الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نقض مفهوم الدين لدى إميل دوركهايم

هيبت بافي حلبجة

2020 / 4 / 23
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


في إنتقاده للتجريبية اللاعقلانية لدى ديفيد هيوم ، وفي نقده لماقبلية إيمانويل كانط ، تبرز أجمل خاصية في فكر الفيلسوف والعالم الإجتماعي الفرنسي إميل دوركهايم ، في العقدة المتجذرة مابين البنيان الرباعي الطقس والطوطم والدين والإدراك المعرفي ، وفي العلاقة التأصيلية مابين البنيان الرباعي ذاتية الفرد وخصوصية الجماعة ومستوى الوعي النوعي التماثلي والفهم المطابق ، وفي بنيوية ماهو مشترك مابين البنيان الرباعي الصوت والحركة والممارسة والإدراك الشعوري .
وكل هذه الإطروحات لايمكن أن تتمظهر ، حسب إميل دوركهايم ، إلا إذا خضعت في بنيانها التأصيلي لجملة من الشروط وهي أربعة ، الشرط الأول وهو العودة إلى الجذور ،إلى الأصول التكوينية ، إلى تاريخانية الممارسة ، أي إلى القبائل البدائية الآولى ، هنا قبائل أوسترالية . الشرط الثاني وهو العلاقة العكسية مابين هذه الإطروحات ومفهوم المجرد ، فالمجرد هو شرط سلبي هنا ، وهذا يقتضي شرطين داخليين ، الشرط الداخلي الأول هو التفاعل التاريخي الصميمي الذي حصل مابينها ، أي مابين هذه المقولات ، والشرط الداخلي الثاني هو الإنتقال البنيوي من إحداها إلى الثانية الموازية لها دون إلغاء الأولى . الشرط الثالث هو المعنى والفهم ، أي رؤية المعنى في الفهم ، ورؤية الفهم في المعنى ، وهذا يوازي الشرط الداخلي الثاني في مستوى البنيان التأصيلي . الشرط الرابع هو الإبستيمي والإنطولوجي ، أي ، هنا أيضاٌ ، رؤية الإبستيمي في الإنطولوجي ، ورؤية الإنطولوجي في الإبستيمي ، وهذا يوازي الركن الأصلي مابين الإدراك ونظرية المعرفة ، وكذلك العلاقة الجوهرية مابين الضرورة والكلي ، دون الوقوع في مصيدة ماهو غيبي ، ماهوميتافيزيقي .
إلى ذلك ، لكي ندرك النسيج التماثلي ، بصورة دقيقة ومثلى ، في الحركة السيرورية البنيوية التكاملية مابين تلك المقولات التي ذكرناها في المقدمة ، سنركز على تلك الإطروحات التي شكلت ، فعلياٌ ، الذهنية الفكرية لدى إميل دوركهايم سواء في مقالاته ، في الطوطمية 1902 ، درس في أصول الحياة الدينية 1907 ، تعريف الظواهر الدينية 1899، تحريم زنا المحارم وأصوله 1888 ، سواء في مؤلفه المعتمد لدينا في هذه الحلقة ، الأشكال الأولية للحياة الدينية 1912 ، تلك الأشكال التي تكشف عن نفسها بنفسها تعريفاٌ .
الإطروحة الأولى وهي تتمحور حول نقطة إن الدين ليس له أية علاقة بما هو غيبي ، بماهو ميتافيزيقي ، بماهو سماوي ، وإن الديانات السماوية ، التي خلقتها مجتمعاتها ، ليست في الحقيقة إلا تطوراٌ في ذهنية البشر ، ليست إلا تطوراٌ في إفهوم الإنسان ، ليست إلا تطوراٌ لماهو فوق وقائعية الجماعة . فالدين هو ماهو واقعي ، أو وقائعي ، في أركانه وشروطه وسوسيولوجيته الجماعية ،أي في تكوينه وبنيانه وأصوله ، وحيث إن الوقائعي ، هنا ، يمثل جوهر العلاقة الحتمية مابين الضرورة والكلي ( وهذه نقطة في ذروة الإشكالية لديه ) ، فإن دوركهايم يؤكد إن الجماعة ، بحكم إنها لايمكن أن تحيى بدون معتقدات دينية ، سجدت ، في الفعل ، لواقعها وليس للآلهة ، لطوطمها وليس للسماء .
