الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جدلية العائق و القطيعة في علم الفيزياء

سلام المصطفى

2020 / 5 / 1
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


سيطرت مقولة الإتصال و الإستمرار في الفكر الفلسفي الكلاسيكي عامة و الفكر العلمي الكلاسيكي خاصة , فقانون الأطوار الثلاث لعالم الاجتماع الفرنسي اوغست كونت يؤسس اللبنة الأولى لبناء مقولة الإستمرار في الفكر الإنساني , حيث هذا الأخير في حالة صيرورة التي مرت من الميثولوجيا إلى الميتافيزيقا لتدخل نحو معبد الوضعية , و هكذا نجد أن فيلسوف العلم اوغست كونت وضع الفكر في امتداد لثلاث مراحل وصفت تطور العقل الإنساني .

لكن نتيجة للثورات العلمية الذي عرفها العلم المعاصر خصوصا في نظرية النسبية و ميكانيكا الكم و نظرية الفوضى و نظرية المعلومات , تم إعادة النظر في مقولة الإستمرار حيث تم نحت مفاهيم جديدة في مجال فلسفة العلوم لتتوافق و العلوم المعاصرة , و من أبرز هذه المفاهيم نجد مفهوم القطيعة الذي يعبر عن معنى الإنفصال , و عندما يذكر هذا المفهوم فإننا نتحدث بالضرورة عن إبستيمولوجي العلوم الطبيعية غاستون باشلار , مؤسس الإبستيمولوجيا المعاصرة أو كما يسميها "العقلانية التطبيقية" , و من خلال هذا المفهوم أعاد باشلار قراءة تاريخ العلوم عامة و علوم الفيزياء خاصة .

و قد شكل مفهوم القطيعة نقطة إنطلاق للعديد من المفكرين من أبرزهم ميشيل فوكو و لوي ألتوسير حيث الأول طبقه في تاريخ الأنساق المعرفية و الثاني استخدمه في تجديد الخطاب الماركسي و إنقاذه من القراءات الأيديولوجية , و لا ننسى أن مفهوم القطيعة دخل إلى الفكر العربي المعاصر من خلال كتابات المفكر المغربي محمد عابد الجابري في قراءته النقدية و المعاصرة للتراث الفلسفي العربي الإسلامي .

قبل أن نتطرق إلى جدلية العائق و القطيعة في تشكيل الفكر العلمي المعاصر خاصة علم الفيزياء , دعونا نتعرف عن مفهوم العائق و القطيعة في الخطاب الإبستيمولوجي الباشلاري , حيث تشكل ابستيمولوجيا باشلار منعرجا جديدا و فريدا و نقطة التحول في مسارات تحليل القول العلمي المعاصر , و جاءت فلسفته العلمية لتصحيح أخطاء سابقيه في مجال المعرفة العلمية أمثال "غوبلو" و "برونشفيك" و "إميل مايرسون" و من خلال ما استحدثه من مفاهيم و مصطلحات لتفسير حركية العلم و من أبرز هذه المفاهيم نجد مفهوم العائق الذي يسميه باشلار "المكبوت العقلي" , و هو بوجه عام كل ما من شأنه أن يعوق الفكر أو الإرادة من شواغل داخلية و خارجية , و منه ما هو طبيعي و ما هو اجتماعي و ما هو نفسي و ما هو سياسي و اقتصادي فمفهوم العائق مصطلح باشلاري بامتياز , و يقصد به ما يعترض سبيل العلم فيعرقل تقدمه و يعطل سيره , و لقد حدد باشلار للعائق الإبستيمولوجي عدة صور و أنواع من أبرزها عائق التجربة الأولى و الذي يتجلى في الخبرة الأولية أو الموقف الطبيعي و كذلك عائق المعرفة العامة الذي يتجلى في الإبستيمية التي سيطرت على الفكر الإنساني من أرسطو إلى بيكون , كما هناك أيضا العائق اللغوي و اللفظي و كذلك العائق الجوهري و الذي يتجلى في التخلص من معرفة باطن الأشياء أو ماهيات الأشياء , و العائق يشترك في علاقة جدلية مع مفهوم القطيعة الإبستيمولوجية حيث هذه الأخيرة تعد من المحاور الأساسية في البناء المنهجي الباشلاري , فهي فكرة جوهرية في فلسفته و هي مفهوم باشلاري بامتياز , و لقد نحت باشلار هذا المصطلح ليشير من خلاله إلى نقطة التحول التاريخية في حياة نظرية علمية ما , بحيث هذه النظرية تصبح باطلة و غير قادرة على تفسير وقائع جديدة في العلم المعاصر , و يصبح من الضروري إنتاج نظرية جديدة بمفاهيم مختلفة تماما عن النظرية السابقة , و لأجل ذلك يقرر باشلار أن تاريخ العلم هو تاريخ للقطائع الإبستيمولوجية , حيث لا يعدو أن يكون العلم سوى سلسلة من الأخطاء المتعاقبة , فتاريخ العلم هو " تاريخ أخطاء العلم " أو بعبارة أخرى إن تاريخ العلم هو جدلية العائق و القطيعة .

