الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإلحاد الانتقائي

أسعد أبو خليل

2020 / 4 / 24
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الإلحاد أو العلمانيّة المحضة (نظريّاً) لا تضمن تحقيق المساواة والعدل بين الناس: كان نظام الاتحاد السوفياتي علمانيّاً لكنه شهد أعمالاً قمعيّة استهدفت فئات دينيّة أو إثنيّة، كما أن علمانيّة نظام صلاح جديد الصارمة - قد تكون أكثر التجارب العربيّة العلمانيّة صرامة - لم تضمن تحقيق العدل والمساواة وشاب التجربة تحالفات أقلويّة على مستوى القيادة. وتجربة أنور خوجا الألبانيّة هي دليل آخر على عدم ضمان فرض العلمانيّة والإلحاد للحقوق الفرديّة.
لكن في المقابل، هناك دلائل أخرى عن الإلحاد والابتعاد من الدين في المجتمعات. إن كتاب «دليل كايمبردج للإلحاد» يتضمن الخلاصة التالية لفيل زوكرمان: «إن البلدان التي تتضمّن نسباً عالية من غير المؤمنين تكون من أكثر الدول ثراء وصحّة في الأرض». (وتضمّنت دراسة زوكرمان مقارنة بين الدول على أساس العلاقة بين الإيمان أو عدمه وبين التراتبيّة في تقرير مؤشّر «التنمية البشريّة» الصادر عن الأمم المتحدة. وبين الدول الـ25 الأولى في تقرير التنمية، كلّها، باستثناء إيرلندا، تتضمّن نسباً عالية من «الإلحاد العضوي» (وميّز زوكرمان بين دول «الإلحاد العضوي» -الناتج من الخيار الفردي الحرّ- وبين دول «الإلحاد القسري» المفروض من الحكومات مثل كوريا الشماليّة). أما الدول الأربعين الأفقر في العالم، كلّها، باستثناء فييتنام، تتضمّن نسباً عالية من التديّن. لكن زوكرمان لا يصل إلى القول إن الإلحاد هو الذي يؤدّي إلى الرفاهية والصحّة والثراء، بل يفترض ان انتشار الرفاهية والصحّة والأمن الاجتماعي تسبّب نزوعاً أقل نحو الدين، وميلاًً اكبر نحو الإلحاد، وان شعوب الدول الفقيرة تميل أكثر إلى الدين لأسباب عديدة.
لكن الحديث عن مواضيع الإلحاد والعلمانيّة يجب ان يتطرّق حكماً للانتقائيّة خصوصاً أن «العقلانيّين العرب» (أعطت «مؤسّسة ابن رشد للفكر الحرّ» العقلانيّة جائزة العام الماضي إلى راشد الغنّوشي) يعبّرون عن إيمان كلّي ومطلق بقدرة العلمانيّة على حلّ كل مشاكل الأمّة، ويتعاملون مع العلمانيّة الغربيّة من دون اعتبار لا لنواقصها ولا لعيوبها ولا لقصورها ولا لتناقضها الداخلي الصارخ. والانتقائيّة هذه تبرز أكثر ما تبرز في أقطاب الإلحاد الغربي. وريتشارد دوكنز يُعتبر اليوم أبرز مُفكّر غربي في الدعاية للإلحاد. ويتضح في كتاب دوكنز، «وهم الله»، ان أجندة الإلحاد الغربي (شبه) المُنظّم لا يخفي عداء شديداً وحصريّاً ضد الإسلام. لا بل إن أبرز دعاة الإلحاد الغربيّين (سام هاريس وبيل موهر وكريستوفر هيتشكنز) هم أنفسهم أقطاب في حملة الإسلاموفوبيا الغربيّة. وكتاب دوكنز المذكور أعلاه يظهر اختلالاً فاضحاً: فخطابه عن المسيحيّة واليهوديّة لا يمتّ بصلة إلى خطابه عن الإسلام. فالكلام عن الإسلام ليس مُوجّهاَ ضد المتطرّفين في الدين (كما في كلامه وكلام هريس وموهر وهيتشكنز)، بل هو مُوجه ضدّ كل المسلمين والمسلمات من دون استثناء.
