الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قوة العقل وعنصرية الانسان ضد الموجودات

وليد عيسى شدود

2020 / 4 / 29
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


على حافة الجمال والابداع توقفتُ متأملاً أمواج البحر التي تقَبِّل صخور الشاطئ بصورةٍ متناغمةٍ كعاشق تثور حمم الهيام في قلبه مع كل قُبلة يرسمها على جسد حبيبته. رفعت نظري لتقع عينيّ على وُسْع الوجودِ وعظمته, فيأخذني التفكير إلى ما وراء التناغم المنتهي الروعة, وهكذا إلى أن اصطدمتُ بعلامةٍ شاذةٍ في هذه النوتة الموسيقية أو لونٍ خارجٍ عن المألوف في لوحة بالغة الأناقة, إنّه الإنسان, نعم هذا الكائن الذي يستوقفني سلوكه الجمعي في كل مرة أغوص فيها متأملاً في هذا الكون العجيب, أَجتهد كثيراً بيني وبين نفسي لإيجاد الدليل على عظمة هذا الإنسان أو دليلاً لفكرة أنه يعمّر الأرض فلا أجد ما يدل على ذلك لا في التاريخ السحيق ولا في الحاضر الآنيّ. لقد تمادى هذا الكائن كثيراً واجتاحته الأنانية وامتلكه الغرور والإستعلاء على كل ما حوله من وجودٍ حينما اكتشف قوة عقله وقوة دماغه التي أمّنت له القدرة على البقاء.
واليوم لا أحد يجادل في أنّ نمو دماغ الإنسان كان أمراً تطورياً عبر ملايين السنين, ويعتبر تحديد التغيرات الحاصلة في الدماغ عبر الوقت أمراً صعباً جداً, إذ يقول العلماء أنّ حجم دماغ الإنسان قد تضاعف ثلاثة اضعاف ماكان عليه من قبل ومعظم هذه الزيادة كانت في المليوني سنة السابقة, وأننا لسنا المخلوقات الوحيدة التي تمتلك عقلاً, ولكنّ عقلنا فريد من نوعه من حيث حجمه النسبي لأجسادنا ومن حيث تعقيده أيضاً, فالفارق في المستوى الإدراكي المتفاوت بين الموجودات يعود إلى البنية التركيبة والمادية المكونة له, وفي بعض الأحيان نفترض بأنّ الخلايا العصبية تطورت لتنفيذ أوامر الدماغ وهذا خطأ, بل كان هذا التطور لتعزيز بقاء الانواع الموجودة وليس بالضرورة لتطوير دماغ هذه الكائنات والأنواع, وبهذا لم يكن الوعي إلا نتاج طبيعي وضروري لازدياد الخلايا العصبية في دماغ الانسان, وأول ما وعاه الإنسان برأيي أنا كان قوة عقله هذه وقدرته على الإستفادة منها لتأمين بقائه.
وبناء عليه يمكننا القول بأنّ الإنسان استطاع بقوة عقله البقاء والاستمرار لملايين السنين, وطالما أن عقله وقوة التفكير لديه كانت سبباً في بقاء نسلة ونقطة قوته وسرّ استمرار وجوده, فقد كان من البديهي أن يقول بسموِّ العقل إلى درجة تقديسه وإعطائه مرتبةَ أشرفِ الموجودات أو أشرفِ المخلوقات حسب المصطلح الديني, فأحسًّ هنا الإنسان بعظمته وأصابه الغرور مما امتلكه من قوة العقل فاعتبر نفسه أرقى الموجودات وأكثرها أهمية, حتى انّه ذهب بغروره وحماقته واعتداده بعقله إلى أن توهم أنّ كل هذا الكون بما فيه قد وُجِد لأجله, وأنّ هذه الأرض التي يعيش عليها هي محور هذا الكون, ولقد جَعَله هذا الوهم الذي يسيطر عليه يعتبر نفسه سيد الوجود وأنّ بقية الكائنات خُلقت وسُخّرت لخدمته, فمارس عنصريته بأبشع صورها ضد كل الموجودات والكائنات, ولم يَعُد بعد الآن نمط حياته نمطاً من أنماط الصراع من أجل البقاء, لا بل أصبح نمطاً من الأنانية والعنصرية والإستعلاء على كل ما هو موجود, فهو يتصرف كمالك وحيد وحصري لهذا الوجود.