الإطروحة الثانية وهي تتمفصل حول نقطة إن الدين هو ، في ذاته ، طاقة توليدية ، أو على الأقل ، لديه قدرة توليدية ، وهذه نقطة أخرى في ذروة الإشكالية لديه ، لإن الدين ، بهذا المعنى ، يفارق قليلاٌ الواقع في وقائعيته ، ويعانق مدلولية فكرة إن الجماعة لايمكن أن تحيى بدون معتقدات دينية ، ويجعل الإطروحة الثانية تتكامل مع الأولى في جوهر فكرة إن الوقائعي لايمثل ، فقط ، جوهر العلاقة الحتمية مابين الضرورة والكلي ، إنما هو جزء بنيوي من التثليث ، الضرورة والكلي والوقائعي نفسه ، لذلك يقارن دوركهايم مابين العلم والدين ، فإذا كان العلم هو دراسة علم الظواهر الطبيعية ، فإن الدين هو ظاهريات الجماعة نفسها . وكون الدين هو تعبير عن الجماعة بصورة مغايرة للعلم ، فإنه ، حسب دوركهايم ، يجسد كل العناصر التي هي أساس تمثلات الحياة ، الشعر والفنون والنثر والرسم .
الإطروحة الثالثة في الحقيقة إن الإطروحتين الأولى والثانية متداخلتان بشكل بنيوي مذهل ، أي كان من الممكن أن نستخدم بعض الجمل في الإطروحتين معاٌ ، لكن لولا ذلك التمييز في تأصيل الإطروحتين ما كان من الممكن ، بل من المستحيل ، أن ندرك مفهوم الدين لدى إميل دوركهايم ، وأن ندرك الشكل المزدوج للإطروحة الثالثة ، التي فحواها ، إن الفرد كان هناك ، وماكان من الممكن أن يبرز محتوى الجماعة فيه لولا الطقس والطوطم ، وماكان من الممكن أن يبرز مفهوم الطقس والطوطم لديه لولا الجماعة ، لذلك فإن الجماعة و(الطقس والطوطم ) تماثلييان في مفهوم الدين لدى دوركهايم . وإذا إفترضنا ، أو إعتقدنا ، أسبقية أحدهما على الآخر فذلك أسبقية تحليلية وليست أسبقية إنطولوجية .
الإطروحة الرابعة وهي لاتقل أهمية عن الإطروحات الآخرى ، وتتموضع حول نقطة إن الممارسة والعادة لاتعني الممارسة والعادة بمفهومها الحالي المعاصر ، إنما هي حيثية فعلية في شرطها وركنها للمجموعة الرباعية ، الجماعة والضرورة والكلي والوقائعي ، مع شرط مستقل وهو شرط الخوف ، مع الإدراك التام إن شرط الخوف هو شرط الضرورة في ثلاثة قضايا ، الأولى في مفهوم الجماعة تحديداٌ ، الثانية في مفهوم الوقائعي بذاته ، الثالثة في مفهوم الطقس والطوطم . وهكذا فإن العادة والممارسة بهذا المعنى تحديداٌ ، خلقت مفهوم الرمز ، والمقدس ، والرمز المقدس ، وبالتالي خلقت محتوى الدين ، وهكذا سيطر الدين على الجماعة والمجتمع لأول مرة ، ومن ثم على الفكر البدائي والمنطق العفوي والعقل الوحشي ، وإستقل بمفهومه ليتكون مفهوم جديد للطقس وللطوطم ، ومحتوى جديد للعادة والممارسة ، وصورة جديدة هي صورة الآلهة ، والإله ، وفي النتيجة برز مفهوم السماوي والغيبي والميتافيزيقي ، وتماهى الكل مع الكل ، الآلهة ، الإله ، الحج ، المعبد ، الكعبة الشريفة ، الحجر الأسود ، الأنبياء ، الأصنام ، الأوثان ، والمفاهيم الدينية من الجنة والجهنم ، والثواب والعقاب ، والصلاة والصوم .