الخطورة إن الحركة الإلحاديّة العربيّة (وهي تنمو لأسباب لا مجال هنا لتحليلها) تعتنق (كالعادة) الفكر الغربي المستورد وبلا كيف. المواقع الإلحاديّة العربيّة تُكرّر من دون سؤال مقولات سام هاريس ورفاقه، ومن دون الأخذ بعين الاعتبار للدوافع الصهيونيّة الخبيثة لأمثال هاريس الذي دافع عن العدوان على غزة والذي يتعامل مع اليهوديّة والمسيحيّة بغير ما يتعامل مع الإسلام. عند هؤلاء إن المشكلة الفكريّة العويصة تكمن في الإسلام فقط، وعليه لا يتحرّر المرء المُسلم (والمسلمة) إلا بالتحرّر من الإسلام بصورة تامّة. وفي تحرير المُسلم من الإسلام تتحرّر البشريّة بالكامل عند هؤلاء. والمواقع العربيّة الإلحاديّة تتبنّى مقولات وأطروحات وخطاب هاريس وصحبه من دون الفصل بين مفهود الإلحاد المعارض لكلّ الأديان من دون استثناء، والتعصّب الديني الذي يفاضل بين الأديان. أكاد أقول إن حركة الإلحاد الغربيّة (شبه) المُنظّمة باتت ستاراً غير واق لإيديولوجيّة العداء للإسلام. وترجمة هذا العداء تظهر في مواقع الإلحاد العربيّة إذ انها تتعامل مع المسيحيّة واليهوديّة باحترام ومع الإسلام باحتقار. لم يكن هذا عهد الإلحاد العربي في العصر الكلاسيكي (راجع مثلاً كتاب سارة سترومسا، «المُفكّرون الأحرار في إسلام القرون الوسطى: إبن الراوندي وأبو بكر الرازي وتأثيرهما على الفكر الإسلامي»، أو كتاب عبد الأمير الأعسم، «تاريخ إبن الراوندي المُلحد»).
وكما أن الحركة الإلحاديّة الغربيّة تحتاج إلى مساءلة عربيّة من قبل دعاة الإلحاد، فإن العلمانيّة الغربيّة تحتاج إلى مساءلة مماثلة خصوصاً وأن العلمانيّة لم تخضع بعد لنقد عربي (علماني)، غير إسلامي أو غير ديني. هذا ما فعله عالم الأنثروبولوجيا طلال أسد في كتابه (غير المُترجم) «تكوين ما هو علماني: المسيحيّة والإسلام والحداثة». لا يقبل أسد دوغما الفكر العلماني الغربي ويعيده إلى جذوره التاريخيّة. ويُحلّل العلاقة بين العلمانيّة في تكوينها الأوروبي وبين نشوء القوميّات، ولم تكن العلمانيّة في كثير من الأحيان إلا وصفة للتعايش بين مُكوّنات الدولة الواحدة. لهذا فإن الهجرة الإسلاميّة إلى الغرب المسيحي لم ترد في أذهان المنادين الأوائل بالعلمانيّة. والبلدان الغربيّة (على أنواعها وأصنافها) تشهد نموّاً ملحوظاً للحركات السياسيّة المعادية للإسلام (ليس للإسلام فقط بل للمسلمين لأن عقيدة معاداة الإسلام - مثلها مثل عقيدة معاداة اليهوديّة التي أنتجها الغرب المسيحي - تعادي كل مسلم ومسلمة مهما كان، باستثناء هؤلاء الذين واللواتي يقبلون الاستقالة ليس فقط من دينهم بل حتى من القضايا التي تشغل معظم المسلمين والمسلمات). لا يكون المسلم مقبولاً إلا إذا قبل بتعريف ومفهوم للإسلام يتواءم مع السياسات الغربيّة المعادية للإسلام والمسلمين. وعليه، فإن المسلم الحقّ هو الذي يشارك في قصف مواقع مدنيّة للمسلمين أو الذي يشارك في حروب غربيّة ضد بلاد مسلمة وتوقع عدداً كبيراً من الضحايا المدنيّين المسلمين. ولهذا لا يجد الكونغرس الأميركي حرجاً في صياغة تعريف جديد مقبول للإسلام والحكومة الأميركيّة ومراكز الأبحاث تعيد صياغة مناهج التدريس في دول الخليج الخانعة.
