية كاملة؛ فقد "نشأت هذه الوظيفة للأسرة، كمركز أخلاقي وموحد للمجتمع، من وضعها باعتبار أنها الوحدة المنتجة للنوع البشري" . إذ كيف يمكن لإنسان لا زال خاضعا لسلطة الأم أو الأب أن يمارس دور الأب في الوقت نفسه؟ من كان واعيا بهذه السلطة، وليست له القدرة على الاستقلال الذاتي، يؤجل الزواج حتى يصل الذي يمارسها ويمثلها إلى أرذل العمر، أو حتى تتوفاه المنية. ومن كان غير واع بها، يتحول الزواج، بالنسبة إليه، من بحث على الاستقرار إلى حرب دائمة. فإذا لم يحصل له، في البداية، الإدراك بالتغير، فقد أجبره الواقع بالإيمان به.


2- الزواج الاتفاقي-الحديث: الحب والعقد

لقد سبق لأرسطو أن بين أنه "إذا كانت الصداقة هي التي تسود بين أفراد المدينة/الدولة، فليس هناك حاجة إلى عدالة" . ومعلوم أن الصداقة تنتمي إلى مجال الأخلاق، أي أنها تحيل إلى الأفعال الإنسانية الحرة، التي تنضبط للقواعد الإلزامية؛ فكلما قام بها الإنسان بشكل إجباري فقدت معناها الحقيقي، من السخافة بمكان أن تطالب من صديقك ضرورة إبرام عقد كي تسمر صداقتكم إلى الأبد، وإلا ستفقد الصداقة مضمونها الحقيقي.كما أن العدالة تندرج ضمن مجال السياسة، أي أنها تعبر عن شيء إلزامي، تضبطه القوانين التي هي بمثابة قواعد إجبارية تنظم العلاقات بين الأفراد، لذلك ليس من التناقض أن نجد في إطار العدالة، إبرام عقود، كي لا يتراجع أحد الطرفين يوما ما عما هو متفق عليه.
وتشير "الصداقة بلغة أرسطو ومعاصريه إلى مجال من الظواهر أكثر اتساعا مما تشير إليه ألفاظ مرادفة اليوم. إذ إنها لا تشمل مودة الأصدقاء فحسب، بل تشمل أيضا حب الزوج والزوجة، وحب الوالدين والأولاد، والشعور الأخوي، بين الأشخاص الذين ينتمون إلى تنوع من العلاقات الخاصة، أعني مواطنين من المدينة نفسها" ؛ لذلك فللصداقة معنى الحب، وهو إذن من الأمور الاختيارية التي لا يمكن أينظم بقوانين وعقود، كما هو الشأن بالنسبة للعدالة. فقد "استطاع أرسطو أن يبرهن بصورة معقولة أن الصداقة تربط المدن ببعضها، ويبدو أن المشرعين يلتفتون بصورة جدية إليها أكثر مما يلتفتون إلى العدالة. لأن الاتفاق والارتباط يبدو أنه شيء يشبه الصداقة، وهذا ما يهدفون إليه بصفة خاصة، عندما يحاولون أن يستبعدوا عدوها؛ وهو الصراع الواقعي. وعندما يكون الناس أصدقاء، فإنهم لا يحتاجون إلى العدالة، لكن عندما يكونون عادلين، فإنهم يحتاجون إلى الصداقة أيضا" . إن اهتمام المشرع بها يعبر عن أهميتها كفعل أخلاقي حر، يتجاوز الضوابط الإلزامية؛ إذ لا يمكن للفرد الذي يحب أن يعتدي على ما يحب، ولا يمكن أن يعامل بالسوء من يحب، لهذا كانت الصداقة أفضل وسيلة لتنظيم المدينة /الدولة، أكثر من أية وسيلة أخرى، لأنه رغم وجود القوانين الإلزامية، فهناك من يخرقها دائما، لهذا كانت القواعد الأخلاقية أكثر فاعلية ونجاعة.
لكن حين يتعلق الأمر بالزواج يزداد ذلك غموضا وتناقضا، حيث إن الزواج من المفروض أن يكون مبنيا على الحب، كميل اختياري، نابع من القناعة الشخصية للفرد، ومن أحاسيسه تجاه الطرف الآخر، أي كقيمة أخلاقية حرة سامية. غير أن هذا المعطى ينتفي بمجرد ما يكون المحدد الأساس بين فردين ينويان الارتباط هو العقد، من حيث هو وثيقة مبرمة إلزامية تنتمي إلى مجال الإكراه والإجبار. فهل يعقل أن يجبر أحد على الحب؟ إذا كان الزواج مبنيا على الحب، يجب أن لا يبرم العقد، وإذا كان الزواج مبنيا على العقد، فليس من حق أحد الطرفين مطالبة الآخر بالحب. إذ كيف يمكن الانفلات من هذا الإحراج؟
