الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لك تنحني الجبال

بلقيس الربيعي

2020 / 4 / 21
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية


1




المقدمة

" إن من يسقط في معركة الحرية لا يموت . "

خرستو بوتيف

أنا لا أرثي ابا ظفر ليس لأنه حي في ذاكرتي وذاكرة كل الطيبين فحسب ، إنما ولأن الأزهارالتي إنبثقت من دمه الزكي ستبقى تضوع عطراً في حديقة المجد. وكما الأوطان والشعوب لا تموت ، فأبو ظفر ليس ميتاً ، بل هو حيً ـ وسيبقى حياً ـ في ضمائر كل الذين يحلمون بالوطن الحر والشعب السعيد. فلن يموت من وهب حياته من اجل الآخرين حتى ولو غاب جسده عن أحداقنا .
بعد حوار مع نفسي وأبنائي ظفر ويسار ، ومع رفاق واصدقاء أبي ظفر، وفي الوقت الذي أحسستُ بأني احمل العديد من الذكريات الجميلة عن أبي ظفر ، عزمتُ لتأليف هذا الكتاب لأخرج هذه الذكريات التي تراكمت في صدري ، رغم إني مهما حاولتُ أن احيط بسيرة أبي ظفر لن تكفيني كتبا لإدوًن فيها خصال الشهيد ـ حبيباً وزوجاً وأباً ومناضلاً ارخص حياته في سبيل حياة أفضل للإنسان والوطن .
فالحياة الغنية لإبي ظفر ، بما تنطوي عليه من صفحات مشرقة ومآثر بطولية وإنسانية لا أستطيع أن أوجزها في كتاب ، فهو كما قال الشاعر يحى السماوي : "المناضل البطل ابو ظفر كان بمثابة الأخلاق تمشي على قدمين . " ولاشك ان ابو ظفر يتمتع بشخصية إستثنائية وفذة يستحق مني ومن جميع رفاقه وأصدقائه ان يُكتب عنه . وهنا أقول بأني لا أستطيع القيام بهذه المهمة الصعبة بمعزل عن الآخرين الذين إرتبطوا بعلاقات حميمة معه وهنا تأتي الكتابة على شكل شهادات أو ذكريات رفاق واصدقاء عرفوا الغائب الحاضرأبا ظفر عن قرب وخبروه حامل مبضع كما خبروه حامل بندقية .. فالكتاب يتحدث عن الملامح الإنسانية لإبي ظفر من خلال يومياته وخواطره ومن خلال المقالات التي كتبها عنه الآخرون .
عاش ابو ظفر حياة السنبلة الملأى المنحنية للقيم العليا والإنسان و المتشبثة بالأرض والمنتصبة بوجه العواصف ، مبتسما للحياة ، تلك الإبتسامة التي كانت تعادل نصف العلاج ، بل والعلاج كله بالنسبة لمرضاه … لقد كان إنسانا قبل أن يكون طبيبا ، ويُقال من السهل أن يكون المرء طبيبا ، لكن من الصعب أن يكون إنسانا ، وابو ظفر جمع الصفتين ، فكان طبيبا ناجحا وفي قمة الإنسانية . كما جمع بين المرح والجدية في توليفة لطيفة من قوة الشخصية، و منذ نعومة أظفاره تربى على أن يكون منصفاً ومخلصاً وصريحاً ، وأن يعترف بالخطأ مهما كان ضئيلاً. كان رحيماً وطيباً ودمثَ الأخلاق إزاء الذين هم بحاجة الى مساعدته، وكانت مصاعب وآلام الآخرين دائماً كأنها آلام ومصاعب شخصية له .
