الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


على قيد الرَّفض

علا شيب الدين

2020 / 4 / 14
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


أن تبقى على قيد الرفض، يعني أن تبقى على قيد الحُلم. أن ترفض، يعني أن تكون موجودًا. ليس الرفض هنا هو ذاك الذي يفضي إلى السلبية الرديئة، وهو طبعًا لا يفضي إلى العدم.

يمكن للرفض هنا أن يكون دربًا طويلًا مذروًا بالرياح، ويمكنه أن يكون إبحارًا في النفس، لكن هذا الإبحار ليس سلسًا، كما نظن، كونه ينطوي على مساءَلة شائكة ومستمرة للنفس بدلًا من تهدئتها. حين نجهل قيمة أنفسنا -مثلًا- نعرّضها للاستغلال. هكذا، قد ننزع إلى تأنيب مَن كانوا سببًا في وجودنا في هذه الحياة، كونهم لم ينتبهوا إلى ضرورة أن يكون الإنسان الفرد واثقًا في نفسه (من دون تطرّف ولا غلوّ)، بل رافضًا، عارفًا قيمة الذات، غير مبذِّر لها كيفما اتّفَق، وغير ميّال إلى تحطيمها أو جَلْدها واضطهادها. إنما الأهم الآن، وفي كل آن، هو التوقف عن تدمير ذواتنا الطيّبة. طيبة القلب -على سبيل المثال- ليست سذاجة كما يُظن أحيانًا. إنها من أنبل ما يمكن للإنسان الفرد أن يمتلكه. ما يحتاج إليه كل فرد منّا، ليس الاعتراف فحسب، بل الاحترام أيضًا. إنك تدفع بشخص ما إلى أن يصير مجرمًا ربما، حينما لا تحترم ذاته وكينونته، بل قد تخلّصه من شروره؛ إذا ما احترمته بوصفه ذاتًا وكينونة، وربما تدفع به صوب الأفق والنجاح والخير والجمال. الاحترام يعني ألا نزوّر الاستجابة للحياة بما يتلاءم وشروطنا أو طوق أفكارنا المكرورة.

أن يرفض الإنسان الفرد، يعني أن ينشل ذاته من العمومية العمياء. والرفض بالنسبة إلى رافض حقيقي، ليس نهائيًا، بل يجيد مجادلة الأصول والقطعيات والوثوقيات. معنى الإنسان الفرد يكمن غالبًا في الرفض، لا في الرضى ولا في التسليم. لكل فرد معنى، وعليه أن يدافع عنه حتى الرمق الأخير، في أغوار الروح. يُعادى الفرد الحر عادةً من كل حدب وصوب، لأن جوهره لا يسمح له بالمساومة. إنه كمثل زوبعة. الرافض الحقيقي لا يتنازل ولا يساوم. الدكتاتور -أيضًا- لا يتنازل، لكن شتّان بين مَن لا يتنازل من منطلق حر، وبين من لا يتنازل استبدادًا وغلوًا وعجرفةً.

أن نرفض، يعني أن نناقش بدهيات السلطة، كل سلطة، وأن نرى الأشياء كما هي، لا وفق القالب الذي تريدنا السلطة أن نراها ضمنه، فأحلامنا وما نريده أعلى وأوسع بكثير من ضيق ما يُراد أسْرنا فيه. لعل أشدّ ما يدفع السلطة إلى المزيد من العنف هو إحساسها بأن معاييرها في الخير والشر، في الجيد والسيئ، قد جرى التمرّد عليها من جهة ذوات حرة. هكذا تحسّ بكيانها وقد بدأ يتخلخل. إن عصيان معايير السلطة هو إثم يفوق بكثير إثم ارتكاب الجرائم، بالنسبة إلى سلطة من شأنها إفراز الجرائم. يضير سلطة كهذه أن يشعر الفرد بفرادته، وأن يكون منتجًا ومثمرًا وقادرًا ومزهرًا. يمكن هنا التطرّق إلى “سحر” السلطة المهيمن، إلى درجة تصعب معها المناقشة لدى مَن لا يرفضون، وبالتالي يُصار إلى الانصياع التام لها ولأوامرها، دون قيد أو شرط؛ لذا فإن جواسيس السلطة وعملاءها وأدواتها، هم عادةً من أولئك الذين لا يرفضون، ولا يتمتعون بالحس النقدي أو بالشك الفلسفيّ، وليس لديهم أدنى مشكلة في أذيّة الآخر، بل في إعدام وجوده؛ إذا ما كان ذلك يصبّ في مصلحة السلطة ورضاها وعفوها ومغفرتها.

أن نبقى على قيد الرفض يعني أن نبدِّد المجاهيل واحدًا تلو الآخر. أن “يحافظ” كلٌّ منّا على فرادته، يعني حماية هذه الفرادة أو تلك من الانقراض (فضيلة الفرد؛ فرديّته)، لأن الرفض هو بمثابة نبشٍ دائم لقدراتٍ كامنة.

في كتابه المهم، الذي يبحث في سيكولوجية الأخلاق: (الإنسان من أجل ذاته)، كتبَ إريك فروم يقول: “إن الوجود وكشف القدرات الخاصة لكائن حي هما الشيء الواحد نفسه”. “إن هدف حياة الإنسان يجب أن يُفهَم على أنه كشف قدراته، وفقًا لقوانين طبيعته”.

أن يكون الجهاد من أجل هذه الدنيا، يعني أن نرفض، أن نبذر ذواتنا مجدَّدًا في حقول الحياة، أن ننتج حيواتنا. نحن إمكانات لا حصر لها، وعلينا أن ننتج باستمرار إمكاناتنا، حتى في عزّ اليأس. بالمناسبة، اليأس ليس سيئًا إلى هذا الحد، إذ قد يثور على نفسه في لحظة اختناقٍ ما، لينبثق عنه نقيضه اللدود الذي يسميه الناس عادةً “الأمل” (الإرادة السورية الحرة أقوى من الإرادة الدولية، شرط ألا يصيبها اليأس). هكذا كتب أحد الأحرار السوريين على صفحته في (فيسبوك) ذات مرة.

إن فكرة كرامة الإنسان الفرد، يتحداها اقتراح قبول العجز والاستكانة والتفاهة التي تثوي تحت تكيف لا يحترم الفرادة الرافضة. وإن اقتراحًا من قبيل “التعايش مع العنف الذي لا حلّ له ولا مهرب منه”، على سبيل التكيف، ينبغي ألا يُوقف حسّ القتال فينا. لا القتال في معنى القتل، بل في معنى الدفاع عن الوجود الحر، وعن المعنى الحر المميز لكل فرد منّا. إن المِحَن التي نمرّ بها، غالبًا ما تُظهر لنا إلى أي مدى يستطيع جوهرنا أن يحتمل ويحتمل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ريبورتاج: مزارعون في الهند مصممون على إلحاق الهزيمة بالحزب ا


.. السباق إلى البيت الأبيض: حظوظ ترامب | #الظهيرة




.. ماهو التوسع الذي تتطلع إليه إسرائيل حالياً؟ وهل يتخطى حدود ا


.. ترامب: لم يتعرض أي مرشح للرئاسة لما أواجهه الآن | #الظهيرة




.. -كهرباء أوكرانيا- في مرمى روسيا.. هجوم ضخم بالصواريخ | #الظه