الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الألٌوهَةً في علم الاجتماع

محمد لفته محل

2020 / 5 / 17
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


موجز تاريخ علم الاجتماع الديني:
لايمكن الدخول للموضوع مباشرة ما لم يعرف القارئ كيف تكونت العلاقة بين علم الاجتماع والدين لأنها البداية التي استطيع المضي بالموضوع الى الختام دون اي مصادرة على القارئ.
لم تكشف بعد أي جماعة انسانية دون ان يكون لها سلوكاً يعرف أنه سلوك "ديني".(بيومي،2011: 183) لقد ابدى علم الاجتماع اهتماماً لافتاً بالدين منذ ظهوره، فقد توقف كبار منظري علم الاجتماع الكلاسيكي طويلاً، متأملين معنى الدين ووظائفه داخل المجتمع.(اكزافيفا،2011 :27) ان علم اجتماع الاديان ولد من قلب تساؤل علم الاجتماع حول العصرية. وقد تركز تحقيق المؤسسين على المجتمع المعاصر والتغيرات العميقة التي طرأت على الدين من جرائه.(ويليم،2001: 9) ويحتل علم الاجتماع الديني مكانة القلب في علم الاجتماع العام، لأنه كان مهتماً بفهم الفعل الرشيد، وأهمية الرموز، واخيراً طبيعة الفعل الاجتماعي.(مارشال،2000، ج2: 984)
يعتبر علم الاجتماع الديني فرعا هاما من فروع علم الاجتماع، ويتناول دراسة النظم الدينية السائدة في المجتمعات الانسانية ويهتم بدراسة العلاقات المتبادلة والمتفاعلة بين الدين من ناحية والمجتمع من ناحية أخرى. وقد قدم هذا العلم افتراضاً أساسياً فحواه ان الدوافع الدينية والأفكار والنظم تؤثر وتتأثر بالقوى الاجتماعية والتنظيم الاجتماعي والتدرج الطبقي. ويعرّف هذا العلم بأنه العلم الذي يختص بدراسة النشاط الديني للمجتمعات. والعوامل الاجتماعية التي أدت الى اختلاف الشعائر الدينية باختلاف المجتمعات وعلاقة هذه الشعائر بالأوضاع الثقافية السائدة في كل مجتمع وتأثرها بعادات الناس وتقاليدهم. وبوجه عام فإن علم الاجتماع الديني يهتم بدراسة النظم الاجتماعية المتعلقة بالعقائد والعبادات وفهم العالم القدسي وما تشمل عليه الديانة التي تسير عليها المجتمع من قواعد وتعاليم. ويتضمن هذا العلم بحوث تشمل وظائف الطقوس في المجتمع والتأثيرات الجماعية في الدين ودراسة الفرق والحركات الدينية وأثرها في المجتمعات، ودور الدين في الحفاظ على الكيان الاجتماعي للمجتمع ومدى مساهمته في الرقي الروحي والحفاظ على التماسك الاجتماعي.(القصاص، 2014: 19، 20)
تستمد الدراسة العلمية للمؤسسات والمعتقدات والممارسات الدينية في الأساس من الدراسات التي اجريت في أواخر القرن التاسع عشر على الظواهر الدينية واجراها كل من دوركهايم، جورج زيمل، وليم روبرتسون، ارنست تروتلش، ماكس فيبر.(مارشال،2000، ج2: 982) وتميزت الدراسات الاولية التي اجراها علماء الاجتماع حول الدين بثلاث صفات منهجية هي الصفة التطورية، الصفة الوضعية، والصفة النفسية.(دنكن،1980: 245).
