الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ليس هناك تاريخ دون تاريخ محلي

عبد السلام انويكًة
باحث

2020 / 4 / 8
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


يصعب القفز عما كان للحوليات الفرنسية من فضل فيما حصل من تجديد لتاريخ الأوبئة ولِما هو آفات طبيعية وبشرية من قِبل باحثين ومؤرخين، من خلال ما كانت عليه هذه المدرسة من أعمال علمية وإسهامات. فضلاً عن الديمغرافيا التاريخية أيضاً عبر نتائجها خلال سنوات الخمسينات والستينات من القرن الماضي، اضافة لِما حصل حول الأوبئة من علاقة بالانتروبولوجيا التاريخية وبخاصة ما نشره "ميشيل فوكو" في هذا الاطار. ويبقى انفتاح البحث التاريخي والباحثين على زمن المجتمعات الاجتماعي أمرأ هاما، من خلال تناول قضايا اجتماعية ومقاربتها من زوايا مختلفة. ولعل لكل هذا وذاك علاقة بالديمغرافيا التاريخية التي بقدر ما وفرت معطيات كمية بشرية لفائدة مؤرخين، بقدر ما سمحت بوصف هياكل ديمغرافية والتعرف على ردود فعل تجاه وضعيات وسلوكيات خفية جعلتها أداة ضرورية لمعرفة ما ينعت بالنفسية التاريخية.
ويمكن القول علاقة بالأوبئة أن الحوليات الفرنسية كانت بدور مهم في الدفع باتجاهها وباتجاه مكوناتها، وبالتالي بروز تاريخ اجتماعي ومن ثمة تاريخ أوبئة قبل نصف قرن، لِما أقدم عليه مؤسسوها من نقاشات شملت تخصصات مجاورة في أفق توحيد العلوم الانسانية. فبإشراكهم في ورشهم ورهانهم التاريخي لمتخصصين في توجهات معرفية جمعت بين جغرافيا وسسيولوجيا واقتصاد وسياسة، كانوا وراء ما حصل من قطيعة مع مدارس تاريخية اختفى على اثرها تاريخ تقليدي قام على نخب ووقائع ومؤسسات، ليبرز مقابله تاريخ اجتماعي اهتم بكتل وهوامش ومن هنا ما حصل من دراسة لأحوال اجتماعية كما بالنسبة للأوبئة وغيرها.
وحول تاريخ الأوبئة الذي انتهت اليه جهود الحوليات الفرنسية في اطار ورش التاريخ الاجتماعي، من أوبئة مغرب القرن التاسع عشر التي تسربت عبر مراسيه الشمالية نجد طاعون 1818- 1820، وكان أقل وتدميراً ونزيفاً مقارنة بطاعون 1799- 1800 رغم أنه عَمَّر لفترة أطول من هذا الأخير. وتسجل الأبحاث أن وباء فترة نهاية عشرينات القرن التاسع عشر هذا، انحصر في بدايته بشمال البلاد وشرقها مخلفاً حوالي ألفي ضحية بطنجة لوحدها خلال سنة 1818، لدرجة حديث على أنه أتى خلال مدة تفشيه على خمس ساكنة هذه المدينة.
وبجوار طنجة بشمال البلاد دائما، بلغ عدد وفيات مدينة تطوان يومياً بسبب طاعون 1818 حوالي عشرين حالة، ليبلغ دروته في ربيع 1919 بحيث قدر عدد الوفيات بالمئات خلال شهر مارس من السنة نفسها. وضع رهيب جعل وكيل الصحة البريطاني بطنجة يقول بعد انتقال الوباء الى داخل البلاد، أن الناس بفاس كانوا منهمكين في دفن موتاهم من طلوع الشمس الى غروبها. وفي هذا الاطار ورد أن فاس كانت تفقد خلال أبريل من الفترة نفسها حوالي أربعمائة ضحية يومياً، وأن الوباء لم يظهر بغرب البلاد جنوب أبي رقراق إلا في نهاية هذه السنة، قبل أن يصل مراكش التي بلغ عدد وفياتها خلال فبراير 1820 حوالي المائتين يومياً، ما ارتفع في شهر أبريل الى حوالي تسعمائة قتيل مسجلاً بذلك رقماً قياسياً.
وبما أن الوفيات تنشط بسبب المجاعة وتتواصل بفعل أوبئة تنقض على الناس بعد اصابتهم بالهزال، فإن ما ميز طاعون 1818- 1820 كونه جاء بعد جفاف لمدة سنتين جعل وضع البلاد الاجتماعي والاقتصادي أكثر حدة، بخلاف طاعون 1799- 1800 الذي لم يصحبه خصاص في الأقوات ولم يفقد فيه المخزن موارد جبايته. وبقدر ما كان من وقع وتأثير وآثار مادية ونفسية معبرة لطاعون 1820 على مخزن مولاي سليمان، بقدر ما نظر الناس لِما أصاب البلاد والعباد من وباء معتبرين اياه عقاباً إلاهياً.