و الآن بعد أن أشرنا إلى مفهوم العائق و القطيعة و العلاقة الجدلية بينهما سنسعى إلى تطبيق هذه المفاهيم في ديناميكية علم الفيزياء , حيث هذا الأخير مر بثلاث قطائع في تاريخه , الأولى في الخطاب الأرسطي و الثانية في الخطاب الغاليلي و النيوتوني و الثالثة في الخطاب الآينشتايني و ديراكي , فالخطاب الأول طبق مفاهيمه لفهم حركة الكون و تحولات المادة , فمثلا يرجع سقوط الأجسام إلى كنهها و الذي يكمن في الحنين إلى الرجوع لمواضعها الأصلية , و كذلك تحول المادة راجع إلى الحب باعتباره يساهم في تماسك المواد و الكراهية باعتبارها تساهم في إنفصال المواد , كما شكل هذا الخطاب بمفاهيمه مجموعة من العوائق الذي عرقل تطور الفكر العلمي , حتى آتى العالم و الفيلسوف الإيطالي غاليليو غاليلي الذي يعتبر أول من قام بالقطيعة الإبستيمولوجية بين العلم القديم و العلم الجديد , حيث استبدل جميع المفاهيم الأرسطية لتعويضها بمفاهيم أخرى جديدة انفصالية عن الخطاب السابق , كما تم استكمال هذا الخطاب عن طريق سير إسحاق نيوتن باعتباره أن كل ما هو موجود في هذا الكون يخضع لقوانين حتمية قابلة للدراسة و التقنين المنطقي , فأصبح خطاب غاليلي و نيوتن يشكل الحجر الأساس في بناء العلوم الطبيعية , لكن تعرض هذا الخطاب إلى مجموعة من الإنتقادات خصوصا في مسألة إطلاقية الزمان و المكان بالإضافة إلى عدم تفسيره للعديد من الوقائع الجديدة , فاستبدل هذا الخطاب بمفاهيم مغايرة و كذلك ثورية عن طريق عالم الفيزياء ألبرت آينشتاين بنظريته النسبية التي غيرت نظرتنا حول الكون خصوصا في مسألة امتزاج الزمان و المكان في تشكيل نسيج هندسي كوني مرن قابل للتشويه بواسطة تنسور الطاقة-العزوم الحركية , و لا ننسى كذلك نظرية الكم التي تأسست عن طريق العلماء الألمان و الإنجليز من أبرزهم ماكس بلانك و فيرنر هايزنبرج و ماكس بورن مع ارفين شرودينغر و العملاق بول ديراك , حيث هذه النظرية غيرت المنطق الأرسطي و أسس الفيزياء الكلاسيكية , فالعالم الميكروسكوبي يتجلى في البعد اللاحتمي و اللاقانوني لسلوك الجسيمات دون الذرية , و بهذا يكون الخطاب الآينشتايني و ديراكي يشكل الإبستيمية الحالية في الفيزياء المعاصرة .
_____________
المراجع :
تكوين مفهوم الممارسة الإبستيمولوجية عند باشلار : محمد هشام .
فلسفة العلم في القرن العشرين : يمنى طريف خولي , مؤسسة هنداوي للتعليم و الثقافة , القاهرة-مصر .
فلسفة المعرفة عند باشلار : محمد وقيدي دار الطليعة , بيروت-لبنان .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بايدن أمام خيارات صعبة في التعامل مع احتجاجات الجامعات


.. مظاهرة واعتصام بجامعة مانشستر للمطالبة بوقف الحرب على غزة وو




.. ما أهمية الصور التي حصلت عليها الجزيرة لمسيرة إسرائيلية أسقط


.. فيضانات وانهيارات أرضية في البرازيل تودي بحياة 36 شخصا




.. الاحتجاجات الطلابية على حرب غزة تمتد إلى جامعة لوزان بسويسرا