كان حلو المعشر وسرعان ما يكسب ود رفاقه في القضية، وكان كل الذين توفرت لهم الفرصة للعمل معه أحسّوا بحرارة مشاعره تجاههم . و طيلة فترة عمله في العراق و اليمن وكردستان لم يصدر منه اي شيء يعكر صفو علاقته بالآخرين ولم يكن مزاجياً في سلوكه معهم .
منذ طفولته كان شغوفاً بالقراءة و لا يتوانى على الدوام عن شراء الكتب ، التي وضعت قدمه على الطريق الصحيح ومنها إمتلك القدرة على التطور المتسارع في الجانب السياسي والتنظيمي والذي مكنه من ان يسبق الكثيرين ممن سبقوه بالإنتماء للحزب . كما سعى ابو ظفر من اجل أن يكتسب ثقافة عريضة ، لذا لم تقتصر إهتماماته الثقافية على الأدب ، بل تعدته الى السينما ، فكان يتقتر في مصروفه ويوفر شيئاً ما ليرتاد السينما بعد ساعات الدراسة ويتمتع بمشاهدة افلاما لمشاهير الفنانين.
كان ابو ظفر شخصية إجتماعية وسياسية تحظى بالتقدير والثقة من لدن جميع رفاقه، لأنه كان يحرص على تعزيز العلاقات الرفاقية المبدئية على أُسس الشيوعية و لم يسع الى مصلحة ذاتية ولم يجرِ وراء المنافع والمناصب . كان يقتحم المصاعب والموت كي تسمو وتعلو قضية الحزب. وكان مرحاً وبشوشاًعندما تسنح الحالة بذلك، محباُ للمزاح ويتمتع بسرعة البداهة والأجوبة المسكتة .. وكان يستقبل مرضاه بالإبتسامة والنكات وقد كتب عنه احد الرفاق قائلاً : " حين تشتد بنا الأزمة يبقى مرحاً كما لو كنا في أسعد أوقاتنا ومهما طغى عليك شعور باليأس ، فهو يبهجك وينسيك جميع أحزانك وعذاباتك...‘‘
صريح وقوي وعملي ويتميز بالهدوء في النقاش . فهو لا يفكر بنفسه إلا من خلال التفكير بالحزب وبما يخدمه ويقويه ويعزز مكانته ، فهو يتابع سلوكه ونشاطه ،يشذبهما ويعلو بهما وفقا لما تقتضيه مصلحة الحزب وامضى كل حياته وطنياً صادقاً ، كرس حياته لقضية شعبه ،.فكان دائما يردد : " لا مفر من إراقة دمائنا كي يزدهر العراق الحبيب ، ويعيش شعبنا بحرية ومن اجل الإنتصار على العدو الطبقي ، لا يبخل حزبنا بالتضحية بأعز ما يملك .. حياتنا نحن الشيوعيين . "
يتميز ابو ظفر بقوة الملاحظة والصبر وهدوء الأعصاب والإستماع للآخرين ، قليل الكلام ، لكن عندما يتعلق الأمر بتوضيح شأن سياسي او حزبي ، فإنه لايبخل بالكلام ويركًز بدقة على الموضوع الذي يتكلم فيه ويبلور كلامه ببساطة وصدق ، ولديه إمكانية إقناع قوية وموهبة في تفسير الأمور بطريقة واضحة وبسيطة .
نادراً ما ترى محمد بشيشي الظوالم ( ابو ظفر) ـ الذي ينحدر نسبه الى شعلان ابو الجون ، مفجر ثورة العشرين في السماوة والرميثة ـ غاضباً أو محتداً، حتى السياسة يترجمها حديثاً لطيفاً وديعاً . كان يعطي بإسلوبه معنى للأفكار التي يريد أن يعبر عنها دون أن يطيل ، بل كان يتكلم بإيجاز وبشكل مكثف لطرح فكرته .وقيل عنه بأنه على جانب عالٍ من الثقافة والأخلاق . كان فصيح اللسان وكل من يراه يشعر بإحترام تجاهه . كان واضحاً شفافاً وله قدرة كبيرة على إيصال افكاره بلغة بليغة مُقنعة .

