الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكورونا والانسان

طوني سماحة

2020 / 4 / 15
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


ما قبل الكورونا ليس كما بعده. هكذا وصفت وسائل الاعلام ودوائر مراكز القرار الوضع الحالي للبشرية. بين ليلة وضحاها تغيرت المفاهيم وزالت عادات قد يكون عمرها من عمر الانسان ذاته. العناق الذي كان اقوى درجات التعبير عن الشوق بين البشر أصبح فجأة وحشا قاتلا. المصافحة التي كانت التعبير عن حالة السلام بين شخصين صارت منبوذة. تم وضع حد للقاءات العائلية والاجتماعية والعملية. صار كل انسان سجينا في بيته يعيش حالة القلق والخوف على نفسه وعلى احبائه. ترى ما الذي حصل؟

خلال كتابة هذه الكلمات، وبعد شهرين من نشأته، تخطى عدد المصابين بالكورونا المليوني شخصا على مساحة الكرة الارضية. هذه هي الارقام التي تم التعريف عنها رسميا. في الفترة ذاتها قضى الكورونا على ما يقارب المائة وثلاثين ألف انسانا. تعالت الاصوات لتشرح كيفية نشاة هذا الوحش القاتل. منهم من نسب السبب لالتهام الصينيين الحيوانات غير المألوفة مثل الخفافيش. منهم من ذهب الى نظرية المؤامرة. قال بعضهم ان اميركا ارادت ضرب الاقتصاد الصيني فتسببت به، وقال البعض الآخر ان الصين كانت وراء نشأته. فهي ضحت ببعض الآلاف من مواطنيها قبل ان ترسل به الى الغرب لضرب الاقتصاد الاميركي اولا والاوروبي ثانيا. ذهب البعض الى أبعد من ذلك، فثمة من قال ان الهدف من إنشاء الكورونا هو القضاء على المسنين الذين يستهلكون ولا ينتجون وبالتالي يتسببون بعرقلة عجلة الاقتصاد. مهما كان السبب، يبقى ان الكورونا اطل علينا من حيث لا ندري، اصابنا بسهامه، بلبلنا، كبّلنا، ضرب احلامنا، غير انماط حياتنا، ووضعنا امام واقع جديد لم نكن نتوقعه لا من بعيد ولا من قريب.

ليس الكورونا هو الوبأ الاول ولا الاخطر من نوعه. في القرون الوسطى، ضرب الطاعون آسيا وأوروبا. كانت بديات هذا الوبأ في الصين وانتقل منها الى اوروبا عبر خط الحرير التجاري بين الاعوام 1347 و1350. انتشر هذا الوبأ في اوروبا اثر وصول 12 سفينة تجارية قادمة من الشرق الى سيسيليا الايطالية. عند رسو السفينة في المرفأ كان معظم البحارة على متنها قد لاقوا حتفهم. تقدر ارقام الوفيات في تلك الفترة بين 70 و150 مليون ضحية على صعيد العالم الذي كان تعداد سكانه آنذاك يقدر ب 450 مليونا. عملية حسابية صغيرة تفيدنا ان ما يقارب من ثلث سكان العالم آنذاك قضوا بين انياب هذا الوحش القاسي. إن أرقام كورونا التي بين ايدينا اليوم ليست بذات الاهمية مقارنة بالاوبئة والامراض التي عاشتها البشرية في الماضي. إذا لماذا القلق؟

