الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اليوم جان بول سارتر وتهافت الحضور

قاسم المحبشي
كاتب

(Qasem Abed)

2020 / 4 / 15
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


من غرائب الصدف أن يحضر اليوم فيلسوف الوجود والعدم جان بول سارتر في فضاء الفكر الثقافة العربية عبر ثلاثة مواقف متناقضة ففي صباح اليوم قرأت مقالا للصديق العزيز الناقد الأدبي شهاب القاضي عن مقدمة كتاب الروائي الفرنسي بول نيزان عن (عدن العربية) التي كتبها جان بول سارتر في ستينيات القرن الماضي إذ جاء فيها" زار عدن ( الرجل الذي قال لا حتى النهاية) ناهيك عن انه يحمل في قلبه كل مرارة العالم. اتهمته عناصر ستالينية في الحزب الشيوعي الفرنسي بخيانة الحزب وذلك لأنه تمرد على الكثير من الاطروحات الستالينية أنداك، فلفقت له تهمة الاتصال بوزارة الداخلية الفرنسية، حينها اطبقت عليه مؤسسات الحزب وحكمت عليه بالغياب سماها سارتر "بمؤامرة الصمت" وذلك لأن الشيوعيين -حسب تعبير سارتر نفسه-(لا يؤمنون بالجحيم ولكن يؤمنون بالعدم )، فلم تطبع كتبه ولم يعد يذكر في الأوساط الثقافية الفرنسية الى ان بادر سارتر ، وقد كان صديقا له، بطبعها مبتدئا بكتاب (عدن ، العربية) في عام 1960 وقد صدر عن دار ماسبيرو -باريس، وقد ترجم هذا الكتاب الى اللغة العربية من قبل الاستاذ القدير بشير خان ، وراجعه الشاعر العراقي الكبير سعدي يوسف وصدر عن دار الهمداني للطباعة والنشر 1984.اكتشف بول نيزان عبر التجربة المباشرة، ان الشرق لم يعد ارض الأحلام ، والفضائل او الأساطير والحكايات العجيبة.. لكنه لما وصل اليها وجد عدن " تهمهم مثل حيوان كثيف الشعر ، كبير الحجم ، قد مرغ في التراب واصبح مغطى بالذباب " انه اللاتجانس الديمغرافي : بيض اوربيون ، هندوس ، صومال ، فرس واهالي حفاة وفي الإتجاه المقابل هناك حركة عظيمة في الميناء المفتوح الكبير ، بواخر البينو، الخطوط البحرية وبواخر الشحن العتيقة ، وناقلات النفط، وقوارب بمحركات والقوارب العربية والبضائع في مخازن المعلا مكدسة حتى السقوف بأكياس السكر والارز وبالات جلود الماعز وبراميل الزيت ، ولربما تحفل هذه المظاهر بخطاب تبريري ، مثلا يمكن ان نسمي هذه الاغراض بالحرب والتجارة والترانزيت وبالاقتصاد الحر الذي يحجب وهما ما تنطوي عليه السياسة الاستعمارية ويخفي اهدافها .لم يغادر بول نيزان عدن أثناء اقامته فيها إلا باتجاه لحج وجيبوتي ... في لحج هاله ان يرى تلك الوجوه الشاحبة في منطقة مليئة بأشجار النخيل والجوافة والباباي والرمان والموز وتغطيها المسطحات الخضراء مما حدا به ان يقول "سيكون من المستحيل العثور على اناس محطمين أكثر من رعايا سلطان لحج " واردف قائلا " ايها الشرق ...