الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يوميات الحجر (13) وجها لوجه

حكيمة لعلا
دكتورة باحثة في علم الاجتماع جامعة الحسن الثاني الدار البضاء المغرب

(Hakima Laala)

2020 / 4 / 17
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


صديقتي وفاء:
قررت أن أكتب لك رسالة عزاء، فهل هذا سيعوض اللقاء المعلوم في هذا اليوم الحزين؟ هل سيعوض الرحيل إليك والحضور إلى دار العزاء؟هل سيعوض ذاك اللقاء الحميمي بيننا نحن النساء ؟ هل سيعوض عناقنا الذي نحاول من خلاله إشعار الأخرى أننا هنا لمواساتها، لأننا نعرف قوة الفاجعة والفراق؟ هل سيعوض كل تلك الأسئلة التي نطرحها لترك الحديث يسري، لنستمع لتلك الجريحة في شبه خشوع، لا نقطع لها كلاما ولا حديثا وكلما انهارت نطلب لها الصبر، نحتضنها بأجسادنا لنمدها بجزء من قوتنا؟ وكأننا في جلسة علاج نفسي، تحكي لنا التفاصيل في أدقها كما عاشتها، كما أحستها، كما كتبت في كيانها ، تلك التفاصيل التي سموها البعض بالثرثرة النسائية التي لا تفيد والتي أصبحت تهريجا حتى عند ما يسمى عندنا بحرفي الفكاهة، لأنهم غائبون، يهربون من المعاناة ويفرون من الألم، لا يعرفون له تدبيرا وإن كان المريض أحد أبويهم، فالذين يجهلونه هو أن النساء أكثر حديثا لأنهن أكثر حضورا في المآسي.
صديقتي هل الهاتف كفيل بنقل كل هاته الأشياء ؟ لا أعتقد، هل صفحات التواصل قادرة على خلق الحميمية التي تخلق دفئا في الكيان والوجود؟ لا أعتقد ، فالعزاء عندنا يشبه لحن الخلود الحزين، فنحن في حاجة لترانيم الدعوات للتماهي مع المكلوم، فكيف لك صديقتي أن تعيشي فقدان امرأة أنت جزء منها؟ فكيف لنا أن نواسيك ونجفف دموعك في هاته الفاجعة ونحن في حجر صحي إجباري؟ سؤال طرحته على نفسي عند سماع الخبر، كان من المفروض والمعتاد أن أجيئك للمواساة، كان من المفروض أن أرتدي ملابسي على عجلة وأغادر المنزل بسرعة ، أحاول قدر الإمكان أن أتمهل في السباق في زحمة الدار البيضاء، لكن لا شيء من هذا تحقق، عند سماع الخبر غمرني حزن عميق وشعرت بالعجز، علمت أنني سأخلف الوعد والموعد ولن أكون حاضرة، لن يستطيع أحد الحضور. فاجأني سؤال رهيب هل هي لوحدها؟ شعرت بحزن أكثر فأنا أعرف تلك العلاقة مع أمك ووقع صدمة الفراق. أتذكر يوم جئت لأخباري أنك ستتوقفين عن الدراسة وقلت لي: (أمي جد مريضة لن أستطيع الاستمرار في الدراسة ، علي المكوث معها)، لأول مرة غابت عنك الضحكة ولأول مرة غمرت الدموع عينيك . كان الأمر محسوما بالنسبة إليك ، أمك هي أولى أولوياتك، حاولت التخفيف عنك وتشجيعك، وطلبت منك الاستمرار في الدراسة وإن استعصى عليك الأمر، فأنا أحترم قرارك ،ولكن الحزن ازداد يوما بعد يوم ، كنا على اتصال دائم، أحسست آنذاك أنك دخلت في حرب مع الوقت ، مع الزمن، كنت تحاربين فكرة الفراق، تتشبثين بخيط الأمل ، لم تنهاري ، كنت قوية في مواجهة القدر، ربما لم تفكري يوما أنها سترحل بهذه السرعة، أنها ستغادرك للأبد، ربما الشيء الوحيد الذي لم نتهيأ له هو اليتم، نحن نعيشه فقط. وفي خضم المقاومة، انفجرت دموعك مرات ومرات وكأنك بدأت تدركين ما يعلن المستقبل، اتخذت الحب سلاحا ضد الحزن، وانخرطت في سيل من الواجبات، كان لديك دائما سؤال: ( هل ما أعمله سيطيب خاطرها؟ كنت تبكين في صمت وتجففين دموعك في صمت، كنت دائما شامخة ، عزيزة النفس كما كانت تحب أن تراك).