رغم المضايقات التي جابهته في عمله في العراق ، ظلّ
صامداً وتحدى الدروب الوعرة التي وضعها امامه البعث .وفي ديسمبر عام 1978 غادر الوطن مرغمأ وإتخذ طريقه الى المنفى بقلب يعصره الحزن والأسى ، لكنه لم يفقد ثقته العالية بأن الحزب ورغم شراسة الهجمة سيضمد جراحه.
عمل في محافظة شبوة المحاذية للربع الخالي في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية سابقاً، في منطقة يصعب حتى على اليمنيين العمل فيها، وكان سعيداً رغم الظروف الصعبة التي كانت تعيشها المحافظة، وساهم إسهاماً كبيراً في تطوير المؤسسات الصحية هناك، وجسد إنسانية مهنته ببساطة قلّ نظيرها ، ولم يكن يميز بين إنسان فقير وآخر غني عندما يكون أمام مسؤوليته الطبية، ولا يتوانى في إستخدام كل معارفه الطبية في مساعدة الآخرين .ولم يقتصر تميزه على الجانب المهني ، وإنما كان بارعا في نسج افضل العلاقات السياسية والإجتماعية مع الأخوة اليمنيين ، وكان القادة اليمنييون، ومنهم الرئيس اليمني السابق علي ناصر محمد، يطرونه ويتحدثون عنه وعن خدماته في تلك المنطقة النائية .
والى ظلمة عذابات شعبنا عاد ثانية للوطن ، دافئاً منيراً مثل ضوء الشمس. عاد الى كردستان وهو يعرف انه سوف يموت مثلما تموت البذرة كيما تحيا من جديد في الحصاد . دخل كردستان العراق يحمل في يده اليمنى عمره المنذور للأفكار التي آمن بها وحرية شعبه ، وفي اليد الأخرى صرًة الأدوية (العليجة كما كان يسميها ) . ليعالج مرضاه ،و لم يميز بين مريض وآخر أي كانت طائفة أو مذهب أو قومية ذاك الذي يحتاج الى المساعدة ،لأن ابو ظفر ومنذ شبابه اخذ الأمور بلا تعصب واصبحت الديانة أو اللون أو الجنس أقل أهمية من جوهر الإنسان … وتدرًب عقله على الرحابة في الآفاق … واليسر في مقاييس الحياة … .
وفي كردستان تطورت أفكاره وكذلك إسهاماته في الحركة الأنصارية . وإتسم سلوكه الحزبي و الإجتماعي بمبدأية عالية وصلابة فولاذية ونقاوة فكرية وإخلاص وتفان وحماس لا ينضب من أجل إنتصار مثله الشيوعية . . كان دائما يردد : " إنني احب الحياة ، شغوف بها وبعائلتي الصغيرة الرائعة ، لكن إذا دعى الواجب للتضحية بالحياة من اجل الوطن وحرية شعبي الذي احبه حبي لأمي التي ولدتني ، فلن اتردد في ذلك مطلقا ، وليعلم الطغاة إن شعبنا لايُقهر كما الشمس لا تنطفيء . "
وإختصر ابو نهران كل هذه الخصائص قائلاً : "كان ابو ظفر واحدا من اهم الأشخاص الذين صادفتهم في حياتي . فهو وبما إمتلكه من طيبة وخلق يندر مثيله ، يُعتبر كالظواهر الغريبة في زمن رديء . فقد كان يتوقد ذكاء وإخلاصاً ووعياً وحكمة ، ففي المفرزة المقاتلة ، كان نصيراً شجاعاً يتعمد مواجهة الخطر دون إدعاء أو إستعراض أو حب ظهور ، لقد إتكأ على مهنته كطبيب لكي يكون اول المشاركين في جميع المعارك، التي كان خلالها مقداماً غير هياب ولا مكترث للخطر ، وكان لا يتوانى عن السير ساعات وساعات من اجل أن يصل الى مريض محتاج ليقدم له يد العون والمساعدة . وفي الجوانب الفكرية والسياسية كان يتمتع بوضوح مدهش لرؤية الواقع ومتغيراته، وقدرة نادرة على تفسيره، لم يكن مجاملاً في الحق ، ويدرك تماما ما لديه من خصائص . وفي الجانب الخاص من شخصيته ، كان أباً وزوجاً مثالياً لا يتكرر ، لذلك إكتسب وفاءً نادرا ايضا من زوجة لا تمل ذكراه ."
تلك هي حياة ابو ظفر المفعمة بالكفاح حتى فارقها بفعل تلك الرصاصة الغادرة وهو في الثامنة والثلاثين من العمر . سقط شهيدا اثناء عودته للوطن ، فتوقف عن الخفقان قلب ملتهب ، إمتلأ بحب لا متناه تجاه الحزب والشعب ، وكفّ عن التفكير عقل موهوب قادر على التحليل المتعمق للظواهر والعمليات المعقدة في صفوف الحزب ، ولولا إستشهاده المبكر ، كان يمكن أن يكون للحزب مستقبل كبير ، وقد قالها الفقيد عامر عبد الله عندما التقاه لأول مرة في سوريا وهو في طريق عودته للوطن : ".... مستقبل الحزب امام هذا الشاب … "
بإصراره وعزمه ،ظلّ ابو ظفر اميناً لمبادئه وحافظ على نقاء روحه كإنسان وعلى شرفه كمناضل من اجل العراق الحر السعيد .وأستشهد وليس في يده سوى سلاحه وصرة الأدوية وليس في جيبه سوى صورطفليه و زوجته ورسائلها .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة إيمرسون بأ


.. شبكات | بالفيديو.. هروب بن غفير من المتظاهرين الإسرائيليين ب




.. Triangle of Love - To Your Left: Palestine | مثلث الحب: حكام


.. لطخوا وجوههم بالأحمر.. وقفة احتجاجية لعائلات الرهائن الإسرائ




.. الشرطة الإسرائيلية تعتقل متظاهرين خلال احتجاج في القدس للمطا