يهتم علم الاجتماع الديني بمسائل تجريبية مثل ماهي نوعية الناس التي تعتنق أنواعاً من المعتقدات تحت ظروف معينة، وماهي النتائج التي تعود على الناس وعلى المجتمع ككل لاعتقادهم. ومدى مجالات الدراسة الاجتماعية للدين كبير، اذ لا يشمل استقصاء اسباب مجموعة دينية معينة، بل ايضا طبيعة ومدى العلاقات بين المؤسسات الدينية والمعتقدات والمجالات الأخرى للمجتمع، مثل الاقتصاد، والأسرة، أو السياسة، أو وسائل الإعلام، أو الجماليات والممارسة الجنسية. ويهتم علماء الاجتماع الديني ايضا بتقييم الظروف التي تؤدي في ظلها الأديان إلى صراع وتفتت او تماسك داخل المجتمع؛ وبعدد من العمليات مثل اعتناق او الارتداد عن دين او مذهب وفي مقارنة الأنواع المختلفة من التنظيمات الدينية، ودور الشخصية الكارزمية.(هينليس، 2010: 690)
يهتم عالم الاجتماع تقليديا بالأديان التي يسميها "تاريخية" وبأديان مجتمعه، وبكيفية إيجادها للمعنى النهائي لتاريخ البشر. ويتصف الشأن الديني "التاريخي" بظهور شخصيات تأسيسية (الأنبياء) ومتخصصين بالتدين (أولياء او قديسين) وبحركات الحجاج أو الأحتفال بالمعتنقين الجدد؛ وفي خط مواز بناء أماكن خاصة للعبادة واعتماد تقويم طقوسي وتشكيل جهاز مكلف بالضمائر وبالسهر على الممارسات. وينحو عالم الاجتماع عادة إلى دراسة الأديان التي تسمى "تقليدية" وأديان العادات والتقاليد وأديان الأسلاف. ويعمل عالم الاجتماع المنتمي إلى تراث ماكس فيبر على مساءلة الأواليات المرتبطة بتطور أشكال الدين تحت منظار الحداثة، وعلى ضوء الوسائل التي تؤثر بها تلك الأواليات على استعدادات السلوك الجمعي. ويعود ذلك الى حساسية عالم الاجتماع للنسبية التاريخية لأنماط الديانات، والى كونه يعطي أهمية خاصة لبعض الشخصيات ذات الهالة. في المقابل فان التوجه الدوركهايمي يبحث الاشكال البدائية للدين بحثاً عن نواة لشأن ديني بدئي، وعن البحث عن الفئات الأساسية التي توضح معنى الشر والانسان والاخر.(بونت، ايزار،2006: 207)
يعود تعريف ماهية الدين في بادئ الأمر إلى اعتبار أن الحركة الاجتماعية تقوم على وجود متواكب ومتفاعل لمعتقدات (قوى خارقة أو الإله) وأفعال، ذات الطبيعة الشعائرية التي تهدف إلى عقد العلاقات بين الناس والكائنات الخارقة. وترتكز هذه الأفعال على المعتقدات وتشكل معها نظاماً.(بونت، ايزار،2006: 486) المناقشات مازالت مستمرة حول تعريف الدين. فقد ادى تنوع الأديان إلى مشكلة التعريف. وقد ترتب على هذه المشكلة أن ظهرت اتجاهات اخرى تحاول الابتعاد عن اعطاء تعريف رسمي للدين ومحاولة تحديد جوانب التدين. فهناك جوانب روحية اجتماعية وثقافية أخرى للسلوك الديني. أيضاً قد يثير عالم الاجتماع التساؤل عن دور العامل الديني في التأثير على الجوانب الأخرى من الحياة الاجتماعية، إذ ان هذا العامل قد يعد متغيراً مستقلاً أو تابعاً في التحليل والتفسير العلي. وأخيراً فإن عالم الاجتماع يواجه بنظريات تحاول تفسير الظاهرة الدينية. ومعظم هذه النظريات مستمدة أصلاً من علم الإنسان.