الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النحو العربي ولا واقعية المفاهيم

علي حسين يوسف
(Ali Huseein Yousif)

2020 / 4 / 28
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


يبدو أن النحو العربي بعد سنوات من بداية تدوينه تحول إلى مجموعة كبيرة من القواعد الشائكة التي يتسم أكثرها باللاواقعية ؛ ولا واقعية النحو كانت نتيجة طبيعية للدافع التبريري الذي وجد النحو العربي على أساسه فقد أريد للنحو العربي منذ الوهلة الأولى أن يكون تبريرا لقواعد لهجة قريش بعد أن أصبحت هذه اللهجة لغة الدين والدولة عقب ظهور الاسلام وعلى هذا الأساس خلقت القواعد النحوية وصنعت الشواهد التي تؤيدها ومن ثم كانت هناك الأبواب النحوية المثقلة بالتفريعات وما زاد الأمر تعقيدا بعد ذلك ربط النحاة مسائل العلة والمعلول والعامل والاسناد والسبب والمسبب التي أخذوها من المنطق اليوناني بمسائل النحو العربي , كذلك الخلافات بين نحاة البصرة ونحاة الكوفة والخلافات بين نحاة المدرسة الواحدة .
وما تقدم جعل كثير من مسائل النحو العربي تستعصي على أفهام النحاة أنفسهم , فقد روى السيوطي ـ وإن لم نسلّم حرفيّا بما روى ـ في كتابه ( بغية الوعّاة ) أن الكسائي قد مات وهو لا يعرف شيئا عن نِعمَ وبِئسَ وأنَّ المفتوحة والحكاية !. . . وأنَّ الخليل لم يكن يحسن موضوع النداء . . . وأن سيبويه لم يكن يدري معنى التعجب وكان يلحن في كلامه !
وذكروا أن رجلا قال لابن خالويه : أريد أن تعلمني النحو والعربية كي أقيم به لساني .
فقال له ابن خالويه : أنا منذ خمسين سنة أتعلم النحو وما تعلمت ما أقيم به لساني .
وهكذا نجد أن السبب في ذلك يعود إلى النحاة أنفسهم فقد جعلوا منه صنعة غامضة تقتصر على نفر قليل تعمّدا انطلاقا من قاعدة (العلم المضنون به على غير أهله) وكتاب سيبويه خير مثال على صعوبة مصطلحات النحو وغموضها إلى الحد الذي تطلب جهودا من نحاة معاصرين أن يتطوعوا لشرحه وفك مفاتيحه , وبذلك كان النحو أداة للكسب وجمع المال كما يفعل الشعراء الذين أثاروا حفيظة النحاة بثرائهم وعلاقاتهم مع أصحاب السلطة ، فقد روى الجاحظ في كتاب الحيوان ، أنه قيل للأخفش : مالك تكتب الكتاب فتبدؤه عذبا سائغا ثم تجعله غامضا ثم تعود به كما بدأت ؟
قال : ذلك لأن الناس إذا فهموا الواضح فسرَّهم ، أتوني ففسرت لهم الغامض فأخذت منهم ( النقود) !
وروي السيوطي أيضا : أن سيف الدولة قال ذات ليلة : هل تعرفون اسما ممدودا جمعه مقصور .
فقالوا : لا .
فقال لابن خالويه وكان حاضرا : ما تقول أنت ؟
فقال : أنا أعرف اسمين .
قال : ما هما ؟
قال : لا أقول لك حتى تعطيني عن كل اسم ألف درهم ! . .
وكان نفطويه لا ُيقرئ كتاب سيبويه إلا إذا أخذ المال في جيبه .
وحين ألف السيرافي كتابه الإقناع وجعله واضحا مفهوما هاجمه أصحاب الصنعة حتى قالوا فيه : لقد جعل السيرافي النحو على المزابل يتعلمه من يشاء !!!!
ومن الاستقراء البسيط لموضوعات النحو العربي وأبوابه الأساسية يمكن أن نلاحظ لا واقعية كثير من المفاهيم والموضوعات والطرائق التي يستخدمها هذا النحو , وتتجسد اللاواقعية قبل كل شيء في الأمثلة المفتعلة التي لم تنسب لأحدٍ من العرب قط , هذه الأمثلة التي تعج بها كتب النحو القديمة ليعجب المرء كيف ساغ للنحاة افتعالها من أجل تبرير قاعدة نحوية ما , كما نجد لا واقعية النحو في عدم انطباق المفهوم النحوي على مصاديقه من الناحية الدلالية فالمتبادر عقليا من مصطلح الفاعل ـ مثلا ـ أنه من يقوم بالفعل وهذه بديهة لكننا نجد الفاعل في كثير من أمثلة النحو العربي غير ذلك بل ربما نجده هو من وقع عليه الفعل ولم يقم به البتة كما في الجمل : (سقط الحجرُ , وانفتح البابُ , ومات الرجلُ) , وقد حاول النحويون ردم هذه المفارقة المنطقية بأن أضافوا لتعريف الفاعل جملة : هو ما أسند إليه فعل .