ويلاحظ أسد ان لا فرق في معاداة الإسلام والمسلمين بين اليميني المتطرّف وبين الليبرالي العلماني، أو هو يقول «يصعب التمييز» (ص. 165 من الكتاب المذكور). ويشير أسد إلى المثال الفرنسي عندما قرّر وزير التعليم الفرنسي قبل بضع سنوات ان يبطل قرار ناظرة مدرسة علّقت مشاركة ثلاث طالبات في الدروس بسبب ارتدائهما الحجاب. أدّى قرار الوزير إلى ردّة فعل قويّة من أبرز مثقّفي فرنسا (بما فيهم اليساري السابق ريجيس ديبريه) الذين قارنوا ما بين الرأفة بالطالبات المجرمات (بمعيار قرارات لجنة «العلمانيّة» النافذة، التي ضمّت محمّد أركون) ومحاباة النازيّة في 1938. أصبح مشهد المُسلمة المُحجّبة موازياً لمشهد جنود الجيش النازي وهم يستعرضون في جادات شوارع أوروبا.
إن معاداة مظاهر عاشوراء الأخيرة في لبنان من قبل مدّعي الليبراليّة (والعلمانيّة الانتقائيّة) هي مظهر آخر من استبطان العداء الإسلامي التقليدي برداء الحرب المذهبيّة الخليجيّة (لكن هناك عامل آخر إذ ان حركة 14 آذار تجذب إليها مسلمين يخجلون بإسلامهم ويبالغون ويبالغن في إظهار استبطان عقيدة الطائفيّة المسيحيّة المؤسّسة للكيان المسخ). ليست المظاهر العلنيّة لعاشوراء جديدة، لكنها بدأت تظهر أكثر لأنه لم يكن مسموحاً لا في الدولة (في ما قبل الحرب) ولا في المجتمع بإعلان مظاهر أو رموز الطائفة الممنوعة (حينها). إن التشديد على الاحتفاء بعاشوراء هو مظهر من مظاهر توكيد الهويّة الطائفيّة في زمن التناحر الطائفي. كما أن هناك سبباً آخر بديهياً: يعترض الكثير من العنصريّين البيض هنا على مظاهر التشديد عند السود على هويّتهم السوداء وعلى تعبيرهم عن مظاهر ثقافة سوداء. وينطبق هذا على الأميركيّين من أصل مكسيكي. إن التعبير عن المظاهر الأقلويّة يعود للقدرة المُستجدّة للأقليّات المضطهدة تاريخيّاً على التعبير عن خصوصيتها (إزاء محاولات تاريخيّة إما للإزالة أو للتهميش الدوني). والانتقائيّة العلمانيّة في لبنان تكمن في التعبير عن امتعاض شديد من مظاهر عاشورائيّة (تختزل دوماً بمشاهد التطبير التي تجذب مصوّرين 14 آذاريّين متربّصين) لكن من دون معرفة أو ملاحظة التشابه التاريخي (أو الإقتباس) بين مظاهر التعبير عن الذنب والأسى الجماعي بين المسيحيّة وبين الشيعة. كما ان لبنان يزخر بمظاهر التديّن المسيحي والإيمان الديني (وحتى العلماني) بعجائبيّة مار شربل (وغيره من القدّيسين المحليّين) وكأن التديّن إذا كان مسيحيّاً يبقى في نطاق العلمانيّة المقبولة لكن عاشوراء تخلّ بشروطه. بمعنى آخر، إستورد مثقّفو 14 آذار العلمانيّة الإنتقائيّة الغربيّة مع ما تحمل من عداء ضد الإسلام (أو طائفة في الإسلام في هذه الحالة).
ليست هناك من علمانيّة غربيّة كما يصوّرها دعاتها بين العرب. إن أنساق العلمانيّة الغربيّة تختلف بين دولة وأخرى. كانت العلمانيّة محاولة لبلورة صيغة داخليّة للتعايش لم تلحظ وجود مهاجرين من المسلمين والمسلمات. والعداء ضدّ اليهود تماشى مع تطوّر العلمانيّة الغربيّة إلا أن الحرب العالميّة الثانية أنجبت، بإبتكار أميركي، تلفيقة «الحضارة المسيحيّة ــ اليهوديّة» في محاولة سياسيّة (وليس علميّة تاريخيّة) لتصوير تاريخ من التآلف بين الدينيْن فيما لم تكن نار حرق اليهود قد خمدت بعد. والعلمانيّة الفرنسيّة توفّق بين إصطناع رفض قاطع بحجّة العلمانيّة الفرنسيّة لما هو رداء شخصي لبعض النساء المسلمات وبين حظر إهانة اليهوديّة وحتى التشكيك بالمحرقة. أي ان العلمانيّة الفرنسيّة العريقة تميّز في حساسيّتها العلمانيّة.
