الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشاهد اللغوي الحيّ على جمال كلام العرب - الجزء الأول

مريم الحسن

2020 / 5 / 4
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


تقديم
« يا مُسكّني وسَكَني وسَكِينتي وساكنتي وسكوني وسكوتي وسِكّتي وسَكْرتي وسُكّرتي وسرّي وسريرتي وسريري وسروري »

هذه الكلمات المنسكبة ببراعةٍ بنائية مُلفته, و المتسلسلة بأناقة بلاغية جميلة, حرصت معها معانيها, على التنقل ما بين الجناس و الاشتقاق, للدلالة على ما بين ألفاظ عبارتها من صلات قربى , و على ما بين صوغ أبنيتها من تناغم بين الحرف و السكون و الحركات , تُنسب للشاعر العربي الكبير, و المتصوّف الإسلامي, الحسين بن منصور الحلاج, الذي عُرفَ عنه رقة أسلوب إنشائه الوجداني, و أناقة نظمه للبيت الشعري, و جمال غزله, و بديع بيانه, الذي لم يحاكِ فقط جمال العشق الذي اشتُهر به, بل أيضاً جمال تلك اللغة العربية, التي حملت هذا العشق أدباً بليغاً, انتظم بها و معها, مُحلّقاً خلف حدود لفظها , بعيداً عنها حتى حدود اللا منتمي , بعد أن عرجت هي به عالياً, في فضاء بديعها, وصولاً حتى أقاصي لا منتهى جمال بليغها, بما تمايزت به عن غيرها من باقي اللغات , من حيث قدرتها البيانية الدقيقة, و تنوع أساليبها الرفعية, و خصائص حرفها المطواع السلس , ومنجم معجمها اللفظي, الذي أثرت خزائنه, و أصّلت معادنه, خاصيّتان فيها اثنتان : واحدتهما صفتها الإعرابية و ثانيتهما طبيعتها الاشتقاقية.

هاتان الخاصيتان ,أي الإعراب و الاشتقاق, هما الصفتان الأساسيتان اللتان ميّزتا اللغة العربية عن غيرها, وجعلتا منها لغةً حيّة مطواعة مَرِنة و ولّادة, و أيضاً إذا ما جاز التعبير "إعجازية" في مكان ما , و ذلك من حيث قدرتها العالية على ضبط المعنى المقصود من لفظتها, لتخصيصه و ترشيده و توجيهه , إن كان عن طريق الإعراب الذي وفّر لمفرداتها حرية الحركة, و القدرة على التنقل, داخل الجملة الفعلية الواحدة, من دون إحداث أي خللٍ في معناها العام, أو إن كان عن طريق الاشتقاق, الذي أمدّها بقانون حي و عملي , جعل من معجمها اللفظي, منجماً لا ينضب باطنه, و نبضاً لا تخمل لوافظه عن توليد جديده من قديمه, و عن إثراء بيان أحاديثه, بألفاظٍ متقاربةِ المبنى, و متمايزة المعنى, كل واحدة منها, تنفرد بمعنى ذاتي خاص يها , وتتشارك مع ما شابهها من أخواتها, بالانتماء إلى النسب الواحد, والعائلة الواحدة, و المعنى الأصيل العام.

ظاهرة الاشتقاق هذه , هي عنوان هذا البحث الذي ارتأينا تقسّيمه إلى مباحثٍ ثلاث, سنتناول في أولهما اللغة العربية من حيث علمها الذي نشأ معها و تخصص فيها و رافقها و فصّل قوانينها منذ نهضتها الأولى حتى يومنا هذا, لنليه بمبحثٍ ثان سنتناول فيه علم الاشتقاق بشكل مفصل, عبر تعريفه لغةً و اصطلاحاً و غرضاً, بالإضافة إلى عرض أبرز أراء علماء اللغة حوله, ممن قالوا فيه و ضده, لتبيين أوجه خلافاتهم و للتعريف بمذاهبهم و اتجاهاتهم, لنختتم أخيراً بمبحث ثالث نفصّل فيه شروط الاشتقاق و كيفيات بنائه, مع تعداد مميزاته و أنواعه , بالإضافة إلى تقديم أمثلة موضّحة لكل نوع من هذه الأنواع.