(بيومي،2011: 181) وليس من تعريف للدين حاز على اجماع الباحثين. ومن الصعب عزل تعريف الدين بالكامل عن تحليله وتعكس التعريفات المقترحة توجهات واضعيها في الابحاث.(ويليم،2001: 173) ويرى روبرتسون أن هناك عدداً من التعريفات الوظيفية المستخدمة في علم الاجتماع الديني. فهناك اولاً التعريف الوظيفي للدين الذي يعرف الدين من خلال الاهتمام بالمسائل المطلقة، على أساس الافتراض القائل بأن كل المجتمعات لها مسائل مطلقة.(بيومي،2011: 184) تتمتع التعريفات الوظيفية بطابع توسعي يسمح باعتبار بعض الظواهر من الاديان مع انها لا تظهر كذلك.(ويليم،2001: 177) وفي التعريفات المادية يكتسب المرء بالفهم مايخسره بالتوسع. فهذه التعريفات تحيله إلى الارتقاء والخارق.(ويليم،2001: 180،179)
وهكذا فإن علم الاجتماع الديني ارتبط بمشكلة تعريف الدين والتمييز بين الدين والسحر. وقد هجر إلى حد كبير فكرة أن الدين هو مجموعة اعتقادات بوجود إله. وبدلاً من ذلك فقد ركز على الممارسات في علاقتها بالمقدس. وقد ربط الكثير من علماء الاجتماع فيما بعد بين ماهو ديني وماهو اجتماعي. ويمكن القول بصفة عامة أن هناك اتجاهين متناقضين في علم الاجتماع الديني احدهما يتبع دوركهايم مهتما بالوظائف الاجتماعية للدين عموماً، في علاقتها بالتكامل الاجتماعي، واتجاه يتبع فيبر الذي كان مهتما بمشكلة "العدالة الالهية" اي تفسير المشكلات الاخلاقية الأساسية المرتبطة بالموت والمعاناة والشر. وبالدراسة المقارنة لطريق الانقاذ. ويرى بعض علماء الاجتماع أن هناك تحولات علمانية عميقة تجري في المجتمعات الحديثة كنتيجة للتحضر والتعددية الثقافية وانتشار الأسلوب العلمي في فهم العالم. ويعترض على هذه آخرين يرون ان الدين يتحول ولا يتدهور.(مارشال،2000،ج2: 984)
يعني الحديث عن علم الاجتماع الديني قلب منهج النقاش التقليدي الذي ساد سلفاً. فقد كان الانطلاق من تحليل منهجي لنظريات كبار المفكرين وابحاثهم بما توصلوا اليه من نتائج، بيد أنه من الاجدى اليوم السعي لتفهم التحولات العميقة التي تتجلى في ما يتعلق بالدين وبتنظيم الحياة الدينية. إذ بات من المحبذ تشكيل أطر نظرية لدراسة مايجري داخل المجتمع نفسه.(اكوافيفا، باتشي،2011: 9) واحدث تطور علم الاجتماع وعلم الإنسان في ميدان الدراسات الدينية الى إضفاء النسبية على الظاهرة الدينية، والى دحض النبوءة العلمانية التي كانت تعتقد بزوال الدين. وكانت النتيجة هي استخراج خصوصية وصحة الظاهرة الدينية.(بودن،بوريكو،1986: 324)
يزعم البعض من علماء الاجتماع الديني بعد الحرب العالمية الثانية أن هذا الفرع قد شهد نقطة تحول تاريخية من علم اجتماع ديني كلاسيكي الى علم اجتماع ديني حديث.(الخريجي،1990: 159) فالنظرة الاجتماعية للدين في علم الاجتماع الديني الكلاسيكي كانت تقول بتفسير جميع الاحداث الدينية من حيث علاقاتها بالظروف الاجتماعية، التي تحدد بدورها بالظروف الاقتصادية وتوزيع السلطة السياسية الى حد كبير.(الخريجي،1990: 163) مع غلبة التفسير الوظيفي. اما علم الاجتماع الديني الحديث فيعتمد على البحث الامبيريقي ذي الاتجاه التحليلي المعتمد على تاريخ الاديان. ويركز بالدرجة الاولى على ظواهر الكنائس والجماعات الدينية المسيحية.