الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


موت رجل الدين في عالم التدين الافتراضي.

عادل برديغ

2020 / 5 / 7
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


في زمن الأوبئة بعد أن انحصرت أنشطة مجموعة من القطاعات التي اعتبرتها الدول غير ضرورية لبقاء الحياة الطبيعة للمجتمعات واستمرار النوع البشري، وجدت المؤسسات الدينية نفسها مصنفة ضمن هؤلاء القطاعات الثانوية خلاف ما كانت تدعيه دائما. حاول البعض المقاومة إلى درجة عصيان أوامر الحكومات عابتين بالقوانين ومتحديين لقوانين الطبيعة التي لا تعترف الا بقوة بطشها الا انهم وجدوا أنفسهم اخيرا قليلي الحيلة ولايملكون سوى التسليم، خصوصا بعد ما تأكدوا أن الوباء قادم لا محالة إلى دولتهم ومدينتهم او قريتهم وحتى الي البيوت الذي يتبادلون فيه الحديث مع ألهتهم حيت يطلبون وتجيب.
هذه الأزمة تشكل منعطفا خطيرا في تطور الدين لدى البشر. بدأ الدين كعبادة للطبيعة في تمظهراتها العنيفة من براكين وعواصف وجبال وكواكب تم انتقل إلى أشياء اكتر واقعية في عظمتها من الأحجار والاصنام لتقف وسيطة بين المتدين والمجهول العظيم اوالالهة لاحقا، ودلك راجع إلى الإحساس الذي ينتجه البعد العملي للتعبد عن قرب. بعد دلك انتقلت القوة إلى رئيس القبيلة الذي نظم جيوشا استطاع من خلالها ابراز قوته وفرضها على الكل واخد بدلك موقع الآلهة ولربما ادعى أنه من نسلها ولا يختلفون في شيء. الا أنه مع تطور الوعي البشري وازدياد تقته في نفسه حيت استقرت احوله الاجتماعية، كان من الضروري أن تتغير نظرة البعض إلى الواقع ككل والى الإنسان بصفة خاصة وهذا ما ادى إلى انزال الطغاة أشباه الآلهة من بروجهم ونزع غطاء القداسة عنهم. لكن هؤلاء لم يكونوا ليستسلموا لمجموعة من الشجعان التائرين على التاريخ الديني البشري الطويل بل انتقلوا به إلى مرحلة أخرى حيت فصلوا الآلهة عن البشر نهائيا حتى ترضي نزعات هؤلاء المتمردون. مع انتقال الآلهة إلى السماء انقصلت اخيرا عن البشر في كل شيء لكن استمرت ضرورة الدين عند البشر وهدا ما تطلب التواصل مع السماء عبر رسل يحملون رسائل تدعوا إلى التمرد أحيانا وتتكلم باسم الضعفاء القابعين في الدرك الاسفل من السلم الاجتماعي، لكن سرعان ما ينقض عليها الاقوياء ويجهضون دعواهم تارة بالعنف وتارة أخرى بالحيلة إذ يتبنى النظام القائم الدعوى ويرحب بها لأنها تدعو إلى الفضيلة والطاعة والالتزام التي هي قيم ضرورية لاستتباب الأمور. تنصب حينها رجال الدين من اجل السهر على عملية التعبد التي تكون دائما بمباركة السلطة القائمة التي لا تسمح الا لما تريد. هنا يبقى الدين كما كان دائما مصدره القوة اي السلطة وتفرضه السلطة بمساعدة المؤسسات الدينية التي تبجل هاته القوة دون أن تمتلكها هي ويكون الضعفاء هم الممارسون للدين املين حياة غير التي يعيشونها.
تنجح السطلة باقناع هؤلاء الضعفاء بانهم احرار في ممارسة شعائرهم الدينية وفي الأحوال الطبيعية للمجتمعات تبوا هجه الممارسة اليومية فعلا كما لو تتم كانت عملية اختيارية لا تتدخل فيها اي جهة ما لأنها مسألة شخصية. داخل المجتمعات الحديثة، خصوصا بعدما تبين ان الدين بكل تطوراته وثوراته غالبا ما يشكل الخط، توارت رقابة السطلة الى الخفاء حتى ان الأغلبية الساحقة من المتدينين تصدق فعلا ان التدين تجربة ذاتية وتتماهى فيها. الا ان البعض يكتشفون انهم داخل نسق مجتمعي وتحت رحمة الأجهزة الأمنية للسلطات التي لا تتوانى في التذخل متى استشعرت بوادر حركة تمردية منهم او اكتشفت ان الممارسة نفسها تهدد الأمن والعيش والاستمرار، وهؤلاء غالبا من يحاولون الزحف نحو المركز والانقضاض على مفاتيح السلطة لان الدين كما بينا أعلاه مصدره القوة والسلطة ولا يمكنه التواجد بدونها. وهذا هو الأخطر في الحروب الدينية لأنها كانت دائمة البحت عن امتلاك القدرة على السيطرة والتماهي مع الالهة.