إذاً لم يتعدّ العقل عند الإنسان أن يكون أكثر من نقطة قوة وقدرة تمكّنه من الاستمرار والبقاء, فكما الطيران هو قدرة الطيور والشم هو قدرة الدببة والكلاب, والتنفس تحت الماء هو قدرة السمك والتلوّن والتمويه هي قدرة الحرباء والى ما هنالك من أمثلة لقدرات الموجودات, يكون العقل قدرةً انسانيةً أيضاً اختصّ بها الإنسان, وليس جوهراً خاصاً ولا ميزة تفضيل على بقية الموجودات, وبما أنّ كل هذه الموجودات والكائنات هي حال من أحوال أو أوجه أو أشكال أو تجليات هذا الوجود, فهي تمتلك قدرة معينة تناسبها لاستمرار بقائها, ولكن لا تعطيها الأفضلية على غيرها من الموجودات.
فلو استطعنا تخيل الموجودات بإدراك يحاكي إدراك ومنطق عقل الانسان, فماذا كانت ستقول الطيور مثلاً وهي تنظر إلى هذا الكائن البشري؟, ربما كانت ستقول يالهذا الكائن التافه والبسيط والبدائي الذي لا يملك أجنحة ولا قدرة له على الطيران, فهي ربما تعتز وتعتبر أنّ هذه الميزة هي أهم ما هو موجود في هذا العالم وهي تنظر الى هذا الإنسان الذي يعتبر نفسه سيد الكون, على أنه كمثل حشرة يجري على الأرض ليقطع مسافات طويلة بزمن يستغرق أياماً, وتستطيع هي أن تقطعه بثوان او دقائق, حتى أنه يمكننا تخيل لسان حال البرمائيات وكل الحيوانات والنباتات حتى, ولو افترضنا أنّ المعادن حصلت على نوع من الإدراك وأدركت صلابتها في مكان ما, فمن المؤكد انها ستعتبر صلابتها أهم ميزة في هذا الوجود وهكذا.
لقد قال الفيلسوف باروخ اسبينوزا: "إنّ هذا العقل أو الفكر ليس ميزة للإنسان يتفضّل فيها أو يتميز بها في هذا العالم على غيره من الأشياء أو الكائنات الأخرى, فالأشياء كلها وبشكل مطلق متساوية لافرق بينها إلا بالقدرة أو القوة في هذا الوجود, فكل شيء عنده قدرة أو قوة مختلفة, ولا تمييز لأحد عن الآخر أبداً إلا بالقدرة والقوة ".
وخاطب اسبينوزا الإنسان الذي غرّه قوته وسطوته أيضاً فقال: " أَفِق أيها الإنسان ولا يركبنّك الغرور, فلا ميزة ولا أهمية لك في هذا العالم أكثر مما لأصغر حشرة تتشارك أنت وإياها هذا الوجود وهذه الطبيعة من أهمية ".
وأخيراً أدعوك أيها الإنسان للعودة إلى فطرةِ الطبيعة أي الفطرة الأولى, تلك الفطرة السليمة التي تمنحك الطمأنينة والسلام للعيش والتعايش مع بقية الموجودات في هذا الكون الرّحب, وأن تعود الى نفسك ولا تنسى أنك جزء من كل, وأنّ كل موجود مهما صغر حجمه لن يقلَّ شأنه لأن له دور, ويشاركك الحق في الوجود والبقاء, واقترب من منطق الموجودات الأخرى وافهمها, فإن كنت قادراً فساعدها, ولاتدمرها يا أيها الانسان.
ويبقى سؤالي دوماً هل حقيقةّ كان عقل الإنسان هذا هو أشرف الموجودات أو المخلوقات؟ وإن كان كذلك فهل هو أشرفها في كل الوجود أم هو أشرفها عند الإنسان فقط؟.
(شدّود في ابريل 2020)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غزة : شهادة طبيب • فرانس 24 / FRANCE 24


.. -يوروفيجن- في قلب التجاذبات حول غزة • فرانس 24 / FRANCE 24




.. الذكاء الاصطناعي يفتح جولة جديدة في الحرب التجارية بين بكين


.. إسرائيل نفذت عمليات عسكرية في كل قطاع غزة من الشمال وصولا إل




.. عرض عسكري في موسكو بمناسبة الذكرى الـ79 للانتصار على ألمانيا