الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سعد والهلباوي -2-

محمد فرحات

2020 / 5 / 2
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


كتبه، محمد فرحات
يفكر الهلباوي عميقا فيما كان وما سيكون، يفكر بعيدا عن أي اعتبار سوى نجاته وخلاصه الفردي، وماذا فعلت له الجموع التي هتفت معه ضد الطغيان، أين هي تلك الجموع الآن؟ أين تبخرت في لحظة عين، يكتب الهلباوي عريضة استرحام للسير محمد سلطان باشا، نعم سيذكرك بلا ريب فهو كان من رفاق الثورة يوما، ثم، باع الثورة وباع عرابي، وأنعمت عليه الملكة فيكتوريا بلقب سير، وأنعم عليه الخديوي بعشرة آلاف جنيه ذهبي، وبرئاسة مجلس شورى النواب، حتما سيذكرك سلطان باشا سيذكرك، فهل سينساك الجميع؟

لم ينسه سير محمد سلطان، بل ويعينه كاتبا في المجلس، يتدرج الهلباوي في المناصب، ليصبح رئيسا لكتاب المجلس براتب شهري قدره أربعين جنيها .

لم يجد الهلباوي ذاته في حياة الموظفين، فكثر شغبه و جداله وتمرده، فيفصل من المجلس، فيرفع قضية تعويض ويترافع هو عن نفسه لتهتز قاعة المحكمة بصوته الجهوري، وتنصاع لمنطقه المحكم وتقضي له بتعويض كبير، ليجد الهلباوي نفسه أخيرا في ساحات المحاكم، ويحترف المحاماة وهو بعد في الثامنة والعشرين من عمره .

وكانت مهنة المحاماة في ذاك الزمن مساوية لمهنة مزور منمق!، وفي نفس العام 1886 يحترف سعد زغلول- الذي نجا من محاكمات الثورة العرابية بفضل علاقاته القوية- المحاماة، ليقابل سعد الهلباوي في ساحات المحاكم، وتتجدد المنافسة مع غريمه اللدود، لـتتصارع أقدارهما بلا هوادة، وكأن مصير سعد والهلباوي يتشابك كلاهما بفعل قدر لا يغفل عنهما، يحلو له أن يشاهد هذا الصراع الذي لا يهدأ ولا يفتر.

يقول سعد زغلول لاحقا "إني اشتغلت بالمحاماة متنكرا عن أهلي وأصحابي، وكلما سألني سائل: هل صرت محاميا؟

أقول: معاذ الله أن أكون كقوم خاسرين."

يستأجر الهلباوي غرفة بطنطا، لتصبح مكتبا له، لتأخذه حمى العمل المستعرة، لا يكل الهلباوي ولا يمل ليجوب مدن مصر، يجلجل بصوته في ساحات محاكمها ما بين القضايا الجنائية والمدنية والشرعية لا يخسر قضية واحدة، يفوق الهلباوي سعدا في عالم المحاماة ليصبح في فترة قياسية محام مصر الأول.

هل تهدأ المنافسة بين الرجلين، يقر سعد زغلول بهزيمته، ولكنه يبحث عن باب آخر للمجد، ليس في ساحات المحاكم هذه المرة ولا في الصحافة، لا ولا في السياسة، بل في قصور هوانم مصر و بشواتها، تحديدا قصر الأميرة نازلي فاضل، تتردد الإشاعات بغرام الأميرة المتقد بهذا الفلاح الأسمر ممشوق القامة، ثم تتوسط لسبب ما لدى مصطفى فهمي باشا، ليتزوج سعد زغلول بكريمته صفية هانم، لم يكن لمصطفى باشا فهمي- رئيس وزراء مصر التركي الأصل- ليقبل بهذه الزيجة لولا تدخل الأميرة نازلي، يتزوج سعد من صفية .

ماذا سيفعل الهلباوي حيال هذه الضربة، يحاول هو الآخر الارتباط بإحدى الهوانم، ولكنه لم يفلح هذه المرة بوجهه الصارم وجديته الشديدة ومنطقه القوي، لا تحتمل هانم ذلك، فضلا عن أصله الفلاحي المتواضع، وقبل ذلك كله من أين له بوساطة أميرة مثل نازلي هانم فاضل؟!