خلال المائة سنة الماضية عاش الانسان حلم التقدم العلمي والانجازات على صعيد التربية والثقافة والطب والهندسة والفكر والتنظيم البيئي والاقتصادي والعلمي حتى خيل إلينا أن لا شيء يستطيع قهرنا بعض اليوم. كنا نعيش المعجزات ونحقق احلام اجدادنا. فالبساط الطائر لم يعد حلما، وجنّي القمقم اصبح واقعا يأتينا بما نشتهيه. يكفي ان ننقر بعض الاحرف على هواتفنا حتى نستحضر ما نشاء من طعام شهي الى حفلات صاخبة الى حجز مقعد على طائرة ينقلنا في ساعات من قارة الى أخرى. كنا نعيش حلم الانسان الذي لا يقهر عندما افاقنا كورونا من ثباتنا على حقيقة مؤلمة. لقد عرانا هذا الوبأ بين ليلة وضحاها واظهر مدى هشاشة الانسان. اتانا هذا الوحش القاتل عندما لم نكن نحسب له حسابا. كنا غارقين في احلامنا وطموحاتنا وبحثنا عن النجاح العلمي او العملي والتخطيط للمتسقبل وسلوك طريق الشهرة فيما لو فتحت لنا الابواب او الثراء ان سارت الرياح بما تشتهي السفن الى ان فجأة استيقظنا على حقيقة الا وهي ان لا شيء في الحياة ثابت وان المتغيرات هي قاعدة الحياة وان الموت هو الثابت الوحيد في هذه الحياة.

ذكرني واقع الكورونا الذي نحياه اليوم بقصة تلاها السيد المسيح على تلاميذه ومستمعيه في لوقا 12، اوردها هنا بحرفيتها
وَقَالَ لَهُمُ: «انْظُرُوا وَتَحَفَّظُوا مِنَ الطَّمَعِ، فَإِنَّهُ مَتَى كَانَ لأَحَدٍ كَثِيرٌ فَلَيْسَتْ حَيَاتُهُ مِنْ أَمْوَالِهِ».
16 وَضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا قَائِلًا: «إِنْسَانٌ غَنِيٌّ أَخْصَبَتْ كُورَتُهُ،
17 فَفَكَّرَ فِي نَفْسِهِ قَائِلًا: مَاذَا أَعْمَلُ، لأَنْ لَيْسَ لِي مَوْضِعٌ أَجْمَعُ فِيهِ أَثْمَارِي؟
18 وَقَالَ: أَعْمَلُ هذَا: أَهْدِمُ مَخَازِنِي وَأَبْنِي أَعْظَمَ، وَأَجْمَعُ هُنَاكَ جَمِيعَ غَلاَتِي وَخَيْرَاتِي،
19 وَأَقُولُ لِنَفْسِي: يَا نَفْسُ لَكِ خَيْرَاتٌ كَثِيرَةٌ، مَوْضُوعَةٌ لِسِنِينَ كَثِيرَةٍ. اِسْتَرِيحِي وَكُلِي وَاشْرَبِي وَافْرَحِي!
20 فَقَالَ لَهُ اللهُ: يَا غَبِيُّ! هذِهِ اللَّيْلَةَ تُطْلَبُ نَفْسُكَ مِنْكَ، فَهذِهِ الَّتِي أَعْدَدْتَهَا لِمَنْ تَكُونُ؟
21 هكَذَا الَّذِي يَكْنِزُ لِنَفْسِهِ وَلَيْسَ هُوَ غَنِيًّا للهِ».
22 وَقَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: «مِنْ أَجْلِ هذَا أَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ، وَلاَ لِلْجَسَدِ بِمَا تَلْبَسُونَ.
23 اَلْحَيَاةُ أَفْضَلُ مِنَ الطَّعَامِ، وَالْجَسَدُ أَفْضَلُ مِنَ اللِّبَاسِ.

ما اروع هذه الكلمات "الحياة افضل من الطعام والجسد افضل من اللباس". نحن نحيا لنأكل، لنلبس، لنتنعم. فإن كان الطعام واللباس متوفرين كنا بخير وان شحّا ضاقت بنا الحياة. ليس لكورونا اي حسنات، لكن هذا الوحش القاتل وضعنا في مواجهة مع ذاتنا. فهو اجبر الكثيرين منا على طرح الاسئلة الوجودية الكبيرة مثل اين الله؟ من هو الانسان؟ ما قيمة العمل الذي انجزته حتى الآن؟ كيف لي ان انجو من هذا الوبأ القاتل؟ كيف احمي من احب؟ ما قيمة العمل والمال والنجاح والشهرة امام الموت الذي يتربص بي؟ ما قيمة احلامي التي من اجلها دست على الآخرين وربما اولهم الاقربين مني؟ هل كان سعيي المحموم نحو النجاح يستحق التضحيات التي قدمتها لاجله؟