مرة اخرى لا اجد في ظلال نخيلك المحبب كثيرا للشعراء سوى مزيد من البؤس الانساني "... وفي جيبوتي يكتشف بول نيزان ان الحياة فيها هي ذات الحياة في عدن ولكنها أكثر صخبا في اجوائها بصيحات اوروبا الجنوبية كاليونانيين والفرنسيين والايطاليين. هناك في عدن النوادي مغلقة ولايمكنك ان تنظر من خلال النوافذ وترى ذلك الذي يجري بداخلها اما في جيبوتي فتجد المقاهي والرجال يتحدثون عن النساء في حي الضوء الاحمر حيث تنطلق الفتيات في جنح الظلام من كل باب مثل مجنونات تحررن من سحر أبقاهن في الظلام ويقفزن امام السيارة المضاءة مصابيحها ممسكات بالأيدي ومناديات لبعضهن البعض بأصوات المغنيات الحادة ..انهن فتيات طويلات القامة وصغيرات جدا وبشرتهن المزيتة تلمع في ضوء أنوار السيارة ،وليس عليك كما يقول بول نيزان الا ان ترحل من هنا او تترك نفسك تتعرض للإمتصاص وتغرق في موجات حب جارف في ليل حار .يخلص بول نيزان الى انه انما سافر بعيدا فقط ليعود في الأخير إلى الغصن الذي اخافه كثيرا ، لقد وقف على الظلال المرعبة نفسها والتي كان قد هرب منها. يقول بول نيزان " تلك هي جائزة النزول في ميناء تلو الميناء ، هناك نوع فعال من السفر وهو السفر إلى الناس، وهذا ما كان يجب علي أن اعرفه ، والنهاية الطبيعية للسفر هي العودة وكل قيمة السفر تكمن في يومه الأخير" لقد اصبح يفكر في اوروبا بطريقة مغايرة ؛ ليست اوروبا جثة هامدة ، انها جذع شجرة باتت لها جذور عرضية فيما حولها مثل شجرة تين البنغال، لابد من القضاء على الجذع اولا، لأن الجميع يموتون تحت ظلال اوراقه.يقول بول نيزان " لقد علمتني عدن أن علي ان افهم كل شيء في بلدي الأصل " ويتساءل "هل كان علي ان اتوجه الى عدن لأكتشف باريس ، هناك كثيرون قد ابصروها وهم يتطلعون الى اعماق نهر السين " ومع ذلك يقول بول نيزان " لست بآسف ، لان هذه الحقائق واجهتني وجها لوجه وكشفت لي من خلال ضوء باهر يجعلني موقنا بانني لن افقدها ابدا "... هكذا سجل لنا بول نيزان من خلال كتابه "عدن،العربية" وقائع رحلته من باريس الى عدن وانطباعاته التي بمكن النظر اليها على انها وثيقة أدبية هامة رصدت الحياة في عدن في فترة مبكرة من القرن المنصرم . وخلاصة ما قاله سارتر عن عدن المستعمرة البريطانية في عشرينيات القرن الماضي أو عدن بول نيزان هو ( أن عدن صورة مصغرة عن أوروبا لا تتميز عنها إلا بطقسها الحار القاتل ). وبوصفي متخصصا في فلسفة سارتر فقد لفت نظر المقال من أول وهلة وحرصت على اعادة توثيقه في مذكرتي وإعادة نشره في صفحتي. وفي ذات السياق السارتري ولكن من وجهة نظر نقدية مختلفة يحضر سارتر الليلة في صفحة الصديق الدكتور حاتم الجوهري الذي ترجم جان بول سارتر تأملات في المسألة اليهودية ونشره عن دار الروافد في القاهرة 2016م وقد أهداني مشكورًا نسخة من كتابه في مناسبة سابقة ولكنني لم أتمكن من قراءته لانشغالات كثيرة أخرى وكورونا . اليوم نشر الدكتور حاتم في صفحته مقالا كتبته الباحثة نضال ممدوح حول حول ترجمة كتاب سارتر الذي ظل محجوبا عن العربية لسبعين عاما ونال جائزة الدولة في العلوم الاجتماعية جاء فيه: " وعن تأخر ترجمة الكتاب طوال هذه الفترة. وهل تصنف في خانة "المواءمات". يقول الجوهري: "نعم الأمر يصب في فكرة الموائمات وأزمة اختيارات النخب العربية المتناقضة للغاية؛ كل تيار فكري لديه اختياراته الخاصة وتصوره الذي يرفض