الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مفهوم الفكر الديني

عبدالواحد حركات

2020 / 3 / 30
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


ورقة بحثية
بعنوان :- مفهوم الفكر الديني
الباحث الأستاذ / عبدالواحد حركات
الإسكندرية – مصر 2020

تمثل تفصيلات الفكر الديني القديم في مظاهر فكرية وعوامل وآلهة وطقوس وعبادات ونقوش وتجسيديات، موضوع هذه الورقة ومبحثها، وسأبتدئ بمحاولة تحديد مفهوم الفكر الديني، والوصول إلي تعريف لهذا المصطلح يساعد على تحديده وبيانه، ويجنبنا الوقوع في مقاربات ومفارقات تحدث خلط فكري خطر.
إن مصطلح الفكر الديني مصطلح مركب من مقطعين هما: الفكر والدين، ويجذر بنا من أجل توضيح مفهوم مصطلح -الفكر الديني- أن نستوضح مفهوم مقطعيه والتعريف بهما من النواحي اللغوية والاصطلاحية، وذلك لتقريب المعنى وبيان المراد والقصد من مصطلح -الفكر الديني- وللوقوف على دلالته ومضمونه والتمكن من بيانه.
لغةً "الفكر" هو إعمال الخاطر في الشيء كما ذكره ابن المنظور في لسان العرب، والتفكر هو التأمل والاسم منه الفكر والفكرة والمصدر الفَكر بفتح الفاء، ويقول سيبويه لا يجمع الفكر ولا العلم ولا النظر، وحكى ابن دريد في جمعه أفكاراً، والفكرة: كالفكر وقد فكر في الشيء وأفكر فيه وتفكر بمعنى واحد، ورجل فكير وفيكر أي كثير الفكر، أما في الاصطلاح تقابل كلمة فكر في معجم لالاند الفلسفي كلمة "Pensee" الفرنسية وهي تشمل كل ظواهر العقل، ما هو شيء يفكر.؟ .. إنه يرتاب ، يعني يتصور، يقرر، يريد ولا يريد، ويتخيل أيضاً ويشعر، وعند ديكارت الفكر هو كل ما يتشكل فينا بحيث إننا ندركه بأنفسنا، لذا فان عنى وأراد وتخيل وكذلك شعر هي كلها هنا شيء واحد مع فكر، وبنحو عادي أكثر تقال كلمة فكر على كل الظواهر المعرفية في مقابل المشاعر والمشيئات، ويكون الفكر مرادفاً للعقل وللعاقة، والفكر بوجه عام يمثل جملة النشاط الذهني من تفكير وإرادة ووجدان وعاطفة، أي أسمى صور العمل الذهني بما فيه من تحليل وتركيب وتنسيق كما ورد تعريفه في معجم لالاند الفلسفي، وعند "مين دوبيرن" يعد الفكر هو القوة الداركة التي ترد الكثرة إلي الوحدة، والفكر يطلق على الفعل الذي تقوم به النفس عند حركتها في المعقولات، أو يطلق على المعقولات نفسها، فإن أطلق على فعل النفس فإنه يدل على النظر والتأمل، وأن أطلق على المعقولات كان مرادفاً للتصور الذهني أي حصول صورة الشيء بالذهن، ويأتي منه قول الفكر السياسي أو الحياة الفكرية أو العمل الفكري.
أما لفظ "دين" فيحمل عدة معاني متقاربة في اللغة العربية وهو لصيق للفظ التدين ولا يكاد ينفصل عنه دلالة، فإن كان الدين هو جوهر الاعتقاد فالتدين هو تمظهره ونتاج الاجتهاد في الاعتقاد، لذا لا يمكن تحديد حدود ودلالات واضحة تفصل الدين عن التدين مما يحتم علينا جمعهما تحت معنى واحد ودارستهما كموضوع متصل لا يمكن فصل أجزائه لتداخلها.
ترد كلمة "دين" في معجم لسان العرب لابن منظور والمعجم الوسيط بمعاني عدة كالقرض والجزاء والمكافأة، الحساب، الطاعة والذل والاستعباد، العادة والشأن والحال، الملك والسلطان والقهر، والورع والقرض ذو الأجل، وأصل كلمة دين مشتقة من جذر ( د- ا- ن) و فعل "دان" الثلاثي المتعد، وهو فعل قد يكون متعد بالباء أو متعد باللام أو متعد بنفسه، وتقابل كلمة"Religion" الفرنسية لفظة دين العربية، وقد أرجعها دي لاجراسي "De LaGrasserie" إلي أصل لاتيني واشتقاق من الفعل "Relier" الذي يعني رَبَطً "بالفتح" أو أَوثق "بفتح الهمزة"، في حين يؤكد روجيه باستيد "R.Bastide" أنها مشتقة من الفعل اللاتيني "Relegere" بمعنى العبادة المصحوبة بالرهبة والخشية والاحترام وتشمل كذلك قراءة الفأل والتطير، وهي تقابل كلمة (Parateresis) الإغريقية التي تدل على الاهتمام بملاحظة علامات الفأل والتطير والتنبؤ وأداء الشعائر، ويضيف أندريه لالاند "A.Laland" في معجمه الفلسفي بأن كلمة religio"" اللاتينية تعني الإحساس المصحوب بخوف وتأنيب ضمير وواجب ما تجاه الآلهة.
أما اصطلاحاً فقد صَعُبَ على العلماء والبحاث تحديد تعريف اصطلاحي دقيق للدين، فذهب علماء الاجتماع والفلاسفة وعلماء النفس والمؤرخين وعلماء الدين إلي اتجاهات عديدة ووضعت تعريفات مختلفة للدين حسب الاختصاص والرؤية، وتشعبت الدراسات فيه باعتباره موضوع إنساني متعدد الأوجه ومتطور وفق الزمان، فهو ظاهرة شمولية لا يمكن تحديدها وحصرها وكثيراً ما تتشكل وتأخذ صبغة زمانية أو مكانية، ولكثرة تلك التعريفات والآراء سنأتي على ذكر أهمها بإيجاز.
يبدو معنى الدين هو الاحترام الضميري لقاعدة، لعادة، لشعور، وهذا المعنى قد يكون الأكثر قدماً، في حين يعرض له الخطيب الروماني شيشرون "Ciceron" في كتابه القوانين بمعنى الرباط الذي يصل الإنسان بالإله وتجديد الرؤية بدقة.
