الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خطورة التباعد الإعلامي/الاجتماعي على استراتيجيات الفرد و تمثلاته المعرفية المناعية

مروان الواحسوني
كاتب وباحث

(Loiahsouni Marouan)

2020 / 4 / 28
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يكفي أن نقول لشخص معين في الظرفية الحالية بالتعبير التالي: "حفاظا على سلامتك النفسية في ظل الأزمة الحالية، تجنب الإنصات لوسائل الإعلام، وابتعد قدر الإمكان عن كل ما يتعلق بالأخبار التي تنشرها".

بشكل مباشر أو غير مباشر فنحن نقلل من شأن "استراتيجيات المواجهة" les stratégies d ajustement الخاصة بالفرد سواء الطبيعية النفسية التي يمتاز بها (الضبط الذاتي والمناعة الطبيعية)، أو أخرى مكتسبة اعتاد أن يواجه بها مختلف الأزمات والمصائب التي لحقت به في حياته. وفي سياق أخر، فإننا نمنع عنه فرصة تطويرها (تحيينها) وتعلم دفاعات جديدة للتعود مع الوضع الحالي بفعل خصائصها التي تمتاز بالمرونة وقابليتها للتكيف حسب الظروف.

الاهتمام الذي حظي به مفهوم الإستراتيجية بكل من الميدان العسكري والتربوي والاقتصادي والاجتماعي...، نستحضر حاجته الماسة اليوم في الميدان الصحي كذلك، من حيث أساليب المواجهة والتكيف التي يبديها الفرد مع ضغوط ومشكلات الحياة اليومية، التي تسهم فيها مختلف هذه الإجراءات والقدرات الذاتية -الذهنية- المنتقاة التي يعبئها الفرد.

جل المبادرات اليوم في مجال الدعم النفسي المرتبطة بالأزمة الحالية (Covid-19)، تركز بشكل أساسي على ضرورة تجنب كل ما يتعلق بالمستجدات الحالية من (أخبار، وإحصائيات ومنشورات...)، لكن بصورة أخرى، هي بقدر ما تسعى لهدف نبيل؛ أي التخفيف من ضغوط ومخاوف الفرد، بقدر ما تكف عنه فرصة تنشيط آلياته الطبيعية البيولوجية النفسية بالطريقة التي عهدها في جل مراحل نموه السابقة.

فكما هو معروف بيولوجيا، أن آلية المناعة الطبيعية لدى الكائن الحي تتكيف بشكل تدريجي عند تعريضها للفيروسات والأمراض إلى حدود أن تتغلب عليها، فهو الشأن كذلك بالنسبة للمناعة النفسية من خلال وظيفتي التمثل والموائمة عند استيعاب تمثلات وخطاطات معرفية تمكن من احتواء مختلف المخاوف والأخطار، إلا أن هذا التوازن لن يتحقق بالتجنب والابتعاد، وإنما بالتعايش والتعود مع الأحداث الصادمة الحالية لغاية بلوغ التكيف.

مسألة اليوم إبعاد الفرد وعزله في منزله، قد لا تكون الخيار الأمثل، بل قد تحرم عليه فرصة اكتساب تقنيات دفاعية جيدة ستضاف إلى مناعته البيولوجية والنفسية (نستحضر بعض الطروحات التي تنتقد سياسة التباعد والحجر الصحي) ، وعلى غرار هذا العزل الاجتماعي فنحن نتعرض اليوم أيضا لما يسمى "بالعزل الإعلامي" ومفاده مجموعة من الإرشادات والنصائح التي يقال أنها -تستمد مشروعيتها من المنظور النفسي- تؤكد على ضرورة تجنب وسائل الإعلام في الوقت الحالي.