الإطروحة الخامسة يخالف إميل دوركهايم ، مؤسس علم الإجتماع الحديث أوجست كونت ، في إحدى أهم إطروحاته ، التي تدور حول نقطة مفادها ، إن الدين كمفهوم وكمحتوى هو دين للبشرية ، في حين يؤكد دوركهايم إن الطقس هو طقس جماعة معينة محددة ، وإن الرمز المقدس هو رمز جماعة معينة محددة ، وكذلك الدين ، أي هنا طقس وهنالك طقس آخر ، وكذلك الرمز المقدس ، وكذلك الدين ، فهنا دين وهنالك دين آخر . ويمكننا أن ندرك تلك المفارقة في إن الثاني إنطلق من محتوى الأديان الحديثة ، الأديان السماوية ، وقد باءت تصوراته بالفشل ، في حين إنطلق دوركهايم من الجذور ، من تلك الإطروحات ، فطوطم القبيلة هو أصل الدين ، هو أصل المقدس ، وكل طوطم يجسد إشارة خاصة ، ويمثل رمزاٌ مقدساٌ محدداٌ ، أي إن الطوطم هو المقدس نفسه ، هو أصل الدين ، هو أصل الآلهة والإله . ومن هنا تحديداٌ لامحيص من بيان نقطتين ، الأولى إن الطوطم قد قسم حياة القبيلة إلى ماهو مقدس وإلى ماهو دنيوي ، أي أصبح هو المعيار المطلق في تحديد ماهو مقدس وما هو دنيوي ، والثانية إن الطوطم فرض شروطه الطقوسية على إحساس وفكر القبيلة ، لإنه أصبح روحها .
الإطروحة السادسة والأخيرة يخالف إميل دوركهايم ، صاحب الحدس هنري برجسون ، في إحدى أهم إطروحاته ، التي تدور حول نقطة فحواها ، إن الكون هو آلة تنتج الآلهة ، في حين يؤكد دوركهايم إن الجماعة هي آلة تنتج الآلهة ، والمفارقة واضحة على صعيد مفهوم المجتمع وأصله التكويني ، فهو لدى الثاني يكون جزءاٌ حسابياٌ تابعاٌ للكون ، وأما لدى دوركهايم فإنه قد ولد من رحم الجماعة ، تماماٌ مثل ولادة الآلهة والدين من رحم الطقس والطوطم .
إلى ذلك ، نود أن نعترض ، رغم إن إميل دوركهايم يبدع في مفهومه للدين ، على هذه الإطروحات عبر هذه المآخذ :
المأخذ الآول إذا كان أوجست كونت قد أدرك مفهوم الدين ضمن إطاره البشري ، فإن إميل دوركهايم قد أدركه ضمن مفهوم الجماعة في إطار القبيلة االبدائية ( في استراليا ) ، لكنه لم يدركه في جذوره الفعلية ، أي في جذور تلك المرحلة التي سبقت مرحلة الجماعة والتي أتت مابعد مرحلة الفرد ، والتي أسميها مرحلة المجموعة الخاصة . وفي هذه المرحلة ، حيث الخوف العفوي ، والجهل الطبيعي ، والوقائعي الموضوعي ، تكونت الحيثيات الجوهرية لمفهوم الإنسان بذاته ، أي إكتشف الإنسان نفسه لإول مرة ، وعلى أثرها تكونت العلاقة البنيوية الحميمية مابين الإنسان من جهة ، والطبيعة والوقائعي والمعلوم هناك والمجهول في لامكان من جهة ثانية، وكان الإبتهال والتحدي ، الذي تحول فيما بعد إلى معنى ومفردة الصلاة ( كما رأينا في حلقة سابقة ) ، هو أساس الطقس والطوطم ، أي إن تأصيل الطقس والطوطم في مرحلة المجموعة الخاصة ، ضمن تلك العلاقة التي أشرنا إليها ، هو الذي مهد إلى بروز محتوى الجماعة وكذلك القبيلة بمفهومهما الدوركهايمي ، وكذلك لمحتوى الدين ، وهذا مايقوض بنية فكرة دوركهايم ، إن القبيلة لإنها قبيلة ، والجماعة لإنها جماعة ، هما اللتان أسستا لمحتوى الدين .
