الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القطيعة في تاريخ الخطابات

إدريس غازي
كاتب و باحث

(Driss Rhazi)

2020 / 5 / 5
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


إن قراءة كتاب " الكلمات والأشياء " لمشيل فوكو لهي قراءة ممتعة جدا وبالغة الأهمية ، من الناحية الفلسفية والفكرية والعلمية . إنه يجعلنا نعترف منذ البداية بأحقية القطيعة بالوجود داخل حقل الفكر وتاريخه .فالفكر مرتب عادة ، بطريقة ما ، في فترة زمنية محددة .إنه مبني هيكليا وبنيويا على هذه المنوال .وهذا القول ينطبق أيضا على كل شيء " وقع " فجاة ، في لحظة ما ، غير متوقعة ولا منتظرة ؛ يحصل حادث ما ، حادث طاريء .يقلب كل شيء ويؤدي إلى تغيير نظام الفكر السائد وإعادة قولبته وتشكيله ، وهذه هي الطية ( le pli ) الجديدة ، او الإبستيمية الجديدة للفكر كما يسميه م. فوكو .
نلاحظ ان فوكو يهدف من خلال هذا الكتاب - كما يوحي بذلك عنوانه الفرعي : أركيولوجيا العلوم الإنسانية ( Une Archéologie des sciences humaines ) - إلى سبر أغوار الفكر الغربي خلال اربعة قرون تقريبا ( من النصف الثاني للقرن السادس عشر إلى النصف الأخير من القرن العشرين ) .حيث اكتشف على مدار هذه المرحلة ، قطيعتين معرفيتين كبيرتين : الأولى تفصل بين العصور الوسطى ، ونظرتها للعالم .وبين العصر الكلاسيكي ، وتتموضع في بداية القرن السابع عشر . والقطيعة الثانية تفصل العصر الكلاسيكي ورؤيته للعالم ، عن المعرفة الحديثة التي لازال الغرب يعيش في إطار منظومتها حتى يومنا هذا ، وتتموضع حوالي الثورة الفرنسية .كل ذلك كي يكتشف م. فوكو الكيفية التي تشكلت عليها العلوم الإنسانية .وكيف عرفت انزياحات في بناءها التحتي الاركيولوجي .
وقبل أن يرصد م. فوكو القطيعة الأولى ، يخصص فصلا من كتابه المذكور ، عنونه ب " التمثيل " representer يتحدث فيه عن النظرة الوسيطية للكون والعالم ، التي كانت تتمحور حول مفهوم التشابه والمحاكاة ، اي تشابه أشياء العالم ببعضها البعض .في هذه المرحلة كانت عملية التشابه ، هي التي تلعب الدور الأساسي والتأسيسي في الثقافة الغربية .كانت هناك علاقة مضاعفة ومزدوجة للفكرة بالشيء الذي تدل عليه .لقد أدانت معرفة القرن السادس عشر نفسها ، بأن تعترف إلا ما تعرفه .لكن سرعان ما وقع انفصال بين معرفة القرون الوسطى ومعرفة العصر الكلاسيكي .وقد رافقت هذه القطيعة ،انبثاق اللحظة الديكارتية ، في هذه اللحظة من التاريخ توقف الفكر عن التحرك داخل جدران التشابه والمحاكاة .لم تعد المحاكاة المملة واللانهائية ، التي وصفها فوكو بالثراء ، وسيلة للمعرفة بالنسبة للعصر الكلاسيكي ، عكس ما كان عليه الحال إبان العصور الوسطى . أصبحت هذه المعرفة تدل على الوهم والارتباك ومهاوي الخطا والظلال .لقد نضج أناس القرن السابع عشر .فأصبحوا عقلانيين .ويرى م فوكو بأن النقد الديكارتي لمفهومي التشابه والمحاكاة ، الذي كان يمثل أداة المعرفة في العصور الغابرة ، يختلف عن نقد " باكون " الذي كان لايزال يتأرجح بين معرفة العصور الوسطى والمعرفة الجديدة ، التي افتتحها العصر الكلاسيكي .لقد حسم ديكارت الامر نهائيا وأقصى أداة التشابه من ساحة المعرفة وبذلك أحدث قطيعة عميقة بين كلتا المعرفتين .لكن فوكو لا زال يرجح كل شيء في العصر الكلاسيكي إلى تأثير ديكارت ونيوتن .وأن القطيعة القطيعة الأساسية تتمثل بلحظة غاليليو او ديكارت .أما القطائع التي حصلت فيما بعد فهي ثانوية وتندرج داخل القطيعة الكبرى للعلم الحديث .وان أنواع الابستيميات والقطائع التي تلت الديكارتية لا أهمية لها ولا قيمة أمام القطيعة الاولى .بل على العكس من ذلك ، إن تاريخ الفكر طافح بالقطائع التي يجب إعطاؤها ما تستحق (هذا من جهة ) .ومن جهة أخرى ان فوكو يعيد كل شيء بما فيها اللحظة الديكارتية وغيرها إلى طبقة" رسوبية" تحتية أركيولوجية ، أكثر عمقا ، تشكل الأساس الذي ارتكزت عليه المعرفة الكلاسيكية بمجملها ..هذا الشيء الأساسي هو تغيير نظام العلاقة في العصر الكلاسيكي ، كما سنرى لاحقا في ثنايا هذا المقال..إلا انه مع حلول الحداثة والثورة الفرنسية ستحدث قطيعة ثانية ، قلبت الأمور راسا على عقب .
في هذه المرحلة بالذات حدث انزياح وقطيعة في الطبقات الباطنية للفكر .هذه القطيعة واكبت قطيعة سياسية لا تقل عنها اهمية ،إن لم تزد ،وهي الثورة الفرنسية يقول م. فوكو " لقد لزم أن يحدث حدث أساسي خطير لكي تنحل معرفة العصر الكلاسيكي وتنهار وتولد بالتالي معرفة جديدة لم تخرج عن سياجها كليا " .لقد كانت هذه القطيعة حقا ، قطيعة مع عالم التمثيل وأدت إلى ولادة العلوم الإنسانية الحديثة من فيلولوجيا واقتصاد سياسي وسوسيولوجيا وسيكولوجيا وتاريخ ....يقول م فوكو انه صاحب كل ذلك ولادة الإنسان المحسوس ، الحي والمتكلم والعامل ، وظهروه للمرة الأولى بهذا الشكل على مسرح الثقافة الغربية ...
هذه باختصار شديد التحولات والقطائع التي عرفتها الثقافة الغربية منذ القرن السادس عشر .والتي وقفنا عند بعض حدودها ..وسنحاول أن نوضح المسألة اكثر عند حديثنا عن مفهوم الابيستيمى في مقالاتنا اللاحقة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لأول مرة منذ 7 عقود، فيتنام تدعو فرنسا للمشاركة في إحياء ذكر


.. غزيون عالقون في الضفة الغربية • فرانس 24 / FRANCE 24




.. اتحاد القبائل العربية في مصر: شعاره على علم الجمهورية في ساب


.. فرنسا تستعيد أخيرا الرقم القياسي العالمي لأطول خبز باغيت




.. الساحل السوداني.. والأطماع الإيرانية | #التاسعة