سواه، وهذه الأزمة حاضرة الآن: الماركسيون العرب يرفضون نسقا لا يستحضر معركة مع الإخوان تعيد إنتاج صراع العلمانية والدين، والناصريون القوميون يرفضون نسقا لا يصلح الأنظمة القائمة ويستأنف ما انقطع منذ نهاية الستينيات، والليبراليون العرب يتفهمون دورهم جيدا ولا يسعون لنسق إلا وسوي الدفاع عن مصالحهم المادية في كل العصور والأنظمة، والإخوان يريدون نسقا مقدسا يعلن حربا ضد الجميع الكفار، والحل لابد سيكون من خارج هؤلاء.ويذهب الباحث إلي أن سارتر وظف فلسفته لصالح تأكيد أوهام صهيونية، بذَرِيعة الاضطهاد الذي لاقاه اليهود فى تاريخ العالم. وقد تناسى أن الذين اضطهدوا اليهود هم أنفسهم الدول الأوربية التي استعمرت الشعوب العربية واغتصبت أراضيها وثرواتها، وأن التخلص من عقدة الذنب الأوربي تجاه اليهود ليس حله أن يمكنوهم من الأراضي العربية تحت حجج واهية وأساطير لاهوتية مزيفة، وإنما بأن يعتذروا لهم عن تلك المحارق المزعومة وأن يعوضوهم بالأموال والاستقرار وعدم الاحتقار عن المهانة التي لحقت بهم ولم يكن للعرب فيها ذنب لا من قريب ولا من بعيد! أما أن يعتبر أن اغتصاب الأرض الفلسطينية والعنف الذي مارسه الصهاينة مع أصحاب الأرض الأصليين هو وسيلة للتحرر وخلق الذات اليهودية، فهذا هو مكمن التناقض الشديد ويرى حاتم الجوهري أن من أهم أسس سارتر فى مقاربته لوجود دولة إسرائيل فى فلسفته "الصهيونية الوجودية"، هو التعامل مع المشكلة كواقع موجود بالفعل وأمرا مسلما به، بغض النظر عن تاريخه، مع تهميش أو إنكار ما نتج عنه من مشاكل تخص وجود الشعب الفلسطينى الذى قام سارتر باضطهاده ونفيه ومصادرة حريته الوجودية؛ مساويا بين المعتدى والمعتدى عليه، حيث يرى سارتر النزاع العربي-الإسرائيلي صراعا بين مضطهدين يصعب حله، إذ يستوجب –حسب رأيه- التسليم بحقيقتين متضادتين: فمن ناحية لابد من كيان وطني لضحايا اللاسامية القدامي، ومن ناحية أخرى، لابد من تمكين الفلسطينيين من حقهم في الرجوع إلي الوطن الأم، وفى سعيه لدعم حرية اليهودى صاحب الصورة النمطية فى أوربا، يرى سارتر أن وجود الكيان الصهيوني في فلسطين معطى تاريخي لا يمكن الطعن فيه، وأن المشكل الذي ما زال معلقًا هو وجود اللاجئين الفلسطينيين، لا وجود الشعب الفلسطيني" وأشارت الباحثة نضال ممدوح إلى زيارة سارتر لمصر في مارس 1967 والتي إستمرت لسبعة عشر يوما. والتي مازال المثقفين المصريين يعتبرونها تاريخية وينشرون صورها الأبيض وأسود من حين إلي آخر علي مواقع التواصل الإجتماعي. كان سارتر حديث الساعة في الأوساط الثقافية حينها. هؤلاء المثقفون أنفسهم الذين إحتفوا بسارتر أغفلو وتفادوا طوال سبعين عاما نقل مؤلفه تأملات في المسألة اليهودية" الصادر في عام 4491 إلي العربية. وظل هكذا لمدة سبعين عام حتي ترجمه مؤخرا الباحث الدكتور حاتم الجوهري. وصدر عن دار روافد للنشر والتوزيع . ونال عنه جائزة الدولة التشجيعية للعام 2017" ولا أخفيكم سرًا بانني تفاجئت من موقف سارتر المتناقض مع فلسفته التحررية حينما تناول المسألة اليهودية إذ عرف عنه