الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يوميات الحجر (10) وجها لوجه

حكيمة لعلا
دكتورة باحثة في علم الاجتماع جامعة الحسن الثاني الدار البضاء المغرب

(Hakima Laala)

2020 / 4 / 5
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


مدينتي من عمق الصمت والسكون أناجيك، بشجون الفراق أخاطبك وكأن بيننا أميالا من المسافات وأنا في عمق أحضانك أنام وأحيا . ها أنا واقفة بين يديك، أشتاق إلى عناقك وأخاف الاقتراب منك، تنظرين إلي من فوق المباني، من فوق سطح البحر، ذاك البحر الذي كان مرتعا لي. كم تبدين رائعة الجمال في إطلالتك الصباحية ، ولكن صمتك يزداد قسوة ويزيدني تدمرا. غريب أمري كم كرهت كل تلك الأعوام الأخيرة، أحسست أن جفاءك وعجرفتك أصبحت قاتلة، حتى أضحى لي أنك نسيت أهلك ورفاق دربك. أصبح ضجيجك لا يضاهى في الصباح والمساء، كأن سكانك هم زوار دائمون لا يملون ولا يكلون من التجوال والدوران في أزقتك. أكثر مريديك يتسامرون ليلا ويتسكعون، أكثرهم، هوايتهم التسكع حتى يغالبهم النوم ليعودوا في منتصف الليل منهوكي الجسد فينامون وهم يحلمون بمقاهيك الجديدة وأحياءك الفاخرة ومحلاتك التجارية الكثيرة الازدحام. ربما أنت أيضا أتعبوك وأنهكوك، ولا ربما تمنيت آلاف المرات أن يخففوا الوطء على شوارعك وأزقتك، ربما تمنيت أن يذهبوا في رحلات أو عطل طويلة لكي تخلدي للنوم بعد طول العناء. ربما لم تتخيلي مثلي أن يأتي يوم وتحنين إلى الضجيج والصخب الذي أرهقك منذ سنوات. وها نحن نقف في صمت وجها لوجه ، لا أنت قادرة أن تقتربي مني ولا أنا قادرة أن أحضنك، لا أنت قادرة على تقبيلي ولا أنا قادرة على معانقة أشجارك أو المشي على عشبك. كيف سأقاوم لمس الأشجار، كيف سيستطيع كل هؤلاء الذين اتخذوا جدرانك وسادة لتعبهم ألا ينهاروا مرهقين عليها، كيف سيستطيع من اتخذوا أرضك أسرة للنوم لكي يعانقوك بعد تيهان طال كل النهار أن يهجروك. إن مقاهيك يتيمة بعد أن هجرها مريدوها، إن الكراسي حتما اشتاقت لأصحابها، من سيحكي لحيطانها أخبار اليوم ومغامرات الفايسبوك، إن الأزقة والدروب أصبحت مقفرة . السيارات المجنونة مركونة، ربما هي الوحيدة السعيدة بهذه العطلة الإجبارية. وأنا أيضا سأفتقد أتفه عاداتي، كل ما كنت أعتبره حقا لي، حرية لي، هل تدرين أنا سجينة الفيروس والحيطان، لن أذهب للتسكع في أزقتك أو دروبك أو أسواقك المكتظة، لن أباغث أحدا بسؤال قد لا يدري قصده أو غايته أو حتى السبب الذي دفعني لأسائله عن أمر يهمه ولا يهمني. لن أستطيع الذهاب غدا للمشي في البحر حافية القدمين. كل هاته الأشياء التي كانت تبدو لي تافهة أصبحت الآن غالية، جد غالية. كنت كعادتني أريد معاتبتك لأخبرك عن أحوالك المتدهورة ولماذا تنبطحين لكل الموجات ولكل الموضات. إن أتت من الخليج أو الشرق أو الغرب، سألتك يوما كيف تستطيعين الاغفاء في ظل هاته الغوغائية، ولكنك أمسكت عن الكلام منذ أمد بعيد، عندما ضيعوا شوارعك الرائعة واستبدلوها بهامات وقامات معمارية لا تحكي عن تاريخك العتيد، كم أكره فيك صمتك، أغلقوا كل معاقل الثقافة، كل معاقل الفن ولم تنطقي، فهل ستنطقين اليوم؟ هل ستثورين على البذخ والآفة؟ هل ستثورين يوما؟ هل ستسترخين بتعبك وإعيائك؟ ربما أدركت أن صمتك هو صمود ضد الموت والفراغ، ربما أنت صامتة لأنك ولدت من رحم الضوضاء والاختلاف، ربما أنت صامتة لأنك مرتع كل الموجات بشرقها وغربها، ربما لأنك ترفضين الإقصاء والوصم، أنت تخلقين من الجزء جزيئات وتلفيها في ثنايا الكل. فأهلا بكل غريب، فأنت نقطة عبور من حضارة إلي حضارة، أنت سيدة تربعت على عرشها من زمان لتراقب المارين والمقيمين والمتسكعين، أنت أكبر من أن تكوني واجهة ملتفة حول نفسها، أنت هي أنت والآخر والحاضر والغائب، أنت المتعدد في صفة الواحد، أنت المدينة المسافرة في الآخرين، تحومين حولهم، تحومين بهم، ترافقيهم إلى منتهاك الذي لا ينتهي. ولكن هذه المرة، الحدث مرعب، فلا تنامي، قاومي، فنحن نحتاج إليك، إلى عناقك، إلى مواساتك، قاومي، فأنا في حاجة إلى ضجيجك، إنه يعلن الحياة. ربما ولمدة طويلة كانت كل واحدة منا لها رغبة في قذف الأخرى، كان من الممكن أن يقع ذلك في لحظة غضب، ولكنك كنت مناوئة، كنت رحيمة بي. هل تدرين أنني أقف مذهولة لصمتك، لصمت شوارعك، أنا مذهولة أكثر من أمري من ذاك الرفض لنومك العميق ، لسبات البحر والملاهي والحانات والمقاهي وصوت الآذان، كل تلك الأشياء المتنافرة والمتراصة على نفس الرصيف، وقد يلتقي مصلي صلاة الصبح مع عاشق الغناء العائد من حفله المخملي أو مخمورا يصدح بالغناء أو ربما بالصياح. أسائلك كيف نام البحر بدون عشاقه، كيفت نامت أمواج الشط بدون ضجيج الموسيقى؟ كيف دب الخوف إلى أجفاننا، كيف فارقناك ليل نهار؟ ماهذا السبات العميق في مدينتي؟ مدينتي، سباتنا يعلن حبنا وحنيننا إليك، نشد عليك بقلوبنا، نحرسك بجفون عيوننا، نتطلع إلى سمائك صباحا مساء، وننشد لك: هنا نحن باقون وغدا لنا لقاء. فكل ذكرياتنا محفورة على جدرانك، حدائقك ، في الأزقة والشوارع والدروب، في الأسواق وعلى شاطئ البحر، كل ذكرياتنا وحياتنا تعيدنا إليك، فضجيجك لن يرعبني بعد فهو مصدر الحياة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السفينة -بيليم- حاملة الشعلة الأولمبية تقترب من شواطئ مرسيلي


.. بوتين يأمر بإجراء مناورات نووية ردا على احتمال إرسال -جنود م




.. السيارات الكهربائية : حرب تجارية بين الصين و أوروبا.. لكن هل


.. ماذا رشح عن اجتماع رئيسة المفوضية الأوروبية مع الرئيسين الصي




.. جاءه الرد سريعًا.. شاهد رجلا يصوب مسدسه تجاه قس داخل كنيسة و