مر هذا الشريط بسرعة مذهلة واستدركت الأمر وخضعت للواقع، وتمتمت أقسى ما يمكن فعله في حق صديقتك هي أن تتصلي هاتفيا بها، لم أفكر في الكلام الذي علي قوله ولا جمل المواساة التي اعتدنا قولها، كان همي أن أسمع صوتك وجاء باكيا كطفل اجتثت جذوره، وكأنك كنت تنظرين إلى مكالمتي، ونحن اللتان سافرنا ردحا من الزمن في معاناتك مع مرض أمك، أو كما تسميها بالميمة، وقلت لي بصوت يعلن الحداد (إنني لوحدي، راه أنا لوحدي، ماتت لميمة، ماتت زينب سراج الأندلسي)، هل تدرين أنني لم أكن أعرف اسم أمك، عندما رددتيها وكأنك تعلنين هول الفاجعة ، أن من رحلت لها اسم وصفة ، إنها امرأة ذات جذور عريقة، إنها ليست فقط أمك، إنها تلك السيدة التي أحبها الناس وقدروها. أضفت: (لم تستطع أخواتي الحضور، لم يسمح لهن). فأعدت السؤال لأعرف أن إخوانك متواجدون خارج المنزل لأنه طلب منهم ذلك، أخبرتيني أن السلطات حضرت وأغلقت الحي ومنعت الزوار ووضعت حارسا على باب المنزل، أخبرتيني أنك قمت بتغسيل أمك وتكفينها وتهييئها للرحيل الأبدي بمساعدة امرأة أحضروها. أعرف أنك قوية ، ولكن أعرف أن هذا الفعل منهك، كان عليك أن تصمدي إلى ما لا نهاية ، حتى في لحظة الوداع الأخير. همك الوحيد هو هل وفيت الجميل لهاته السيدة الطيبة. كثيرا ما كنت تتحدثين عن المرأة التي هي أمك بحنان جميل، كان حنوك عليها هما يوميا لحمايتها من آفات الآخرين، ولقد وفيت صديقتي .
تركتك لأشغالك في هذا اليوم الكئيب وعدت لمكالمتك في نهاية النهار ، علمت أن إخوانك ذهبوا لدفنها ، وأنه لم يسمح لأحد الحضور إلى البيت، أنك بعد رحيل موكب الدفن تساءلت هل يغلق باب العزاء ، قررت إغلاقه وأنت ترددين لن يأت أحد وأغلقت الباب، بعد صمت تابعت وكأنك لاتخاطبينني: (لقد رحلت في صمت)، أحسست بثقل الصمت في الفقدان، فالموت تعلن عندنا بالجهر، وحتما فكرت أنها لا تستحق الرحيل في هدذا الصمت ، حتما نحن لا نتحدث عن خصال الشخص إلا في عزائه، إنها طريقتنا لإعلان حبنا للمفقود.
صديقتي إن الأمر مفجع في هاته الجائحة ، فنحن أصبحنا كأيتام حياتنا، طقوسنا، إلا أن تدبير الحياة وإلغاء الأشياء لا يلغي الولادة والموت، فهما حاضران خارج قانون الإنسان. إلا أن السؤال يبقى عالقا في أنفسنا وأكيد أنت أيضا تساءلت كيف نكرم الموت خارج طقوسنا؟ ولأنك لا تريدين الاستسلام للصمت ولأنك لا تريدينها أن ترحل في صمت ، فقد قررت أن تقومي بالممكن في دار عزاء، وإن طردت الجائحة زوارها وهم حتما كثر، فقد أشعلت البخور واستعملت اليوتوب لقراءة القرآن، حتى يعلم الجميع أن زينب سراج الأندلسي رحلت عنا هذا النهار. صديقتي لن يخيم عن رحيلها الصمت فهي في قلوب من عشقتها وستظل تعشقها ، فلترقد في سلام ولك مني كل المواساة.
لك كل محبتي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دول عربية تدرس فكرة إنشاء قوة حفظ سلام في غزة والضفة الغربية


.. أسباب قبول حماس بالمقترح المصري القطري




.. جهود مصرية لإقناع إسرائيل بقبول صفقة حماس


.. لماذا تدهورت العلاقات التجارية بين الصين وأوروبا؟




.. إسماعيل هنية يجري اتصالات مع أمير قطر والرئيس التركي لاطلاعه