ربما يكون الدافع الرئيسي لدى النساء إلى الإجبار، ما لدى الرجل من "ميل نحو العلاقات الحرة" . وهذا في حد ذاته يتعارض مع فكرة الحب؛ فإذا كان الرجل يميل إلى العلاقات الحرة، فهذا يعني أن الحب مجرد وهم، ولا يوجد ما يثبته واقعيا، لأنه لو كان يحب بالفعل ما ترك زوجته وصار يبحث عن أخريات. لو كان الحب حقيقة لكان لدى الإنسان البدائي، "فهذا الأخير لم يعرف من الحب إلا الشيء اليسير. إذ ليس في قاموسه لفظة تدل عليه، وإذا تزوج لم يفعل شيئا يقرب من الغزل،أكثر من الرغبة في البنين(...) ويقول لابوك Lubbock : يحتفل أهل يوربا بالزواج بلا أدنى اكتراث. ولا يفكر الرجل منهم في اتخاذ زوجة إلا بمقدار ما يفكر في انتزاع سنبلة من القمح، ولا محل للحب على الإطلاق" .
إذا افترضنا أن الزوجين يحبون بعضهما إلى درجة يمكن اعتبارهما شخصين في كيان واحد. ألا يتناقض ذلك مع مسألة الاستقلالية التي تحفظ لكل واحد منهما خصوصياته وما ينفرد به؟ هل الزواج الناجح هو الذي يذوب فيه الطرفين؟
إن "الدخول في الحياة الزوجية لا ينبغي ترجمته بالتخلي عن ما يميز شخصيتهما" ، فيجب الحفاظ على ما يختص به كل طرف، من سمات طبيعية، ومن أفكار، وطموحات، وقناعات، وعلاقاته الشخصية مع الأطراف الخارجية، وهذا ما يحدد هويته الشخصية. لكن الأمر يزداد صعوبة كلما كانت العلاقة الزوجية أكثر انسجاما، حيث يتدخل كل طرف في توجيه الآخر، وثنيه على القطع مع بعض الممارسات، والتخلي عن بعض العلاقات، فتطغى الأنانية على فكرة الاستقلالية، ويؤدي هذا الفعل إلى خصومات وحرب بينهما بسبب تدخل بعضهما في خصوصيات الآخر. "فالمرأة لا يكفيها أن تكون سيدة على بيت الرجل وقلب الرجل وإنما تريد أن تكون سيدة على عقله وأفكاره، تريد أن تستأثر بكل ذرة من اهتمامه. والرجل بالمثل يريد أن تكون كل فكرة في رأس المرأة التي يحبها هي فكرة خاصة به" . وهل من المعقول أن تكون هناك أسرار خاصة بكل زوج وهما في كيان واحد؟ يبدو من المنطقي أن كل فرد عليه أن يرسم حدود عالمه الخاص، لا يلجه أحد مهما كان قريبا، غير أن هذا الأمر أقرب إلى المثالية، وبعيد عن الواقع الحقيقي، فليس كل العلاقات خاضعة للمنطق، بل إننا عندما نكون في مجال العلاقات الإنسانية، فالعقلانية تبدو شيئا غريبا، فمن غير الممكن إقناع الطرف الآخر أنك تحبه وتعشقه، لكن مع ذلك هناك أمور خاصة بي لا دخل لك فيها. قد تصدقك الأشياء الجامدة ولن يصدقك الطرف الآخر. فالقضية تتطلب أن يكون الأطراف بدرجة عالية من الوعي، كي يتحقق جزء ضئيل من هذا الارتباط، أي إدراك الشريك أن "القبول به ليس للامتلاك، ولكن استقباله والتوجه نحوه، كما نتوجه لموضوع ما، يتمتع بحرية أساسية" ؛ بمعنى أن كل طرف من الشريكين "ينخرط من أجل منح نفسه في شخصه، ويقابل الآخر في غيريته، من أجل تشكيل كيان يحترم الفردانية والاستقلالية الجذرية لكل منهما" .
إن مبدأ الاستقلالية لا يمكن أن يتحقق إلا إذا تخلى كل شريك عن ميوله الأنانية العمياء التي تسعى للحصول على كل شيء، والاستحواذ على كامل الاهتمام؛ فكثيرا ما نجد أن "المرأة لا تحب رجلها في الحقيقة، وإنما كانت تحب نفسها وتحب غرورها وكرامتها وراحتها ولذتها، وكانت تحب فيه أن يقضي لها هذه الحاجات، ثم أصبحت تكره فيه أنه يخذلها" ؛ إنها "لا تغار ممن يحب زوجها فحسب، بل كذلك من أصدقائه، وغليونه، وصحيفته، وكتبه. ثم تسعى شيئا فشيئا إلى الفصل بينه وبين أصدقائه، فإذا لم تستطع أن تفعل ذلك غازلتهم، فتجمع بين المكر والخطيئة" . كما أن الرجل لا يحب امرأته بل يميل إلى إثبات ذاته كرجل قادر على المسؤولية، يحفظ سلالته من الزوال. لهذا نجد أن الحب ليس دائما هو الذي يسود، بل هناك أيضا "حرب دائمة بين الجنسين، وتعاون على المعاش وتناحر على السيادة" .