وبالتالي، وجدنا أنفسنا نحتكم لنوعين من التباعد:
 تباعد ضد فيروس كورونا المادية في الواقع الحسي؛
 تباعد ضد فيروس كورونا الإعلامية في الواقع الافتراضي؛

بالنسبة للنوع الأول: نلاحظ اليوم لظروف أملتها الضرورة السياسية والأمنية الصحية للبلد-اعتمادا على تقارير علمية أو أحيانا تبعا لتجارب البلدان التي نجحت في احتواء الفيروس- أن أفكار و تمثلات الأفراد أصبحت مشتركة في ظرف زمني وجيز؛ تجلى ذلك من خلال (التعاقد الاجتماعي الحالي للأفراد مع مؤسسة الدولة على الحجر الصحي).

أما بالنسبة للنوع الثاني: نلاحظه مؤخرا في مختلف منصات الدعم النفسي في مواقع التواصل الاجتماعي أو مختلف المنابر الإعلامية الأخرى، من حيث التوجيهات والنصائح التي تسديها، والتي بدورها يبدوا أنها خضعت لنوع من التعاقد والتحيز لصالح –التدبير الحالي- وأغفلت أسسها السيكولوجية، وهو ما يطرح تساؤلا حول هذه الخلايا والمنصات:
هل بدورها قد خضعت لنوعية من التفكير المشترك والمعرفة الجاهزة -المستوردة- (أي صالحة لكل من يسدي النصائح)، أم أنها تستقي مصداقية تدخلها وإرشادها من مصادر علمية موضوعية تحترم خصائص الفرد ووحدته النفسية؟

اليوم في السيكولوجيات الحديثة صرنا نتحدث عن تمثل التمثل في علم النفس الصورة أو علم النفس عموما، بعبارة أخرى أننا صرنا نتمثل الأشياء الملموسة -الحسية- ليس من الواقع عينه، وإنما من واقع أخر صار اليوم بديلا وكفيلا لإنتاج تمثلات وصور ذهنية أخرى، دون الحاجة أحيانا لمرجعية الواقع.

مجموعة من مدركات العامة اليوم لمختلف القضايا والمسائل وأحيانا المشكلات التي نعيشها، لم تعد تخضع لتفكير استدلالي منطقي موضوعي شخصي ، وإنما يعد مصدرها الرئيسي التفكير الافتراضي المشترك في الصورة التي يقدمها الإعلام، (وغالبية مواقع التواصل الاجتماعي)، الذي أصبح يوحد بسهولة تامة جملة التصورات و التمثلات التي يستحضرها الأفراد في كلامهم وطريقة تعاطيهم مع الحياة في وضعها الراهن.

بل الأخطر من ذلك أنها لم تعد تقتصر على جوانب تتعلق فقط بما هو رمزي دلالي (يخص تغيير تمثلات الأفراد وتصوراتهم حول الوضع الحالي)، بل شملت أيضا الجانب العملياتي الاستراتيجياتي (أي طريقة التعاطي الخاصة، التي يوظفها الفرد في حماية نفسه)، بحيث لم تترك لحالها، وثم انتزاعها وتحويلها من جانبها الفردي الخاص الذي يمتاز بطاقة لاواعية منيعة، إلى طريقة تعاطي عامة يجب أن يلتزم بها الجميع، ثم تحديدها في استراتيجيات جماعية، تستند في أساسها على المادة الإعلامية لتحقيق التوافق النفسي، وهو ما يجعل الفرد يخضع في تقييم صحته النفسية لنوع من المقارنة الخاطئة على سبيل المثال التالي: (إذا لم تبتعد عن الأخبار فلا تنتظر أن تنعم بصحة نفسية جيدة)، فبالرغم من أنه بخير -اعتمادا على إستراتيجيته- مع ذلك يعتقد في نفسه على أنه لن يكون بخير، إلا إذا حدا حدو الجميع بالالتزام بالابتعاد عن الأخبار.

جل هذه الإرشادات والتوجيهات قد تكون أحيانا أخطر بكثير ليس سواء على المضطرب نفسيا بل أيضا على المشاهد أو المستمع العادي -السوي- في حد ذاته، لأنها تخلق لديه نوعا من التشكيك والتغيير في قدراته واستراتجياته وكفائتة الخاصة في التعامل مع مختلف المسائل التي يواجها.