المأخذ الثاني إذا كان هنري برجسون قد إعتقد إن الكون هو آلة تنتج الآلهة ، فإن دروكهايم قد إعتقد إن الجماعة هي آلة تنتج الآلهة ، وهنا من الطبيعي أن نرى في هذه الإطروحة جانبين ، الجانب الوقائعي السوسيولوجي الذي ليس لدينا أي إعتراض عليه ، والجانب الآخر وهو جانب الضرورة في هذا الإنتاج سيما وإنه ، أي دوركهايم ، يرى علاقة حتمية مابين الضرورة والكلي من ناحية ، ومابين الوقائعي من ناحية أخرى . فإذا كان مفهوم ( إن الجماعة هي آلة تنتج الآلهة ) تمثل الضرورة فهذه إشكالية أولى ، وإذا كانت تمثل الكلي فتلك إشكالية ثانية ، وإذا كانت تمثل الضرورة والكلي معاٌ فهذه إشكالية ثالثة . الإشكالية الأولى تتمثل في الغياب الفعلي لدور الوقائعي من ناحية ، ودور العادة والممارسة من ناحية ثانية ، وهذا يحتسب كارثة في محتوى تصورات دوركهايم ، والإشكالية الثانية لايمكن أن تكون تلك موضوعة صادقة إلا إذا صدق محتوى دور الغيبي والميتافيزيقي في تآليف الدين ، وعندها يهوى صنم دوركهايم راديكالياٌ ، والإشكالية الثالثة تفترض ، بالضرورة ، حتمية الوجود الفعلي للآلهة ، وإذا ما صدقت هذه الإطروحة ، فإن محتوى الطقس والطوطم هو محتوى كاذب ، وبالتالي ليس إلا حالة خادعة في حيثية التاريخ البنيوي للدين .
المأخذ الثالث يعتقد دوركهايم إن الجماعة حينما سجدت ، فإنها سجدت لواقعها وليس للإله ، سجدت لطقسها وطوطمها وليس لماهو غيبي ، لماهو سماوي ، أي إنها سجدت لماهو وقائعي وليس لماهو ( ضرورة وكلي ) وهذا ما لايرضاه دوركهايم نفسه ، فغياب ماهو ( ضرورة وكلي ) يقوض أسس فكرتين جوهرتين في معظم إطروحات دوركهايم في مؤلفه ( الأشكال الأولية للحياة الدينية ) ، الفكرة الأولى إن الدين له ، على الأقل ، طاقة وقدرة توليدية ، حيث بدون هذه الولادة البنيوية لايمكن أن يستمر دور الدين نفسه في المجتمعات ، سيما المجتعات الحديثة ، وسيطرته على العقول والأحاسيس بهذه القوة الخارقة ، ومن هنا تحديداٌ نقد دوركهايم فكرة الذين أكدوا إن الدين ليس إلا وهماٌ ، فرد دوركهايم عليهم ، لو كان الدين وهماٌ لما أستمر إلى يومنا هذا ، ثم يستشهد بالمقولات والإطروحات التي تلت ولادة الأديان ، سيما الأديان السماوية . الفكرة الثانية إن الجماعات ، في حقيقتها الأصيلة ، لايمكن أن تحيى بدون معتقدات دينية ، أي إن الإنسان كإنسان ، والجماعة كجماعة ، والعالم كعالم ، والكون ككون ، لايمكن أن ( تكون ) إلا إذا كان الدين !! وهذا يجعل من دوركهايم لا دوركهايمياٌ . وإلى اللقاء في الحلقة التاسعة والثمانين .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تركيا تدرس سحب قواتها من سوريا


.. أوضاع إنسانية صعبة في قطاع غزة وسط استمرار عمليات النزوح




.. انتقادات من الجمهوريين في الكونغرس لإدانة ترامب في قضية - أم


.. كتائب القسام تنشر صورة جندي إسرائيلي قتل في كمين جباليا




.. دريد محاسنة: قناة السويس تمثل الخط الرئيسي للامتداد والتزويد