في هذه الزمة الوبائية، بدأت معالم طفرة جديدة في التدين والدين نفسه تتمظهر في سلوكيات وأفكار المتدينين، وبدون وعي منهم اندمجوا ضمن سياق اكبر واوسع من الجميع وانتقل الطقس الديني من المعبد الى الفضاء الافتراضي وهدا الانتقال هو ما أسميه "التدين الافتراضي". منذ ظهور الإنترنت وخصوصا في العشرين سنة الماضية توقع العديد أن تذوب مجموعة من التكلات الهوايتية والثقافية عامة داخل نسق عالمي وحدروا من فقدان مجموعة من الاقليات لخصائصها وبالتالي بروز مجتمع إنساني أحادي البعد اقرب ما يكون بمجتمع الروبوتات. إلا أن الواقع اتبت العكس تماما وعالم ووسائل الاتصال مكن كل الهوايات التي كانت تعيش في الهامش ولا تستطيع الذخول في حوار بينها اولا تم مع الآخرين إلى إنشاء تكلات افتراضية تمارس داخلها وجودها الرمزي وتحتفل باختلافها. ومع هذا التباعد الاجتماعي اتسع العالم الافتراضي اكتر وأصبح المكان الوحيد للتواصل والتواجد وانتقلت كل الأنشطة التي كانت مرتكزة على الواقع الى هناك رغما عنها. فالأنشطة الدينية جمعية في طبيعتها ولا تتمظهر الا في تكتلات بشرية وطقوس مشتركة حتى تستمر وتحافظ علي شرعيتها بالرغم من أن العملية التعبدية مسألة فردية بامتياز. اذن انتقال الدين على العالم الافتراضي له بعد إيجابي متميز اد فرض هدا البعد الشخصي في الدين على الانسان كفرد وابعده من الطقوس المشتركة. هنا يصبح الفرد وحيدا امام نفسه وينسلخ من الطقس الجمعي الدي يرتكز اساسا على الاحساس بالانتماء الدي يوفره للمتدين ويبتعد عن كل ما هو قيمي او سلوك ارادي. هد الانزواء سيدفعه بالفرد حتما إلى مساءلة مجموعة من الممارسات التي كان يقوم بها لا شعوريا وربما اكتشف ان هناك قناعات اخرى لم يسمح لها بالإعلان عن نفسها. لعل هده العملية التفكرية الفردية هي اهم الخصائص التي يتميز بها الانسان الحديث عن غيره لأنها تمكنه من بناء ذات مستقلة قادرة على انتاج واضفاء معنى فردي على حياته ووجوده دون الركون الى مسلمات القطيع البشري.
اما الجانب السلبي والخطير في هدا الانتقال هو مقاومة بروز هذا البعد الشخصي في التدين من طرف رجال الدين خاصة الذين رأوا فيه انتقاص وربما انتفاء دورهم داخل المجتمع وما ينتج عنه من أضرار معنوية ومادية لهم. هده المقاومة تتجلى في تكتلات عبارة عن جيوش افتراضية منغلقة تؤمر باوامر شيخ معين وهم له مريدين مستسلمين بالموتى بين ايدي المغسلين. على عكس المتدينين الدين اخدوا التدين من جانبه الفردي الدين تنموا عندهم ملكة التفكير النقدي والقدرة على التفكر الذاتي وبالتالي الاستقلالية في الراي، فان هؤلاء المريدين يزدادون انغلاقا ودغمائية فيصبحون يرفضون أي فكر اخر غير ما يشير اليه الشيخ فيعشون الان في ازمة نفسية خطيرة خصوصا بعدما انتفي البعد العملي الواقعي للممارسة الدينية التي كانت تتجلى في ولوج المعابد معا والتبرك بها والسلام على شيوخهم و رموزهم المقدسة. ان هده الطبقة تعيش اسوء ايامها لأنها تربت على الايمان المطلق واصبحت غير قادرة على تبنتي النسبية في الامور التي كان من الممكن ان تخفف عنها عواقب الازمة. وما يفعله رجال الدين الان يكرس مزيدا من الشرخ النفسي لدى المتدينين لانهم لا يزالون يرفضون الانفتاح ويحاولون الاحتفاظ بقدسيتهم والعمل على نكران المعطى الجديد الدي جردهم من هاته الصفة وزعزع العديد من مرتكزاتها التي كانت تتجلى في الدور السلطوي والريادي الممارس في المعابد. اغلقت هاته وانتهت معه ولو مؤقتا السلطة الحضورية لرجل الدين وكل كراماته وتفسيراته وتنبؤاته وتهيؤاته وتأويلاته شلت بدون سابق اندار وكل المعارك والملاحم التي كان يتغنى بها احبطت دون سابق اندار ووجد نفسه انسان عادي لا يفيد المجتمع في شيء بعدما كان يبارك كل المراسيم منع حتى من ولوج المقبرة واستحضار الملائكة لأخد ارواح الموتى. مدا يفعل المسكين بعدا كل هدا الانكسار سوى محاولة ايجار معركة جديدة فولج الواقع الافتراضي يؤجج الضعفاء ضد كل من ادعى ان رجل الدين قد مات مظهرا عضلاته اللسانية ومحاولا أثبات وجوده وانه لايزال مؤثرا وعنصرا مهما في الحياة المجتمعية مهما تغيرت الظروف.
قد يكون اجل موت رجل الدين بعيدا شيئا ما لكن العالم يشهد الان الاعلان الرسمي عنها وما هده الازمة الا واحدة من بشاراتها. لن تكون هده الاولى لكنها الاقوى لانها كانت غير متوقعة وجاءت على حين غفلة كشفت عن فضاعة الواقع المزيف الدي زين للناطرين الحالمين من البسطاء ضحايا صراع السماء والارض ولم يستطع خلالها رجل المعبد من ان يجمع من المبررات ما يخفف به من اتار الصدمة سواء عليه او على مريدييه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المسيحيون الأرثوذوكس يحيون عيد الفصح وسط احتفالات طغت عليها


.. فتوى تثير الجدل حول استخدام بصمة المتوفى لفتح هاتفه النقال




.. المسيحيون الأرثوذكس يحتفلون بعيد الفصح في غزة


.. العراق.. احتفال العائلات المسيحية بعيد القيامة وحنين لعودة ا




.. البابا تواضروس الثاني يستقبل المهنئين بعيد القيامة في الكاتد