مساندته لحركات التحرر الوطنية. حتي أنه كان قد اصطحب زوجته "سيمون دي بوفوار"إلي كوبا 1960 وهناك قابلا جيفارا وكاسترو عقب عام واحد من قيام الثورة الكوبية. ورغم جنسيته الفرنسية إلا أن "جان بول سارتر" انحاز لقضية الشعب الجزائري وحقه في الإستقلال ورحيل المستعمر الفرنسي عن أراضيه. فما الذي يفسر موقفه المتناقض أو المفارقة الغامضة بحسب الباحثة نضال المتأتي من انحيازه الشديد للصهيونية وتبريره لعدوان 1967 حيث أعلن أثناء زيارته إلى تل أبيب قائلا: إن إسرائيل لها الحق في الوجود ويجب أن تَبقى قائمة. لقد ساند سارتر إسرائيل في حرب 3791 بشكل مطلق، فمنحته جامعة أورشليم الدكتوراه الفخرية؟! وفي ذات السياق كنت البارحة قد بدأت بكتابة مقال عن كيف تلقف المثقف العربي الفكر الوجودي السارتري؟ وقبل بضعة أيام كنت تواصلت مع استاذي الفيلسوف أحمد نسيم برقاوي الفلسطيني الأصل السوري الجنسية وحكيت له عن كتاب الدكتور حاتم الجوهري تأملات في المسألة اليهودية. ونصحني بجمع مادة كافية عن زيارة سارتر إلى مصر وفلسطين. فما الذي جعل سارتر يحضر اليوم بهذه الصورة المتناقضة والمربكة في لحظة تكاد تكون وجودية خالصة؟ أقصد لحظة الأزمة الكورونية التي تهيم بأفقها الخانق على المشهد العالمي والإنساني الراهن؟ وقد نشرت قبل ثلاثة أيام مقاربة للعلاقة بين الفلسفة والأدب أشرت فيها إلى طبيعة العلاقة الحميمة بين الوجودية والأدب بالذات فإذا كانت الوجودية قد مارست تاثيرا على الأدب والفن والثقافة المعاصرة, فان الأدب بدوره أثر تاثيرا كبيرا على إنضاج وتفتق واندياح المزاج والقلق الفلسفي الوجودي في أوروبا منذ القرن التاسع عشر تقريبا.حيث يمكن القول: أن القلق المحموم بشأن الذات المغتربة بدأ أول ما بدا في رحاب الأدب الحديث, وذلك مع زيادة وعي الإنسان وإحساسه المتوتر بالذات الفردية , محاولا فهمها. بيد أن قلق الانسان الحار لفهم ذاته ليس بالظاهرة الشاملة حتى يومنا هذا, ظاهرة تاريخية حديثة ظهرت في أوروبا بسبب النزعة الفردية, وازدياد مفهوم الإنسان لدى الإنسان, وزيادة وعي الانسان بالحرية وظمأ مقابل للحرية الواقيعة المفقودة. ويرى كامو" أن المسألة مسألة شعور بالذات متزايد الاتساع نشأ لدى الإنسان خلال مغامراته لتأكيد وجوده" وسوف نلاحظ أن الكثير من المشكلات التي اهتم بها كامو واقرانه – كالذات والاغتراب, والحرية, والموت, والتمرد, والقلق . الخ كانت مثار اهتمام أساطين الأدب الحديث أمثال "شكسبير, غوته, دوستويفسكي,هولدرين.. منذ ردح طويل من الزمن. وهكذا حضر سارتر اليوم ومن حيث لا يعلم في ثلاث مواقف متباعدة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وسام قطب بيعمل مقلب في مهاوش ????


.. مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين في الجامعات الأمريكية: رئيس مجلس ا




.. مكافحة الملاريا: أمل جديد مع اللقاح • فرانس 24 / FRANCE 24


.. رحلة -من العمر- على متن قطار الشرق السريع في تركيا




.. إسرائيل تستعد لشن عمليتها العسكرية في رفح.. وضع إنساني كارثي