وكان تسرب وباء 1818- 1820 للمغرب انطلاقاً من الشمال، اثر قدوم ولدي مولاي سليمان من الحج ونزولهما بطنجة عبر مركب حملهما رفقة حجاج وتجار من الاسكندرية، بحيث تفشى الوباء في طنجة 1818 رغم كل جهود الوقاية قبل انتقاله الى فاس ومكناس وباقي جهات البلاد. فحول ظهور الوباء بطنجة أورد صاحب"الجيش العرمرم":" وفي هذا العام قدم ولدا السلطان (مولاي سليمان) من حجهما ونزلا بمرسى طنجة، وكان السلطان وجه لهما مركباً من مراكب الانجليز تحملهما من الاسكندرية مع كل ما تعلق بهما من اصحابهما وخدامهما والتجار الموجهين معهما. ولما نزلا بطنجة ظهر الوباء مصحوبا مع من معهما، ثم شاع في المغرب خصوصا تلك السواحل ثم في جميع الحواضر والبوادي الى آخر أربعة وثلاثين ومائتين وألف." أما صاحب "الاستقصا" فقد أورد حول تفشي الوباء بالبلاد قائلاً : "ولما نزلوا بطنجة (يقصد ولدي مولاي سليمان)، حدث الوباء ومنها شاع في الحواضر والبوادي الى أن بلغ فاساً ومكناسة في بقية العام. ولما دخلت سنة أربع وثلاثين ومائتين وألف شاع الوباء وكثر في بلاد الغرب .. ثم زاد الأمر وتفاحش حتى أصاب الناس منه أمر عظيم."
وحول الوباء وما كانت عليه هذه الفترة من تدابير وقاية، من المفيد الوقوف على موقع بذاكرة ذات صلة، يتعلق الأمر بجزيرة مقابلة لمدينة الصويرة عرفت بجزيرة الحجر الصحي زمن أوبئة القرن التاسع عشر. جزيرة بحسب ما تذكره الرواية كانت تحتوي منذ فترة السلطان محمد بن عبد الله، على مدافع تمت إزالتها من قِبل الفرنسيين سنة 1844 لَمَّا أجبرت القوى الأروبية المغرب وألزمته بإخضاع حجاجه العائدين للحجر الصحي. هكذا تحولت الجزيرة الى مكان حجر صحي كان ينزل فيه حجاج عائدون من مكة، فعندما كانت لا تسجل أية حالة وفاة على مثن سفينتهم أثناء العبور ولا أية حالة وباء، فقد كان يسمح للسفينة بالرسو على البر ونزولهم واستقبالهم من قبل ذويهم مع ما كان يحصل من حفل وغناء، واذا حصل تسجيل ضرر بسبب وباء ما على مثن السفينة، فقد كان الحجاج يخضعون لحجر صحي بهذه الجزيرة لمدة أسبوعين.
إن الحديث عن أوبئة مغرب القرن التاسع عشر كما بالنسبة لوباء 1818- 1828، هو استحضار لمحطات من زمن بلادنا الاجتماعي، وما الأوبئة وما تعرضت له بلادنا من آفات عبر دورات سوى قضايا ظلت مغمورة لفترة طويلة، علما أنها من مكونات زمننا المحورية لفهم ماضينا. ولعل ورش تاريخنا الاجتماعي لايزال بدون التفات وانصات علمي رزين كاف، من شأنه توسيع وعاء تراكمات في هذا المجال وجعل خزانتنا التاريخية بما يفيد من نصوص. فالأعمال العلمية التاريخية في هذا الباب تبقى محسوبة على رؤوس أصابع، وفي مقدمتها ما أسهم به كل من محمد الأمين البزاز والحسين بولقطيب رحمهما الله كذا تريكي وبوجمعة رويان .. أيضاً.
والى جانب قضايا عامة من تاريخنا وتاريخ أزماتنا الاجتماعية تحديداً، كما بالنسبة للأوبئة وما تعرضت له بلادنا من آفات في دورات على امتداد قرون. يبقى من المهم معاً انفتاح البحث والباحثين على تاريخ القرب لرصد مت كان بأثر على البلاد والعباد من ظواهر وأزمات، لِما خلفته هنا وهناك بمدن وبوادي مغربية من نزيف وآثار نفسية وسلوكات وردود فعل لا يعرف عنها إلا القليل من نتف واشارات.
وفي هذا الاطار ولجعل ورش القرب في البحث حقيقة، ومن خلاله بلوغ رهان تاريخ شامل لبلادنا على مستوى قضايا ومحاور كبرى، لابد من تحفيز عمل البحث التاريخي في بعده المحلي وسياقه المنوغرافي، وتثمين كل ما جهد وعمل بحثي محلي، من شأنه بلوغ قيمة مضافة عبر تنقيب وتوثيق وتحليل علماً أنه كما يقول "ميشيل فوكو" ليس هناك تاريخ إلا التاريخ المحلي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إدارة بايدن وملف حجب تطبيق -تيك توك-.. تناقضات وتضارب في الق


.. إدارة جامعة كولومبيا الأمريكية تهمل الطلاب المعتصمين فيها قب




.. حماس.. تناقض في خطاب الجناحين السياسي والعسكري ينعكس سلبا عل


.. حزب الله.. إسرائيل لم تقض على نصف قادتنا




.. وفد أمريكي يجري مباحثات في نيامي بشأن سحب القوات الأمريكية م