خلاصة
من هنا يمكن التأكيد أن الارتباط على أساس الحب يتناقض مع الارتباط على أساس العقد، فهما لا يمكن أن يجتمعا إلا إذا كان كل طرف يتمتع بدرجة عالية من الاستقلالية الفكرية، التي تسمح بالوصول إلى توافق على تشكيل أسرة كوحدة تتضمن داخلها التنوع والاختلاف، أي أن يكون كل فرد له هوية تميزه، وحرية فكرية في الانتماء إلى أي تيار، وإن كان معارضا للتيار الذي ينتمي إليه الشريك. وفي هذه الحالة يصبح العقد مجرد وثيقة قانونية تمكن أفراد الأسرة من الحصول على وثائق أخرى قصد الاستفادة من خدمات المجتمع والدولة.
غير أن هذا النمط من الزواج الحديث لازال بمثابة حلم في مجتمعاتنا، وللوصول إليه سيستغرق سنوات ضوئية. وبالتالي تبقى مفارقة الحب/العقد مطروحة حتى يتحقق الحلم. فمن كان واعيا بها قلص من حدتها، ومن لم يكن واعيا بها سيعيش أبدا الدهر بين الحفر (كما قال الشاعر).
سواء كان محدد العلاقة الزوجية شيئا إلزاميا أو شيئا اختياريا حرا، فإن الغاية يجب أن تبقى ثابتة، وأقصد أن يكون الهدف تحصيل السعادة والرفاهية، وهو ما يسميه أرسطو بالخير الأسمى. لهذا فالشريكين ما دام الارتباط بينهما إجباري، فإن أقل ما يجب أن يحققه هذا الارتباط، مقابل الإجبار، هو السكينة الروحية، والتوازن النفسي.
إن عزوف العديد من الأفراد عن الزواج، يعود بالدرجة الأولى إلى كون الزواج علاقة إلزامية تهدد الاستقلالية الفكرية للفرد. بالإضافة إلى ما أشرنا إليه في البداية، أي وجود مكبلات ثقافية عتيقة، تجبر الفرد على الخضوع للأسرة الأولى، ما يسبب الكثير من المشاكل الاجتماعية والنفسية للمتزوجين.
وليس في هذا المقال ما يدعو إلى الزواج الحر.


لائحة المراجع
بالعربية:
- ويل ديورانت، مباهج الفلسفة، ج. 1، ترجمة أحمد فؤاد الأهواني، تقديم إبراهيم بيومي مدكور و سعيد توفيف، المركز القومي للترجمة، القاهرة، الطبعة الثانية، 2016.
- ميلاني كلاين، التحليل النفسي للأطفال، ترجمة عبد الغني الديدي، دار الفكر اللبناني-لبنان
- حسن عبد الغفار، الأساطير الإغريقية، دار مشارق للنشر والتوزيع، الجيزة- مصر، الطبعة الأولى 2009.
- ليو ثتراوس و جوزيف كروبسي، تاريخ الفلسفة السياسية، ج1، ترجمة محمود سيد أحمد، مراجعة وتقديم إمام عبد الفتاح إمام، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة-مصر، الطبعة الأولى 2005.
- مصطفى محمود، في الحب والحياة، دار المعارف القاهرة-مصر، الطبعة السادسة (بدون تاريخ).

باللغة الأجنبية:
- Aristote, Ethique à Nicomaque, traduction, notes et bibliographie par Richard Bodéus, le monde de philosophie, éd. Flammarion, Paris, 2008.
- Gustave le Bon, Psychologie des foules, P.U.F, Paris 1971.
- Martin Heidegger, l Etre et le Temps, trad. De l allemand par Rudolf Boeh et Alphonse de Waelhens, éd. Gallimard 1964.



المقالات:
- خالد حسين محمود، "الخلافات الزوجية بالمغرب الأدنى خلال العصرين الفاطمي والزيري 909-1148"، ضمن مجلة عصور الجديدة، عدد، ربيع 2014.
- François de Sigly, "Gagner sa place: la conquête de l autonomie des femmes dans la famille", In Revue internationale d action communautaire, N. 18, automne 1987.
- Gaston Candelier, "A propos de l incapacité de contracter mariage(canon 1095)", In Revue Théologique de Louvain, N. 16, Année 1985.
- Gaston Candelier, "Mariage et maturité", in Revue théologique de Louvain, année 2000, N. 31-2.
- Claude Meillier, "une coutume hiérogamique à Sparte?", in Revue des Etudes Grecques, tom 97, Année 1984.
- Eric Mension-Rigan, "Louis Marie-Victoire, le droit de cuissage, France 1860-1930", in Revue Vingtième siècle, Revue d histoire, N. 44, 1994.
- Eliane Rothier- Bautzer, "une heuristique de l autonomie", in Revue Quarderni, année 1996, N. 28.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 102-Al-Baqarah


.. 103-Al-Baqarah




.. 104-Al-Baqarah


.. وحدة 8200 الإسرائيلية تجند العملاء وتزرع الفتنة الطائفية في




.. رفع علم حركة -حباد- اليهودية أثناء الهجوم على المعتصمين في ج