المبحث الأول : اللغة العربية و فقهها

النشأة و الأسباب

مما لا شك فيه أن خصائص و مميزات اللغة العربية عديدة و كثيرة, و الحديث عنها لوصفها و وصف ذكاء حرفها و انتظام قوانين نحوها و سعة بيان لفظها يتطلب مجلدات من الكلام لن تكفيها حقها و لن تنصفها. فجمال هذه اللغة قد تبدى جلياً في أقدم مرجعٍ مخطوط لها, أي كتاب القرآن, الذي أخرجها من خِدرِ جهل العالم بها, و أماط اللثام عن جمال بلاغتها, و أطلق سراح العنان لبديع بيانها, فتحدى به, و لا يزال يفعل منذ قرون, كل قارئٍ له أن يأتي بأجمل منه, و لا يزال هذا القارئ يقف حائراً مدهوشاً, و في موقع العجز نفسه الذي وقفه قبله أسلافه الماضون, من دون أن يستطيع مبارزة هذه التحدي أو تخطيه بخطوةٍ واحدة يسبقُ ببراعة بيانها جمالَ بيان من تحداه.

وجه الجمال هذا في اللغة العربية و ثقل وزنها البلاغي, بالإضافة إلى ثقل وزنها الديني و السياسي, الذي رافق انكشافها على العالم و انتشارها فيه جنباً إلى جنب مع ظهور القرآن و انتشاره في المنطقة العربية و ما جاورها, وعاه المفكرون و الباحثون القدماء, من عرب و غير عرب, ممن أتقنوا اللغة العربية و أجادوها, فعكفوا على دراستها و على تمحيصها لاستبيان بعد بيانها و سبر أغوار ألفاظها و التنقيب في معانيها, و ذلك لهدفين اثنين : واحدهما ثقافي ـ اجتماعي , هدفه فهمُ نظام هذه اللغة, لاكتشاف قوانينها وتسهيل تعليمها لغير العرب, ممن اعتنقوا عقيدة الكتاب الذي خاطبهم بلغتها , و ذلك حفظاً له و لها من آفة اللحن الدخيلة, و التي غالباً ما تترافق مع ظاهرة الاختلاط الثقافي و التوسع الديموغرافي. و ثانيهما ديني ـ سياسي, هدفه استنباط قواعد نحوٍ عام, تُقوّم ألسنة قرّاء اللغة العربية وكتّابها, و تنظّم استخدامهم لها, بالاعتماد على لغة القرآن كمرجع أساس في عميلة استنباط القوانين و التقعيد, و ذلك بغرض توحيد قراءة الكتاب, الذي أعلى كلمة لسانها و أظهرها على باقي الأمم , صوناً له و لمعانيه من التبدل جرّاء عامِلَي الزمن وواقع تعدد اللهجات في المنطقة العربية و الذي كان من أبرز مظاهره , تعدد القراءات القرآنية, واختلاف تلاواتها و معانيها, باختلاف الانتماء القبلي لكل قارئٍ لها.

مراحل التطوّر

إذاً بدءً من هذا النشاط اللغوي الحثيث, المدعوم سياسياً و اجتماعياً بواقع انتشار الدعوة القرآنية و تمدد دولتها داخل حدود المنطقة العربية و خارجها, و الذي كان عماده و محوره اهتمامه كتاب القرآن و مهام نشره و فهم معانية « نشأ علم اللغة عند العرب فبدؤوا بتدوين مفردات لغتهم لجمعها و كانت الغاية الأولى من ذلك فهم القرآن و شرح ألفاظه فظهرت مؤلفات كثيرة و هي رسائل تجمع المفردات اللغوية المتعلقة بموضوع واحد و قد كانت هذه المؤلفات نواة للمعاجم الكبيرة التي أُلّفت في المرحلة الثانية من مراحل التأليف في اللغة أو ما يطلق عليه مرحلة الجمع الشامل ».1

بعد مرحلة التدوين اللغوي الأولى التي بدأت في القرن الأول الهجري, ظهرت في القرن الذي تلاه المرحلة اللغوية الثانية لتي امتدت حتى القرن الرابع الهجري و تميزت عن سابقتها بميزات منهجية كان من أبرزها التعليل و الاستنتاج و استنباط القوانين اللغوية , مما جعل منها مرحلة غنية بالبحث اللغوي, فتميزت بأعلامٍ لغوية شهيرة كان لها الباع الطويل في تأصيل قواعد اللغة العربية و تأسيس نحوها وشرح قوانينها و تفصيلها أمثال العالم اللغوي الشهير سيبويه صاحب " الكتاب"و الأخفش صاحب " المقاييس" و ابن فارس واضع كتاب" الصاحبي في فقه اللغة" و ابن جني صاحب " الخصائص" و غيرهم من اللغويين ممن أسسوا بإنتاجهم البحثي النواة الأولى لما عُرف حينها بفقه اللغة و لاحقاً بقرون طويلة بعلم اللغة.