تظهر هنا إذن، خطورة الإعلام، ليس فقط فيما يقدمه من مادة خبرية ربحية، صائبة أو خاطئة، قد تسعى لترهيب الأفراد أو كأداة لإحكامهم في منازلهم سواء بالمفهوم القدحي أو الغير القدحي (الحجر الصحي)، بل تتجلى خطورته كذلك في الإرشادات النفسية التي توجه للفرد والتي تتطفل على فرادته ووحدته ومختلف طرق تفكيره واستراتجياته واسناداته.

لذلك حرصت دائما أخلاقيات مختلف المصادر العلمية السيكولوجية خصوصا الحديثة منها سواء في ميدان العلاج والإرشاد النفسي أو التعلم والتربية على الإعلام و التأهيل الإنساني؛ بالتركيز على مشاكل الأفراد من خلال الإنصات لمعاناتهم والتعاطف معهم واحترام خصوصياتهم، وليس الخوض في نصائح وإرشادات شبيهه بالأسلوب الكهنوتي، تتدخل وتقلل من استراتجياتهم التي تبدو كافية، بل فقط يجب إعادة إحيائها وتقديرها وتقويمها لتعود لمجراها الطبيعي بعد الحملة الإعلامية التي عطلت نشاطها، فضلا عن مساعدتهم على الوعي باستراتيجياتهم الخاصة للتعامل مع مثل هذه المواقف التي تعذر عليهم في الوقت الحالي نظرا لشدة الصدمة كيفية تشغيلها وتفعيلها من جديد، وليس طمسها وتغييرها باستراتجيات مافتئت أن تكون سوى سلعة مستهلكة متداولة لدى الغير الأخصائيين وأحيانا حتى الأخصائيين؛ تعمل على تخدير تمثلاتهم ومناعتهم، في عوض تقدير قدراتهم الذاتية وتعزيز إجراءات المواجهة لديهم.

بعض المراجع المعتمدة: (بالعربية)

1. أندريه بوفر (1970). مدخل إلى الإستراتيجية العسكرية، (ترجمة أكرم ديري)، لبنان، بيروت: دار الطليعة للنشر، ص: 28.
2. د. محمد مكسي، و أولحاج (2016). سيكولوجية اكتساب اللغة واليات التفكير والتذكر والتخيل، المغرب، الدار البيضاء: مطبعة النجاح الجديدة، ص: 83.
3. د. على أفرفار (1998). مدخل نظري إلى تكون صورة المرأة لدى الطفل، لبنان، بيروت: دار الطليعة، ص. 61.
4. د. كمال اللبواني (2020). مقال حول: كورونا، جنون وأكاذيب، وحكومات ترهب شعوبها لتسرقهم، بريطانيا: موقع جريدة ليفانت: https://thelevantnews.com/2020/03

Les Références :

1. Paulhan, I. & Bourgeois, M. (1995). Stress et coping: les stratégies d ajustement à l adversité (Ed: 2), France, Paris: PUF.
2. M .Donaldson (1983). Children’s minds (Ed: 6), London: Fontana/Collins, p: 129-145.
3. Festinger L (1954). A theory of social comparison processes. Human Relation, (7), p. 117-140.
4. Rogers C. (2008). La relation d aide et la psychothérapie (1942), France, Paris: ESF Editeur.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جيل الشباب في ألمانيا -محبط وينزلق سياسيا نحو اليمين-| الأخب


.. الجيش الإسرائيلي يدعو سكان رفح إلى إخلائها وسط تهديد بهجوم ب




.. هل يمكن نشرُ قوات عربية أو دولية في الضفة الغربية وقطاع غزة


.. -ماكرون السبب-.. روسيا تعلق على التدريبات النووية قرب أوكران




.. خلافات الصين وأوروبا.. ابتسامات ماكرون و جين بينغ لن تحجبها