الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحياة والجائحة

هند عباس الحمادي
أستاذة جامعية

(Hind Abbas Ali)

2020 / 4 / 19
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الحياة عنصرٌ دائم الحركة والدوران .. متغيرُ يثبتُ تقلباته في كل حين وزمان .. يثبت أنه هو المتحكم في زمام الأمور ، ويفرض سطوته عليك مهما امتلكت من وسائل دفاعية تدافع فيها عما حاولت أن تنظم تراتيب مقتضيات شأنك ، وهنا لا إنكار أنها قدرة الخالق سبحانه وتعالى هو المتحكم الوحيد بهذا العنصر ، ما نريده أن نستعيض في كلامنا هنا أن ما يحدث من متغيرات نطلق عليها "عنصر الحياة " . فهو دولاب يدور بك .. يرفعك .. يهبطك .. متى شاء تلك مشيئة علينا أن نؤمن فيها دوماً .
واليوم وبعد مرور أشهر على ( جائحة كورونا ) نجد أنفسنا إننا لم نصدق تلك الجائحة أول الأمر ، قلنا ستنتهي بعد أن تترك أثرها كعاصفة هوائية ستمر كما مرت سابقاتها.
توالت التفسيرات والتحليلات والترجيحات والمبررات والمسوغات والتنبأت والخيلات ، وطالت الأيام ولم تقصر .. فقدّنا العادة والاعتياد في تيسير الكثير مما اعتدنا أن نقوم به ، فرضَ علينا الكثير مما لم نعتدّ عليه . والناظر لما يحدث يجدُ أن عنصر الحياة أدخل العالم في جائحته ، وجعله ضيفا في كل بيت في الكرة الأرضية ، ودقَّ ناقوسا وضع الجميع في دولابه .
فكانت اسمها ، وما اطلق عليها مدار الكثير من التساؤلات ، ما الجائحة ؟ ما تعني ؟ ولَمَ لم تعتدّ الأُذن على سماع هذه المفردة ؟.
الجائحة في التفسير اللغوي هي لفظة جاءت على صيغة اسم الفاعل من الفعل ( جَاح ) ، وبناءا على صيغتها البنائية فهي تدلّ على الحدوث والتجدد ، تفيد معنى البليّة ، التهْلكة ، الداهيّة ، وتصريفها : جَاحَ ، يَجَوح ، مصدر جَوْح ، جيَاحَة ، وقد وردت في الحديث الشريف لنبينا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام وعلى آله ، خير من نَطق بلسان وعبر ببيان : " أعَاذكم الله من جَوح الدهر" ، أيّ بلائه وهلاكه .
وإذا أردنا أن نخضع هذه المفردة على وفق عنصر الحياة سيقول لنا عالم العربية عبد القادر الجرجاني (ت 471ه) في كتابه دلائل الإعجاز :" إن الألفاظ المفردة التي هي اوضاع اللغة لم تُوضع معانيها في أنفسها ؛ ولكن لأن يضمّ بعضها إلى بعض فيعرف ما فيها من فوائد " ، أي أن الألفاظ المفردة تَكون حياتها في النسق الذي تأتي فيه ، ولا يمكن أن تعطي دلالتها لوحدها منفردة ، فاللفظة تعطي دلالة مقصدها حين تندرج في سياقٍ يُفهم المقصد من حِلّه وترحاله .
ولفظة اليوم " الجائحة " لم نفهم معناها إلا حين ارتبطت بفيروس ( كوفيد ــــ 19 ) المسمى بكورونا ، الذي هبط على العالم كله ، وادخله في دوامة ألّا علاج فيه إلا بالوقاية منه ؛ لذلك اطلقت لفظة الجائحة عليه ؛ لأنه بلية العصر التي اجتاحت العالم .
ولكن آن لنا أن ننظر للأمر بمنظار أخر ، نتفق جميعا بعد أن فهمنا أن لفظة الجائحة تفيد البليّة والمصيبة ، وكل مصيبة تكون للنسق الذي تأتي فيه ، فكانت جائحة كورونا بليّة طغت على العالم كلّه ، ولكن المفارقة المدوية التي فجرتها الجائحة أن دولا كانت تعتدّ بقوة نظامها الصّحي، وتفتخر فيه لم تقاومها، وفارقت الكثير من اعزائها ولم تستطع أن تقف بوجهها ، مقارنة بدول فقيرة معدومة النظام الصحي كل ما كان عليها أن تحبس مواطنيها وتقول لهم : استتروا من الجائحة .
