الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هواجس كورونا و تداعيات الحدث

رشيد احلولي

2020 / 5 / 14
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


من البديهي أنّ أي خطاب عن مسألة وباء كورونا لا يكتسي طابعا معرفيا فحسب، بل قد يأخد طابع دفاع أو نقد، هجوم أو شكوى..، فعندما يتم استهداف الكينونة وتَعصف رياح الإرتباك والإنشغال لا يجد الإنسان من مسلك غير استنطاق الظروف والأحوال التي خلقت تصدعات وتشققات داخل الذات وكدا الفعل الإجتماعي، والتي تتجاوز التفسير والتحليل إلى التنبؤ والإحتياط والمرونة والحذر.

إن تجربة "كورونا" تعتبر لحظة وجودية بامتياز، فقد كشفت عن نسبية الوجود وهشاشة الموجود..، وباء تَجاوز أثره ومفعوله التركيبة البيولوجية لِينعكس سلبا على كل الأنظمة الإجتماعية والإقتصادية والسياسية، و يَشُلَّ نطام الاشياء، ويُخِل بطرق التفكير والإحساس، و يؤثر على نظام التفاعلات والعلاقات في المشترك اليومي، فلا يمكن اختزال مرض كورونا اليوم كحالة جسدية أو كاختلال فيزيولوجي بالمعنى البيو-طبي ، بقدر ما أنه سيرورة تجاوزت الباثولوجي إلى المدلول السوسيوتقافي وانعكاس هذا التجاوز على البناء الإجتماعي، ومِن ثمة فنحن لا نحتاج كثيرا من الوقت لحظة مساءلة الظواهر المتعلقة بالجسد لإدراك البعد الإجتماعي للمرض، حيث أصبحنا نشاهد لدى كل المجتمعات البشرية تأليفا لعلاقة جدلية بين النظام البيولوجي والنظام الإجتماعي من خلال شعار " التزموا منازلكم " تجاوزت ذلك السِّجل الطبي الكلاسيكي لمفاهيم الموت والمرض والصحة... كظواهر موضوعية فيزيولوجية معزولة، كما أن المحددات الاجتماعية للمرض لا تتبدى فقط في كشف أسبابه، بل تتجلى بوضوح تام في الإنعكاسات الإجتماعية للمرض على الوجود الفردي والجماعي على حد سواء، فالتأويل الإجتماعي لوباء كورونا وآليات هذا التأويل ونتائجه يكشف ارتباطه الشديد بمفهوم "الواقع الحزين" حسب البراديغم السوسيولوجي لدى كلودين هيرزليتش، وهو ما يولد مشاعر خوف مزدوجة .

إن الصيغة المفاجئة والمباغثة لفيروس كورونا باعتباره "اللامُفَكَّر فيه" مِن ذي قبل أظهر بأن علاقة الإنسان بالمرض عوض أن تكون موسومة بالسيطرة والتقويض واليقين، صارت مرتعا للخوف والخطر و الشك..، مما ولَّد انقلابا في المعادلات، فأصبح العيش في أمن و طمأنينة استثناءً بينما أضحى العيش في متاهة العزلة والغربة وارتكاسات القلق قاعدةً، هذا " اللامتوقع اللامرئي" أبرز بجلاء هشاشة الواقع ، وكشفَ عن عورة البنيات الأجتماعية والأقتصادية والسياسية، و أزال اللثام عن وعود النظام المعولم الهشة، والتي كانت قبل عقود بمثابة خلاصٍ للإنسان وللعالم و بُشرى بالرخاء و العدالة..و براديغما للتقدم وتكمُلةً طبيعية وحتمية لتطور المجتمعات بالمعنى الذي قدمه هربرت سبنسر.
جائحة كورونا حرب عالمية -بدون أسلحة ولا دخان- أبانت عن هشاشة الحوكمة العالمية وضعفها في حماية الشعوب من القهر الإجتماعي، وأعادت إلى الأذهان ذلك المنسي في الفكر الفلسفي المتعلق بسؤال المصير و المآل، الأمر الذي يستوجب إعادة التفكير في علاقة الذات مع أناها، وعلاقتها بالآخر والطبيعة والعالم، لا سِيما وأن الأنياب القاتلة التي كشَّرت عنها كورونا تُوَضِّح بكل جلاء ما في عالمنا من عاهات وآفات: استهتار في العلاقة مع الطبيعة، ذوبان لمنطق الغيرية، حروب عبثية، نزاعات سياسية ، صراعات على النفود والثروة ،استئثار بالخيرات..، والبيّن من ذلك أن جائحة كورونا كشفت عن زيف الرأسمالية و فضحت ذبذبات عدة شعارات كانت تتقمص أقنعة (الحرية، العدالة، المساواة..)، إنه وضع وبائي مُفارق في انعكاساته المادية والرمزية على الشرائح الاجتماعية، و يكفي أن نتأمل عمق ما قاله الفيلسوف ميشال أونفري: "فرص العودة إلى الذات إبان الحجر بالنسبة للأغنياء ممكنة، أما بالنسبة للفقراء فلن يكون بمقدورهم تجربة ترف طرح الأسئلة الوجودية، كل ما هنالك أن الحجر سيجعلهم يختبرون حياة الحيوانات في الأقفاص.." .