ومما سبق أضفى على كثير من أبواب النحو شيئا من التناقض المنطقي فالفاعل في جملة : (أكل محمدٌ التفاحةَ) هو الفاعل ذاته في جملة : (لم يأكلْ محمدٌ التفاحةَ) رغم أنّ محمدا في الجملة الثانية لم يأكل التفاحة ولم يقم بالفعل .
ونجد اللا واقعية ـ أيضا ـ متمثلة في اختراع النحاة لأبواب لا مسوغ لها سوى محاكاة أبواب المنطق مما زادت تلك الأبواب في ترهل القواعد النحوية وكثرتها فالنحاة قد يخترعون بابا جديدا ليكون مقابلا لأحد الأبواب الموجودة كما في باب (الجمل التي لا محل من الاعراب) فقد وضعه النحاة ليكون مقابلا لباب (الجمل التي لها محل من الاعراب) ليس إلا , وينسحب الأمر على تلك الأبواب التي لا دلالة واضحة لمفاهيمها , مثل: المفعول المطلق والمفعول معه والتمييز والضمير كذلك نلاحظ اللا واقعية في تضييق دلالات عدد من المفاهيم وتقييده على عدد محدود منها كما في مفاهيم مثل : الفاعل والمبتدأ والخبر والحال , فمن المعروف ـ مثلا ـ أن نصف الجمل العربية تقريبا تفيد الإخبار لكننا نجد لها في النحو تسميات أخرى فيما نجد مصطلح الخبر لا يطلق عليها وينطبق على ألفاظ محددة , وقد انسحب ذلك كله على تعدد الأوجه الاعرابية إلى الحد الذي نجد فيه الخلافات في الاعراب تكاد أن تضيع هويات عدد من الأبواب النحوية كما في أبواب النعت المنقطع والاشتغال والتنازع , وقد انسحب الامر أيضا على تداخل الأبواب والموضوعات فيما بينها , كما في باب اعراب الجمل الذي يتداخل مع أبواب النحو الأساسية أغلبها , وفي تداخل موضوع الجزم مع موضوع الشرط , ونجده كذلك نجده في التقسيمات المتباينة لأبواب النحو .
واللا واقعية تتمثل أيضا في غياب الهوية المحددة للنحو وما غياب التحديد الواضح لأبوابه وتداخلها مع علوم أخرى إلا دليل على ما نقول فهناك تداخل للنحو مع علمي الصرف والمعاني كما نجده في موضوعات : دراسة الكلمة وباب المشتقات وأبواب الفعل , وباب التقديم والتأخير وباب الحذف وباب التوكيد وباب الاستفهام وباب الشرط وباب النفي .
ويمكن ملاحظة تمثل آخر من تمثلات اللاواقعية في النحو العربي في ذلك الخلط المربك بين أكثر من أساس في تقسيم أبوابه فنجدهم يخلطون في توزيع الموضوعات بين التقسيم على أساس مكونات الكلام : اسم وفعل وحرف مع التقسيم على أساس علامات الاعراب : المرفوعات والمنصوبات والمجرورات مع التقسيم على أساس المبنيات والمعربات مع التقسيم على أساس أنواع الجمل والأساليب وربما وجدنا كل ذلك في كتاب واحد .
وبناء ما تقدم يمكن أن نقول أخيرا أن لا واقعية النحو العربي كانت أحد الأسباب الأساسية في عدم مسايرته لمتطلبات لغتنا المعاصرة التي امتزجت فيها شتى الأساليب المولدة والأمثلة المستجدة فضلا على الطرائق المترجمة وهو ما يتطلب نحوا معاصرا يسايرها لكننا لا يمكن مطلقا تناسي جهود النحاة الذين حاولوا تيسير النحو وتشذيب أبوابه وتهذيبها فتلك الجهود أسهمت في تقريب كثير من مسائل النحو وتطويع لغته لتتناسب وأفهام الجيل المعاصر .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حرب غزة..احتجاجات جامعات أميركية | #غرفة_الأخبار


.. مساعدات بمليار يورو.. هل تدفع أوروبا لتوطين السوريين في لبنا




.. طيران الاحتلال يقصف عددا من المنازل في رفح بقطاع غزة


.. مشاهد لفض الشرطة الأمريكية اعتصاما تضامنيا مع غزة في جامعة و




.. جامعة فوردهام تعلق دراسة طلاب مؤيدين لفلسطين في أمريكا