إجاباتنا عن هذه الاسئلة الوجودية تختلف من واحد لآخر. لكنني ادرك شيئا واحدا ان الموت سوف يدركنا جميعا، ان من خلال الكورونا او في مرحلة اخرى من حياتنا. الموت هو الحقيقة الوحيدة الثابتة في عالم المتغيرات. المال متغير ومثله الشهرة والنجاح. لا اريد ان يفهمني احد خطأ. أنا لست ادعو للفقر ولا للفشل. أنما الهدف من هذه الكلمات البسيطة هو اعادة ترتيب الاولويات في حياتي. وضع الغني الذي تكلم عنه المسيح اولوياته بالترتيب الخاطئ. كان يحيا من اجل الثروة واغراق الذات في كل ما تقدمه له الثروة من نجاح وشهرة وسلطة ولذة. كان يعيش لذاته ويدور حول ذاته ( Egocentric). ان اردنا ان نكون صريحين مع ذواتنا، لأدركنا اننا لسنا مختلفين كثيرا عن هذا الغني. معظمنها يهتم بالآخر عندما يكون لنا مصلحة بذلك. أميركا كانت تغدق الاموال على الدول الفقيرة، ليس حبا بهم، انما للحصول على ولائهم وبالتالي لفرض سيطرتها عليهم اقتصاديا. تنشب الحرب في مكان ما. تعلو الاصوات قليلا على شاشات التلفزة وتصمت. فالخطر بعيد عنا. الحرب ليست في شوارعنا. وبالتالي من يبالي؟ لكن عندما يصبح الخطر على ابوابنا، كما هو الحال في كورونا، يتجند المجتمع الدولي بأمه وابيه للبحث عن الحل. قضى في حرب العراق بين العامين 2003 و2006 بين المائتي وست مائة الف شخصا. لم يتحرك احد الا الدول المهتمة بمصالحها. لماذا اذا تجندت الدول اليوم لمواجهة كورونا؟ الجواب هو ان الكورونا هو تهديد حقيقي للجميع بين الحرب العراقية او اي حرب اخرى كانت محلية وتهدديها محدود.

زمن كورونا هو زمن إعادة ترتيب الالويات في الحياة. الكورونا علمنا ان الانسان هش وسريع الكسر والعطب. توالت على منصات التواصل الاجتماعي صور وفيديوهات لكثيرين يدعون الى العودة لله. شاهدت سجناء يركعون ويرفعون الصلوات، رجال شرطة يبتهلون معا، مواطنين يركعون على شرفات منزلهم. كل ذلك جيد، لكن ما لم يكن مرفقا بتوبة حقيقية فهو بلا قيمة. يتكلم السيد المسيح بمثل آخر معروف للكثيرين بمثل الابن الضال. خلاصة المثل ان ابنا طلب من ابيه اعطاءه حصته من الميراث. فكان له ما يريد ورحل الابن الى كورة بعيد حيث بدد امواله (او اموال ابيه) بالحياة الصاخبة. عندما فرغت الاموال من جيبه لم يجد من يأويه. عمل راعيا للخنازير، حتى انه كان يتمنى ان يأكل مأكل الخنازير. عاد الشاب الى رشده، وقرر اعادة ترتيب الاولويات في حياته. كان والده بانتظاره وما ان وقع نظره عليه حتى غمره بحب وعانقه ومن ثم امر ان يلبس الحلة الاولى وان يتم الاحتفال بعودته.