لا بأس يا هلباوي، إن لم تتح أميرة، فوصيفة متاحة، وليكن، فليتزوج من تركية أو شركسية، فجارية بيضاء متاحة من قصر الأميرة فاطمة بنت الخديوي المخلوع إسماعيل، يتزوجها الهلباوي ويعود بها إلى طنطا .

لا تتعجب من هذا المسار البرجماتي الصارخ، ولكن هذا الجيل كان ابنا شرعيا لثورة مهزومة، مغتصبة، مذبوحة، كان أيضا جيلا مهزوما، مغتصبا، مذبوحا.

يقول المرحوم صلاح عيسى "ذلك أن الجراح التي عانتها الأمة بهزيمة الثورة، كانت تطرح نفسها على الجيل، وبدا لمعظم عناصره وخاصة المثقفين أن شيئا لا يمكن أن يصلح ما أفسده الدهر، وإذن فلا أمل في شيء، كان معظمهم ينتمون في كتلتهم الكبرى إلى الطبقة الوسطى الصغيرة في المدينة والريف، وفي رحلة الصعود الشاق من أسفل السلم الاجتماعى إلى قمته- حيث النجاح والثروة والجاه- تحللت إنسانيتهم، بل وعاشوا في ذلك الانفصام المرعب بين ما يؤمنون به، وما يفعلونه، كانوا جميعا ينتمون لجيل يؤمن بالحرية والديمقراطية والقومية، ويسخرون مواهبهم في خدمة الطغيان الفردي أو ممالأة الاحتلال أو السكوت عنه.." يتعلم الهلباوي الفرنسية مع غريمه اللدود سعد زغلول، ويحصلا على ليسانس الحقوق (فمع بداية تشكل المحاكم المدنية بهيئتها الأوربية، كانت تتطلب وجود من يدافع عن المتهم من محامين، فتساهلت في بداية الأمر، فقبلت كل من لديه مؤهل، ولم تشترط الحصول على ليسانس الحقوق، وعلى هذا دخل الهلباوي وزغلول عالم المحاماة بدون ليسانس حقوق، حتى أخذاه في وقت متأخر من تاريخ احترافهما المحاماة).

يعلو نجم الهلباوي في قصور الخاصة الملكية بفعل علاقات زوجته وصيفة ابنة الخديوي إسماعيل، لينتقل من طنطا إلى القاهرة، مستشارا لديوان عموم الأوقاف، والخاصة الخديوية، وصديق الخديوي عباس حلمي الثاني ونديمه المقرب.

يتوه سعد زغلول في دروب الارستقراطية ومساراتها الفخمة، ويدمن القمار والشراب، ويخفت صيته في عالم المحاماة، ينتظر فرصة ما، بل صدفة ما .

يملك الهلباوي بعد عشرين عاما الإقطاعيات الشاسعة والقصور المنيفة، يقتنى أفخم الملابس من باريس ولندن ونيويورك، يزور كل صيف أرقى الشواطئ الأوربية، وكل أسبوع يقضي إجازته في البحيرة متفقدا أملاكه كأي أمير من الخاصة الملكية الخديوية، الغريمان يطلان على عامهما الخمسين كل في دربه ومساره، يتقابلان من الحين والآخر في حفلة هنا أو هناك في أرقى أماكن المحروسة، إلى أن يطل فجر أول يوم من عام 1906 كحريق ينهض للوثوب على المصائر، فيبدل ويغير كما يريد متخفيا في رداء الصدفة العابرة اللعوب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تهدد بحرب واسعة في لبنان وحزب الله يصر على مواصلة ال


.. المنطقة الآمنة لنازحي رفح | #غرفة_الأخبار




.. وثيقة تكشف تفاصيل مقتل الناشطة الإيرانية نيكا شكارامي عام 20


.. تقرير إسباني: سحب الدبابة -أبرامز- من المعارك بسبب مخاوف من




.. السعودية تسعى للتوصل لاتفاقيات شراكة أمنية مع الولايات المتح