كما عرف أندريه لالاند "A.Laland" الدين بأنه مؤسسة أو وضع اجتماعي يتميز بوجود طائفة من الأفراد المتحدين في الإيمان بقيمة مطلقة لا يعدلها شيء، وإقامة بعض الشعائر المنظمة وإقامة صلة بين الفرد وبين قدرة روحية تعلو الإنسان قد تعتبر منتشرة ومتعددة أو واحدة، ورأى إميل دوركهايم "E.Durkheium" أن الدين منظومة متماسكة من العقائد والطقوس المتعلقة بأشياء مقدسة، أي أشياء مفصولة محرمة، وتؤلف العقائد والطقوس بين قلوب اتباعها وتجمعهم في اطار اتحاد معنوي، وعند ناثان سونربلوم "N.Sonirblom" نجد الدين بمعنى علاقة الإنسان بما يراه مقدساً وبالقوى الفوق بشرية التي يؤمن بها لأنه يشعر بأنه خاضع لها، وتظهر هذه العلاقة بأحاسيس خاصة كالرجاء والخوف وبأعمال خاصة وطقوس كالصلاة وأداء الأوامر الخلقية "المعنوية"، ويعده هربرت سبنسر (H.Spencer) "الإيمان بقوة لا يمكن تصور نهايتها الزمانية ولا المكانية"، ويعرفه "كانت" بأنه الشعور بواجباتنا من حيث كونها قائمة على أوامر إلهية.
يضيف هنري برجسون أنه "وقفة الوثبة المبدعة التي تجلت في ظهور نوعنا، قد أوجدت مع العقل الإنساني، وفي داخله، الوظيفة الخرافية التي تخلق الأديان، فتلك هي وظيفة الدين الذي أسميناه سكونياً أو طبيعياً، وذلك هو معناه ، إن الدين هو ما يُـصلح في الكائنات الموهوبة تفكيراً، وهنا يطرأ التعلق بالحياة".
لكن التعريفات المنبثقة عن الأديان الإبراهيمية تجعل من الدين موضوع الارتباط مع الإله الخالق، فيقول الأب شاتل "Abbe Chatel" أن: "الدين هو مجموعة واجبات المخلوق نحو الخالق: واجبات الإنسان نحو الله، وواجباته نحو الجماعة، وواجباته نحو نفسه"، أما ميشيل مابير "Michel Mayer" فيعتبر الدين جملة العقائد والوصايا التي يجب أن توجهنا في سلوكنا مع الله، ومع الناس، وفي حق أنفسنا، ويؤكد بوسويه bousee"" أن هذا الموضوع الأزلي هو الله، القيوم دائماً وأبداً، الحق دائماً وأبداً، الحقيقة ذاتها دائماً وأبداً، ويعرف الدين في الفلسفة الحديثة بأنه: "جملة الإدراكات والاعتقادات والأفعال الحاصلة للنفس من جراء حبها لله، وعبادتها إياه، وطاعتها لأوامره".
كذلك نذكر أن: العلاقة بين الفكر وبين اللغة وثيقة ومتداخلة وبنيوية أيضاً، ولا يكاد يوجد حد فاصل بينهما، فالفكر يبحث في اللغة عن صور تعبر عنه، واللغة تبحث في الفكر عن فعل عقلي معادل لها، لذا نجد أن البحث في الفكر بدون لغة، أو في اللغة بدون فكر يعد مستحيلاً وخيالياً وغير مدرك، والحال شبيه بين الفكر الديني والدين والتدين، فلا يكاد يدرك الدين دون التفكر فيه، وأيضاً لا يكون لفكر الدين وجوداً من دون الدين ومن دون اقترانه بدلائل وعلامات تمثل في ظاهرها التدين، ويرسخ تعريف الإنسان أحياناً بأنه الكائن المتدين.
تاريخياً يعد مصطلح "الفكر الديني" حديث الظهور والتداول، وقد شاع في الأوساط الفكرية البحثية والثقافية في أواخر القرن العشرين وبدايات القرن الواحد والعشرين، وهو يشكل اندماج وتراكب والتصاق بين لفظتي "الفكر والدين"، ليعبر عن مدلول فكر الدين أي الفكر المختص بالدين، مضافة إليه الياء المشددة للدلالة على النسب، واستكمالاً لدمج اللفظتين، ولصقهما ليكونا لفظاً واحداً مركباً يحمل دلالة ومعنى تمثل مفهوم الترابط بين لفظتي وموضوعي – الفكر والدين- من جميع الأوجه الذهنية والحركية. فالفكر الديني هو- الفكر المختص بالدين أي الفكر الذي ينسب إلى الدين وينشغل به ويتدارسه ويعالج كل ما يتعلق به عموماً، وقد انحسر الاستخدام في البداية على دراسة الأديان الإبراهيمية – اليهودية والمسيحية والإسلام- بأسلوب فكري يتداخل فيه تاريخ الدين بطقوسه وما ورائيات معتقداته، وأصبح يمثل فلسفة دينية مختصة بدين محدد، فأصبح لليهودية فكر ديني يتداول ما تحتوي التوراة من تاريخ وأسماء ورموز ودلالات، إلي جانب ما في التلمود من شئون وأمور وطقوس، وكذلك صار للمسيحية فكر ديني انقسم بين لاهوت وناسوت أضيف إليهما ما جاء في الأناجيل وسير الرسل والقديسين والرهبان ذكوراً وإناث، وفي الإسلام تبلور الفكر الديني في الفقه وشئون العبادات واتسع ليشمل السيرة النبوية وما لحقها من تاريخ الإسلام..!
بتعمق الدراسات الأنثروبولوجية وازدياد الاهتمام بالنواحي الاجتماعية لتاريخ الأمم والشعوب السالفة "الغابرة"، شاع استخدام مصطلح الفكري للدلالة على الحياد الدينية للشعوب القديمة وتصورها للآلهة ورموزها وتجسيداتها، وكل ما يعبر عن تقديس الإنسان للماديات أو غيرها، ودلائل تعامله تجاه مقدساته وأعماله وما نتج عنها من آثار ومخلفات ودلالات متنوعة.
لذا أضحى مصطلح الفكر الديني يعبر عن كل دلائل ارتباط وعلاقة الانسان في أي زمن كان بالقوى الخفية والإله وما يشكل عنده مصدر للمقدسات التي يسبغ عليها التبجيل وتحدث عند الرهبة والخوف واللجوء والأمان، بالإضافة إلى ما يصدره عنه من تفاعل وأساليب تعامل مع تلك القوى الخفية المقدسة.


