الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في الفواجع … شعبُنا على كأس ماء بارد

فاطمة ناعوت

2020 / 3 / 21
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لشعبنا المصريّ طبيعةٌ شديدةُ التفرّد. كتالوجٌ استثنائيّ: نظامُه فوضويٌّ، وفوضاه نظامٌ. نسيجٌ غنيٌّ من خيوط متناقضة؛ قلّما تجتمعُ في قماشة واحدة. فإن اجتمعت كان الغزلُ عجائبيًّا يحمل خاتم: "صنع في مصر”. خيطُ عبقريةٍ إلى جوار خيط فهلوة، خيطُ تعصُّبٍ إلى جوار خيط شهامة، خيطُ إتقانٍ وفنٍّ إلى جوار خيطِ استسهال وفوضى. نسيجٌ مُحيِّرٌ، لا كيمياءَ له. "كلّ حاجة وعكسها". نضحكُ في الكوارث ونبكي في المباهج ونسخرُ من النوازل، وننسج أبدعَ النكات على ما يُبكي من فواجع. مِزاجٌ متغيّر متبدّل زئبقيّ سيّالٌ، لا تستطيع تأطيرَه أو تقنينه. لكن الثابتَ والمؤكدَ هو أننا نتوحّد في لحظات العُسر ونلتحمُ في لحظات المحن، ونتآزر في الجائحات والفواجع. ترى المسلمَ يمازحُ المسيحيَّ ويطلق عليه النكات، وتجد المسيحيَّ يمازحُ المسلم ويطلق عليه النكات؛ ولكن حين تقعُ جريمةٌ إرهابيةٌ في كنيسة، يهرعُ المسلمون لحمايتها، وحين تقعُ فاجعة لأسرة مسلمة، تجد المسيحيين هم السند والعون. في حروبنا يختلطُ الدمُ المصريّ المسفوحُ على تراب الوطن، فلا تميّز عقيدتُه. وفي الثورات تتعانقُ يدٌ تحمل الإنجيل ويد تحمل القرآن. إعصار "التنين" المخيف الذي ضرب مصر قبل أسبوع، كشف عن معدننا النبيل في ألف مشهد ومشهد سجّلته عدساتُ الزمان ليُدوّن في دفتر تاريخنا الطيب. شبابنا النبيل خرج ليساعد المحتجزين في الطرقات، وفتحت المساجدُ والكنائسُ أبوابَها للعالقين والمسافرين. في المحن والفواجع والأزمات، تتتوارى الطائفيةُ والعنصرية ويتجلّى التحضُّر المصريُّ النبيل. وهو ما أراهن عليه في الأيام المقبلة؛ حتى تمرَّ عاصفة فيروس كورونا القاتل، بإذن الله.
في مثل هذه الأيام قبل ثمان سنوات، ظهر هذا المعدن النبيل يوم رحيل رجل صالح اجتمع على حبّه شعبُ مصر بكامله. قداسة البابا شنودة الثالث رحمه الله، الرجل الوطني النبيل الذي أحبَّ مصرَ وشعبَها، فأحبَّته مصرُ وشعبُها. غَداة رحيله، في 17 مارس 2012، فوجئت بمديرة منزلي "أم محمد"، تدخل بيتي باكيةً في ثوب الحداد. وقصّت عليّ ما جرى: في طريقها إلى بيتي، كانت تجلس في باص مدينة الرحاب جوار زميلتها التي تعمل في الحضانة. بادرتها زميلتُها: (خير يا "أم محمد"، لابسة أسود ليه بعد الشر؟) فأجابت بحزن: (البقية في حياتك في البابا، كلنا زعلنا عليه. كان راجل طيب وكل كلامه خير.) فما كان من زميلتها "أم عازر" إلا أن اجهشّت بالدمع، ثم اقتسمت مع صديقتها ثمرةَ يوسفي، كانت في يدها لفطورها. وهنا تحدث "الخلطةُ المصرية" التي لا تحدث إلا في أرض طِيبة. نصفُ الثمرة في يد تحمل صليبًا، والنصفُ الآخرُ في يد ترفعُ إصبعَ الشهادة. نصفُ ثمرة يدخل جسدًا يرتّلُ القرآن، ونصفُها الآخر يدخل جسدًا يرنّم الإنجيل. هذا هو شعبنُا المصريُّ الذي احتشد مسلمين ومسيحيين في جناز شعبيّ مهيب ليرافق قداسة البابا شنودة من الكاتدرائية المرقسية بالعباسبة، وحتى مرقده في وادي النطرون. مدراءُ المدارس المتحضّرون أوقفوا التلاميذ دقيقةً حدادًا في طابور الصباح حزنًا على الراحل العظيم، وراحوا يحكون للصغار عن المشوار الروحيّ والوطني المحترم لرمز فقدته مصرُ، لكي يعرف النشءُ تاريخَ بلادهم ويقفوا على رموزها؛ ويجعلوا منها نماذجَ طيبةً تُحتذَى. من المشاهد التي شاهدتُها وحُفرت في ذاكرتي بعد خروجنا من الكاتدرائية يوم جناز البابا شنودة: سيداتٌ محجبات وقفن في شُرفاتهن على طول شارع رمسيس في محيط الكاتدرائية. يُدلين سلالَهن بزجاجات مياه باردة ليشربَ المُشيّعون الذين احتشدوا بالآلاف في وداع قداسة البابا. تصعدُ سلالٌ بالزجاجات الفارغة، لتهبط بغيرها بزجاجات ممتلئة. واستمرت رحلةُ صعود السلال وهبوطها ساعاتٍ طوالا. كأن أولئك المسلمات الطيبات قد سمعن السيدَ المسيح، عليه وعلى أمّه السلام، يقول: "كأسُ ماءٍ بارد، لا يضيعُ أجرُه." أولئك هم المصريون الأصلاء الذين معادنُهم نقيّةٌ عصيّة على التلوث بدَنس البغضاء. خلّدتُ كثيرًا من تلك المشاهد الجميلة في مقال قديم لي بعنوان: “كأسُ ماء بارد ونصفُ ثمرة يوسفي"، في جريدة "المصري اليوم" بتاريخ 26 مارس 2012، لأسجّل على التاريخ وجها من معدننا المصري النقي.
ذاك هو المعدن الأصيل المتحضّر الذي سوف يتجلّى في أزمتنا الراهنة بإذن الله، حتى تمرّ محنة فيروس كورونا بسلام. شرفاءُ المصريين الذين سوف يلتزمون بقرارات الحكومة ويساعدون الدولة على خطّة حمايتها لنا من الخطر المحدّق، نجّانا اللهُ منه والعالمين. ويبقى: “الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن.”








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تغطية خاصة | المقاومة الإسلامية تواصل التصدي لكل محاولات الت


.. تغطية خاصة | المقاومة الإسلامية تواصل التصدي لكل محاولات الت




.. 78-Al-Aanaam


.. نشر خريطة تظهر أهداف محتملة في إيران قد تضربها إسرائيل بينها




.. تغطية خاصة | المقاومة الإسلامية في لبنان تستهدف الكريوت شمال