هناك من يُشكّك بنظرة الابتعاد من الدين في التطوّر الغربي للعلمانيّة. كارل شميت يرى ان المفهوم الحديث للدولة ما هو إلى علمنة لـ»طروحات لاهوتيّة». في أميركا تطوّر الابتعاد من العلمانيّة المؤسّسة (وبضغط جماهيري) إلى درجة التوفيق بين الدين وبين الوطنيّة (زيدت عبارة «في ظل الله» إلى القسم الوطني عن «الأمّة الواحدة» في القرن العشرين، كما زيد على ورقات العملة عبارة «نثق بالله»). لكن أسد يطرح حجّة قراءة الدين في فكرة الدولة ضعيفاً. مهما كان، فإن وصفة العلمانيّة الغربيّة تجد تحدّيها الحقيقي مع وفود الملايين المسلمة المهاجرة، ولم تقبل العلمانيّة الغربيّة بوجود اليهود قبل محاولة الإبادة الجماعيّة من قبل النازيّة (الأوروبيّة).
إن استيراد البضائع والفكر والملبس والمشرب من بلاد الغرب الأوروبي والأميركي ليس أمراً عفويّا. هناك ملايين تُنفق للبضائع الماديّة والفكريّة للغرب. وليس عفواً ان إعلام وثقافة آل النفط والغاز هي التي تصرّ على فرض خيار لا ثالث لهما: إمّا دولة حميد قرضاي (أو نوري المالكي) باسم الحريّة والديمقراطيّة وإما وهابيّة آل سعود. هناك خيارات أخرى لكنها لا ولن تنبثق عن ثقافة مفروضة بالقوة المسلّحة او الماليّة. وعلى الحركات الدينيّة ان تتعامل مع خصومها العلمانيّين وحتى الملحدين بشيء من الرأفة. ستدور الدوائر، كما دارت في مصر (لتعود وتدور من جديد)، ومشهد العالم العربي المعاصر يدلّ على صعود وهبوط حركات وإيديولوجيّات متنوّعة ومتناقضة. لم يكن لويس السادس عشر يعلم ان رأسه سيُعرض (مقطوعاً) على الملأ.

* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:angryarab.blogspot.com)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - المقال إنتقائى
طاهر المصرى ( 2020 / 4 / 24 - 21:44 )
الأستاذ/ أسعد ابو خليل
فى كثير من الأحيان عندما أقرأ مقالات تعبر عن الرؤية الغربية للإسلام ويعتبرونها خاطئة، أحدث نفسى وأقول أكيد هؤلاء الكتاب لم يعيشوا فى الغرب ولا يعرفون ما هى النظرة الحقيقية للغربيين عن الإسلام، وللأسف المقال وقع فى نفس اخطاء الكثيرون بأعتباره مقال إنتقائى للأفكار الغربية الخاصة ببعض المفكرين والمثقفين سواء كانوا ملحدين أو مؤمنين، لأن هؤلاء يعبرون عن النظرة السياسية وتدعيمها وفقاً للوضع العالمى والنظام السياسى.
يبدو أن من يتكلم عن الأديان لم يفقه بعد أنها أديان بشرية المصدر والهوية، وهذا ما يجعل المثقفين العرب يقفون محلم سر ويعجزون عن الإجابة عن سؤال شكيب أرسلان: لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟
فإذا كان أمير البيان العربى عجز عن الإجابة ومعه عجز العرب منذ طرحه هذا السؤال وحتى اليوم عن إيجاد تأويل كما يفعلون مع النصوص المقدسة، نعم عجز العرب جميعاً مسلمين ومسحيين عن إيجاد جواب ويفضلون الأنتقائية فى حياتهم حتى يستمروا عبيداً للإله الأكبر!
شكراً