المراجع :

- أبو الفضل جمال الدين بن منظور، لسان العرب، ج1،ط3، دار صادر، 2004.
- أندريه لالاند، موسوعة لالاند الفلسفية، تعريب خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بيروت، ط2، 2001.
- بارندر جيفري، المعتقدات الدينية لدى الشعوب، ترجمة عبدالفتاح إمام، مكتبة مدبولي، ط2، القاهرة، 1996م، ص 251.
- الهاشمي طه، تاريخ الأديان وفلسفتها، مكتبة الحياة ، بيروت، 1963.
- جعفر محمد كمال، الإنسان والأديان، دار الثقافة، ط1، الدوحة، 1985.
- جميل صليبيا، المعجم الفلسفي، ج2، الدار العالمية للكتاب، بيروت، 1994.
- فراس سواح، دين الإنسان. بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني، دار علاء الدين للنشر، ط4، دمشق، 2002.
- فضيل حضري، مستويات الدين وأشكال التدين، مجلة الواحات للبحوث، الجزائر، ط 2011 العدد 11.
- محمد عبدالله دراز، الدين، بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان، مطبعة الحرية ، بيروت.
- هنري برجسون، منبعا الأخلاق والدين، ترجمة سامي الدروبر، عبدالله عبدالدائم، الهيئة المصرية العاملة للتأليف والنشر،1971.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 34 حارساً سويسرياً يؤدون قسم حماية بابا الفاتيكان


.. حديث السوشال | فتوى فتح هاتف الميت تثير جدلاً بالكويت.. وحشر




.. حديث السوشال | فتوى تثير الجدل في الكويت حول استخدام إصبع أو


.. عادات وشعوب | مجرية في عقدها التاسع تحفاظ على تقليد قرع أجرا




.. القبض على شاب حاول إطلاق النار على قس أثناء بث مباشر بالكنيس