وإذ اقتربنا أكثر بمنظارنا لما يحيط بنا سنجد أن عنصر الحياة والجائحة اختلف بين بني البشر ، فكل له جائحته التي رمت ثقلها عليه من دون أن يكون لجائحة كورونا الهم الأكبر.
فتوالت الصور المتباينة التي اظهرت جوائح البشر ، فهناك من كان بليته أن يقلب نظاما طالما كثر جوره وظلمه ، وهناك من كان همه أن يكمل العمل الذي توقف ، وحلمه أن يراه على قيد الإنشاء ، وهناك من همه أن رزقه ورزق عياله انقطع بتوقف الحياة ، وهناك من كان همه أنه اشتاق لرؤية احبابه واعزائه ومنادمتهم ، وهناك من كان همه ألّا تذهب " كورونا " لأنها ستفضح المستور ، وهكذا كل منّا له جائحته التي يستيطع بما يمتلكه من قدرة وإرادة أن يتغلب عليها ، أو تتغلب منه فتكون جائحته للأبد .. سيبقى عنصر الحياة يدخلنا كلّ يوم بدولابه ليرى مَن منّا الذي سيصمد .
فإن نظرنا بزاوية أخرى بمنظارنا واقتربنا أكثر فأكثر ، وتخيّلنا أن عنصر الحياة توقف دولابه ، وفقد خواصه ، وأصبح متغيرا ساكنا وجامدا ، عندها سيكون الاستفسار الأول كيف ستكون الحياة من دون دولاب عنصرها ، ومتغيراته ؟ .
في البدء ستأخذ الحياة دور الجمود ، وتسكن في هدوء مقيت ، فلا حركة ، ولا متغيّر يحصل في الوجود ، ويقتنع كل منّا بما آلت إليه شكل حياته .
وهنا سيفقد العقل البشري أهم سماته ، فلا حاجة لوجوده ، فلا متغييرات تريد حلولا ، ولا احداث تريد تراتيبا لها . ثم لا تكون للإرادة المعنوية لبني البشر مسوغا لوجودها ، وتنتهي مقولة الحاجة أم الاختراع ؛ لأننا أصبحنا وأمسينا بالوجود نفسه .
فهل نحمد عنصر الحياة ونشكره على جوائحه التي تحلّ علينا ؟ سنقول بالتأكيد نعم ، فلكلٌّ جائحة جانبان ، الجانب الإيجابي والجانب السلبي ، والممتع أن نرى الجانب الإيجابي قبل السلبي لتكون الخطوة الأولى لمواجهتها ، ونضع الحلول الناجعة لها ، ونقود جائحتنا بإرادتنا إلى مستقر أمان لنا ، وهنا لا نتكلم عن المستحيلات والخيلات فطالما غاص عالمنا بشخوص واجهوا جائحتهم بقوة صلبة وحديدية ، وبرعاية إلهية جعلتهم عنوانا ، ومنارا يشار لهم بالبنان. فكم من قصص واقعية ناجحة سمعنا بها في محيطنا العادي ، أو في محيطنا العالمي كانت مقاومة الجائحة هي ديدن شخوص تلك القصص ، فقادوا أنفسهم إلى حياة غير الحياة التي واجهوا فيها جائحتهم .
ولن نبالغ حينما نقول : نحن كلنا نواجه جوائحنا ، كلّ بطريقته ، بل كل حياتنا قامت على أن نواجه كل يوم جائحة تختلف عن الأخرى في مسمياتها ومتغيراتها ، وكنا ننجح في صد هذه الجائحة ، والفوز على تلك ، أو نقف أمامها فلا قدرة إلا بالصمود بوجهها مهما كانت الصعاب .
الحياة تتجدد حينما نقف أمام جوائح حياتنا ، وتجدد طاقتنا لأمل بحياة جديدة ، ومتغير نحو الأفضل ، فلا خلاص من عنصر الحياة ودولابه ، إلا بمواجهته . تحياتي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حسين بن محفوظ.. يصف المشاهير بكلمة ويصرح عن من الأنجح بنظره


.. ديربي: سوليفان يزور السعودية اليوم لإجراء مباحثات مع ولي الع




.. اعتداءات جديدة على قوافل المساعدات الإنسانية المتجهة لغزة عب


.. كتائب القسام تعلن قتل عشرين جنديا إسرائيليا في عمليتين شرقي




.. شهداء ومفقودون بقصف منزل في مخيم بربرة وسط مدينة رفح