أنا على ثقة ان زمن الكورونا سوف يزول يوما ما وان الحياة قد تعود الى طبيعتها، لكن مهما كان الامر، يبقى ان الموت هو الثابت الوحيد في عالم متغير ومتبدل. الكورونا عرّى الانسان ادبيا وروحيا عداك عن التأثير الاجتماعي والاقتصادي والنفسي والعائلي والمادي. في ظل هذه الظروف، انا اجد رسالة محبة من الله للإنسان أي انسان. الموت الذي عليّ ان اموته روحيا، ماته المسيح لاجلي لكي يمنحني خلاصا ابديا. الفرصة ما زالت امامنا للتوبة عن الخطيئة واعادة ترتيب الاولويات في حياتنا. من يدري ليس هناك ما يضمن اني اعيش غدا، لكن لدينا الوعد بحياة افضل ان نحن عدنا لله. دعوة الله في المسيح لنا هي "تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ." (لوقا 11: 28). سفر الرؤيا فيخبرنا عن الحياة الابدية "وَسَيَمْسَحُ اللهُ كُلَّ دَمْعَةٍ مِنْ عُيُونِهِمْ، وَالْمَوْتُ لاَ يَكُونُ فِي مَا بَعْدُ، وَلاَ يَكُونُ حُزْنٌ وَلاَ صُرَاخٌ وَلاَ وَجَعٌ فِي مَا بَعْدُ، لأَنَّ الأُمُورَ الأُولَى قَدْ مَضَتْ".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - The Egocentricity
nasha ( 2020 / 4 / 16 - 13:02 )
الإنسان (أي إنسان) هو مركز الوجود من وجهة نظره.
الانسان يعرف نفسه فقط لأنه يمارس حياته هو ولا يمكن له ان يمارس حياة إنسان غيره.لان هذا محال وغير ممكن!
الإنسان يقيس معاناة الآخرين وسعادة الآخرين بناء على تجربته الفريدة الوحيدة في الحياة
كل يوم يموت من البشر عبر العالم بمتوسط 160,000 مائة وستين الف شخص بينما الوباء قتل 120,000 شخص على مدى ثلاثة أشهر ومع ذلك نحن ننسى كل المخاطر اليومية ونتذكر كورونا فقط. الانسان معرض للموت في أية لحظة ومشكلة الموت حتمية لا تقبل الشك وكما وضحت حضرتك الشيئ الثابت الوحيد هو الموت.
لا علوم مادية ولا تكنولوجيا ستخلص الإنسان من الموت لا اليوم ولا حتى بعد مليون سنة.
الحياةوالموت أسرار غامضة لا يمكن تفسيرهما إلا بالايمأن النابع من داخل الإنسان.
الحياة عبث ومعظمها مرارة اذا عاشها الإنسان دون أمل ورجاء وثقة بمصدر هذا الوجود.
المسيح هو الوحيد في هذا العالم الذي أنكر ذاته وقدمها قربانا للبشرية لتفهم كيف يجب أن تعيش ومع ذلك لا نستطيع أن نترك الأنانية التي هي أصل كل الشرور من أولها إلى آخرها
تحياتي


2 - egocentriciy
طوني سماحة ( 2020 / 4 / 16 - 14:37 )
حسب الاحصاءات يموت سنويا ما بين الاربعين وخمسين مليون طفلا في العالم بسبب الاجهاض ومع ذلك نحيا حياتنا بشكل عادي.

شكرا لمشاركتك القيمة اخي ناشا ولتكن في رعاية الرب


3 - دعوة إلى موقعي في الفيس بوك
nasha ( 2020 / 8 / 10 - 09:28 )
أخي العزيز طوني
يشرفني أن تزور موقعي على الفيس بوك.
بحثت عنك في الفيس بوك ولم أتمكن من التأكد من شخصك الكريم
عنواني على الفيس بوك هو اسمي الحقيقي الرسمي وهو:Najib Maty
تحياتي

اخر الافلام

.. السيدة انتصار السيسى تهنئ الشعب المصري والأمة الإسلامية بحلو


.. تكبيرات العيد في الجامع الازهر في اكبر مائدة إفطار




.. شاهد: في مشهد مهيب.. الحجاج المسلمون يجتمعون على عرفة لأداء


.. 41-An-Nisa




.. 42-An-Nisa