إن السياق المباغث الذي نعيش على وقعه حاليا بفعل وباء كورونا أصبح كذلك مجالا مفتوحا لتغيُّر الاتجاهات القيمية و ارتكاسا مؤثرا على التركيبة الفكرية والنفسية و الثقافية للأفراد، موجات من الخوف الجمعي والمعاناة الجماعية أنتجت تناقضا قيميا و أفرزت زخما من السلوكيات والممارسات التي تبدو أحيانا غير منطقية ( اللهط في اقتناء البضائع، التدافع،التظاهر في عزِّ الأزمة...) لدرجة أن منطق العقلانية الهشة السائدة في الأوقات الطبيعية استُبدل بأزمة اللاعقلانية المُطارِدة لكوابيس "الساحر اللامرئي" وما يُولده من مخاوف العيش في ظل "المجهول".

إنّ انبثاق هاته اللاعقلانية في التعاطي مع الفُجائي "كورونا " هي نِتاج كثرة الأخطاء واعتماد الأفكار المسبقة ،فالناس لا يعتمدون المقاييس الموضوعية في تحليل المستجَد بهدف تقبله، بقدر ما يعتمدون على التمثلات الذاتية السطحية القائمة على منطق الرغبة والحاجة، وهذا ما يفسر تعدد ردود الأفعال بشأن الوباء وتمايزها شكلا ومضمونا مما أنتج تأويلات اجتماعية ودينية وأحيانا أسطورية تُشيِّد لتمثلات عديدة و تَستثير لمخيال يربط الحدث (كورونا) تارة بنظرية المؤامرة وتارة أخرى بالعقاب الإلهي وأحيانا أخرى بقدرة الطبيعة على ترويض مَن كان يعتقد أنه مروضها(الإنسان )..، لقد صارت كورونا جزءا لا يتجزأ من اللغة في المتداول اليومي ، نُعرِّفها بالكلام و توجد في اللسان ولكنها أيضا توجد وراء اللسان، إنها ظاهرة مرضية أعقد من عقدة اللسان ما دام اسمها ضربا من ضروب العدم والموت والفراغ واليأس...

حدث ناذر الوقوع والتوقع بحجم كورونا هو اختبار حقيقي لصورة الجسد الإجتماعي خاصة وأنَّ حالة الذعر التي خلقها و فقدان السيطرة على المشاعر و الأفعال قد يكون على نفس درجة خطورة الفيروس نفسه وربما يفوقه في التبعات مستقبلا، لقد أصبح الإنسان عرضة لتوثر دائم بين الأنانية و الإيثار، بين الإلزام و الإلتزام، بين الرضوخ لقواعد الحجر و الإنعزال وبين الشعور بخطر اللُّقمة و تهديد النكوص..، لذلك فاستمرارية الحياة الإجتماعية يتوقف أساسا على وظيفة بنيتها في إطار ما يسمى سوسيولوجيا ب "الوحدة الوظيفية "، ومن تمة فوظيفة الخطاب اليوم يقتضي توحيد الكائنات الفردية داخل بُنى تُغذِّي روح التباث وحس الإنتماء ، وتساعد على بناء"أنا" تساير المستجد، وقادرة على التكيف مع منطق التباعد و بمقدورها تعديل طرائق السلوك..، خصوصا وأن وباء كورونا أصبح شفرة للقطيعة و الإستنزاف و لفك الإرتباط بين الفرد و وظائفه المعتادة آنفا، و أضحت شعارا لتقويض المجال المشروع للحرية العمومية.

وعلى هذا الأساس فالبحث عن تشكيل مرجعية جديدة تهم مختلف مناحي الحياة وقائمة على إنشاء مقاربات و تجريب مفاهيم تكفل كرامة الجميع لهُوَ أمر في غاية الإلحاح، ومن هنا ضرورة التفكير في الآليات و المعايير الجديدة للأدوار الإجتماعية و خلق نظام توعوي قوي، و تقديم تحليلات معقلنة لطبيعة الآثار والإنعكاسات الإجتماعية والسياسية والاقتصادية و الفكرية.. التي لحقت الفرد و الجماعة، و الأهم هو تصميم رؤية شمولية لعلاقة المجتمع مع المرض قائمة على الوعي و الإلتزام و إدراك المخاطر و العواقب .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صحن طائر أو بالون عادي.. ما هي حقيقة الجسم الغريب فوق نيويور


.. دولة الإمارات تنقل الدفعة الـ 17 من مصابي الحرب في غزة للعلا




.. مستشار الأمن القومي: هناك جهود قطرية مصرية جارية لمحاولة الت


.. كيف استطاع طبيب مغربي الدخول إلى غزة؟ وهل وجد أسلحة في المست




.. جامعة كولومبيا الأمريكية تؤجل فض الاعتصام الطلابي المؤيد لفل