أقسام اللغة و أبرز علومها

أما علم اللغة في العصر الحديث و المعاصر فهو « هذه الدراسة الشاملة للغة بوجه عام لاستخراج قوانيها الخاصة بها و معرفة تطورها سواء أكان ذلك في أصواتها و ألفاظها أو مفرداتها و معانيها أو تراكيبها و أساليبها2» . و اللغة بشكل عام أياً كان لسانها تتألف من ثلاثة عناصر :
1) الأصوات و 2) الألفاظ و 3) التراكيب.

« علم الأصوات أو التجويد (Phonétique) يدرس الحروف من حيث هي أصوات فيبحث عن مخارجها و عن صفاتها و عن قوانين تبدلها و تطورها»3. « و علم التراكيب (Syntaxique ) يبحث في تركيب الكلام في اللغة و في نظمه و في تركيب أجزائه و في طريقة ربط الكلام بعضه ببعض وفي الأدوات الرابطة له و وظائف الكلمة و تركيب الجُمل و أحوال إعرابها4 ». أما علم الألفاظ فيتفرع إلى ثلاثة علوم هي : 1ـ علم الكلمة (Morphologie) تخصّصه مجال الكلمة و أحوالها من حيث شكلها و صيغتها و مبناها و تصريفها. 2ــ علم المعاني (Sémantique) و هو علمٌ يبحث في معاني الألفاظ وأصولها و يدرس تطور دلالاتها عبر الزمن بالإضافة إلى خصائص هذا التطور و قوانينه العاملة فيه. 3ــ الاشتقاق (Étymologie) هو علم يدرس الألفاظ و يبحث في الأطوار التي تقلبت فيها الكلمة و يحدد بذلك صلتها بالألفاظ الأخرى و قرابتها و تحولاتها و يدخل في بابه في اللغة العربية ظاهرتَي النحت و التعريب5 ».

أما علوم اللغة العربية فهي ثلاثة عشر علماً تضم بالإضافة إلى العلوم الخمس السابق ذكرها :
1. علم الهجاء أو رسم الحروف الذي يبحث في ألفاظ اللغة من ناحية رسمها و كتابتها.
2. علم اللغة الذي يعنى بمدلولات الكلمات و ضبط حروفها ما عدا أواخرها.
3. علم الوضع الذي يبحث في وضع الألفاظ و مدلولاتها
4. علم الصرف الذي يُعرف به ما في بعض حروف الكلمات من زيادة و حذف و قلب و إبدال و تغيير بالحركة أو سكون أو إدغام.
5. علم النحو الذي يبحث في علاقة المعاني في التراكيب و ما تقتضيه هذه العلاقة من حركات في أواخر الكلم.
6. علم البيان الذي يبحث في إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة من حيث وضوح الدلالة عليها أو خفائها.
7. علم البديع يبحث في أوجه تحسين الكلام وهو يتفرع إلى علمين :
1. علم العروض الذي يبحث فقط في المركّبات المنظومة من ناحية أوزانها.
2. و علم القوافي الذي يبحث في أبيات هذه المركّبات.
8. علم الأدب الذي يبحث عن معاني التراكيب الأدبية , منثورة كانت أم منظومة , ليشرحها و ليكشف غموضها و يُبيّن ما فيها من أخبار العرب و أحوالهم6.

هوامش:
1- محمد المبارك, فقه اللغة و خصائص العربية
2-المرجع السابق
3-المرجع السابق
4-المرجع السابق
5-المرجع السابق
6-مقدمة كتاب الاشتقاق لعبدالله أمين








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بهجمات متبادلة.. تضرر مصفاة نفط روسية ومنشآت طاقة أوكرانية|


.. الأردن يجدد رفضه محاولات الزج به في الصراع بين إسرائيل وإيرا




.. كيف يعيش ربع سكان -الشرق الأوسط- تحت سيطرة المليشيات المسلحة


.. “قتل في بث مباشر-.. جريمة صادمة لطفل تُثير الجدل والخوف في م




.. تأجيل زيارة أردوغان إلى واشنطن.. ما الأسباب الفعلية لهذه الخ