(الخريجي،1990: 176) وهناك علم اجتماع ديني عام يتناول الاديان عامة، وعلم اجتماع ديني خاص يتناول الموضوعات الخاصة بكل دين من الاديان.(الخريجي،1990: 167) ولكل دين شكلان، اولهما الدين الرسمي كما تحدده مواثيقه، وثانيهما الدين الشعبي كما يعيشه أتباعه في مختلف الأماكن والزمان.(شروخ،2012: 31) وخلال النصف الأخير من القرن العشرين كان هناك عدد من الموضوعات الرئيسية لعلماء الاجتماع الديني احدها اطروحة العلمنة، ونمو الاصولية، وتطور الحركات الدينية الجديدة ومعتقدات وممارسات الدين غير المؤسسي. وكانت المجالات الاخرى ذات الاهتمام المتنامي العلاقات بين الدين والهوية والجنس والهجرة والتعددية الثقافية والعولمة؛ المدركات الحسية للجسد؛ ودراسة رجال الدين وكذلك العمر والنوع الاجتماعي والطبقة والاختلافات النشوئية والخبرات الدينية.(هينليس، 2010: 692) تعرض التقسيم (اديان تقليدية وغير تقليدية) في اواخر الستينات لنقد بتأثير الدراسات الاجتماعية الجديدة عن "الحركات الدينية الحديثة" المنتشرة في المجتمعات غير الاوربية، وايضا بتأثير المبادلات مع علم الانسان الديني التاريخي عن أديان "الكتاب".(بونت، ايزار،2006: 208)
لقد ساهم فكر علم الاجتماع في رد اعتبار الأمور الدينية عبر ابراز أهمية الدين في الأنظمة الاجتماعية.(ويليم،2001 :10) ويجب النظر إلى علم الاجتماع الديني باعتباره نقدا للنظريات الوضعية الخاصة بالقرن التاسع عشر، والتي كانت مهتمة بتفسير أصول نشأة الدين استناداً إلى افتراضات عقلانية وفردية. هذا التراث الوضعي نظر إلى الدين باعتباره اعتقادات غير صحيحة سرعان ماتختفي على نطاق واسع. وعلى خلاف ذلك كان علم الاجتماع الديني مهتما بالدين باعتباره ظاهرة غير عقلانية، وجمعية، ورمزية. ولم يكن علم الاجتماع الديني مهتما بالأصول التاريخية للدين في المجتمع البدائي. فالدين لم يكن قائماً على اعتقاد غير صحيح، ولكنه يمثل استجابة لحاجة انسانية للبحث عن معنى. ولم يكن فردياً في نشأته وانما كان جمعيا واجتماعيا. إذ كان يدور حول الرموز والطقوس وليس حول المعرفة والاعتقاد. ويعد كتاب دوركهايم "الاشكال الاساسية للحياة الدينية" النموذج الكلاسيكي عن هذا المنظور الاجتماعي.(مارشال،2000،ج2: 983) "ومن هنا، فلا وجود لأديان زائفة اساساً، إذ جميع الأديان قويمة على طريقتها الخاصّة: إنّها تستجيب جميعها، ولو بطرق مختلفة، لأوضاع معيّنة من الوجود البشريّ"(مجموعة باحثين، 2015: 118) ويناصر علم الاجتماع الديني اللاأدرية المنهجية، اي انها لاتوجه أسئلة عن طبيعة الله، ولايمكنها أن تجتذب إلى المجال التجريبي، مثل الروح القدس لتفسر تلك الحوادث مثل اعتناق دين أو تصديق معجزات.(هينليس،2010: 690_692)

دراسات علم الإنسان للألوهة:
يخبرنا علماء الانسان ان فكرة الألوهة نشأت تاريخيا عن عبادة الأسلاف، فالآلهة كانوا بشرا بيننا ويعيشون معنا من زعماء وسحرة وحكام(السواح،1998: 206،207) نكن لهم الاحترام والتقدير والطاعة لأوامرهم ولم يكونوا نتاج الوهم والحاجة. ولازالت صورة الله الإنسانية في الذهن الإنساني كإنسان شاب أو شيخ مسن أشيب اللحية والشعر يجلس على عرش، وهي بقايا من صورة الأجداد الأسلاف في الذاكرة السلالية، ثم بعد فترة زمنية صعد هؤلاء المؤلهون إلى السماء كما لاحظ الباحثون في الثقافات الغابرة(الياد،2009: 153)(في القرآن لدى المسلمين كان عرش الله على الماء. هود:7) وعندها امتزجت قدراتهم بالظواهر السماوية.(النشار،1949: 223) فصعود الآلهة هو قصة رمزية أسطورية لحقيقة تاريخية عندما رفعت الجماعة أسلافها لمرتبة عليا فوق الأشياء والأفراد. ولا ننسى أن التوحيد الحضاري الأول تاريخيا كان له ارتباط سياسي بأخناتون عندما حصر السلطة بيد حاكم واحد وهدم المعابد الأخرى. وكان الكاتب اليوناني القديم كزينوفانيس، هو الذي اول من لاحظ أن «الآلهة الأثيوبيين كانوا من السود حتمًا وذوي أنوف مسطحة، في حين أن الآلهة التراقيين كانوا شقرًا وبأعين زرقاء»
أن اتباع النظرية التأليهية من علماء الإنسان مثل اندرو لانغ و وليم شميدت اتجهوا إلى أن أقدم شعوب بدائية هم زنوج أفريقيا ويمثلون الثقافة الأولى للبشرية ووجدوا ببحثهم لحياتهم الاجتماعية والثقافية أنهم يؤمنون بوجود "إله سام" ووجد هذا الإيمان كذلك عند بعض أقزام آسيا وعند الاستراليين والأمريكان والهنود، وهذا الإله هو واحد(النشار،1949 :222) في الأصل، وان فساد الفكر الديني هو الذي قاد إلى تعدد الإله على عكس المنهج التطوري. ومكان هذا الإله فقد اعتقدت بعض القبائل انه يعيش مع الإنسان أو في السماء أو صعد من الأرض للسماء بعد أن غضب من الإنسان. ففكرة الإله في مصدرها الأول، فكرة لماعة قوية مستقلة عن غيرها، وصورة الله عند البدائيين قسمين الأولى انه لا يمكن إدراكه بالحواس والثانية أن له صورة إنسانية(النشار،1949 :224، 223) ونسبت له السرمدية عند بعض القبائل، والعلم عند بعضها الآخر. ونسب إليه الخير للإنسان وتحقيق سعادته ويجنبه المرض والموت وهو مصدر الأخلاق والجزاء والقانون وله القدرة على الخلق، والإنسان يتوجه له بالعبادة والطقوس والتضحيات.(النشار،1949 :226) انه واضع القوانين ويحدد الخير والشر ويحكم على الناس وهو من يشبع مطالب الإنسان الشعورية من ثقة وحب ومجد وشكر، وهو من يشبع حاجة الإنسان إلى حام يستسلم ويخضع له ويمنحه السمو والقدسية، وهذه الصورة هي من تمد البدائي القوة على الحياة والحب والعمل والثقة ليسموا بنفسه.(النشار،1949 : 227،228)

الدراسات الاجتماعية للألوهة:
الظاهرة الاجتماعية تعرف دائماً على أساس علاقات سلوكية بين الكائنات الحية، والفعل الاجتماعي يتطلب تفاعلاً ثنائياً بين البشر، والله يمكن عده فاعلاً اجتماعياً آخر يمكن أن يعرف من قِبل الفاعل نفسه وليس من قبل عالم الاجتماع، فالفاعل الاجتماعي يلزم نفسه بالاعتقاد في الله يدخل في علاقة وجدانية شخصية، وعلى عالم الاجتماع الالتزام بتعريف الفاعل للموقف كخطوة هامة في تفسير الفعل. من دون أن يكون ضرورياً عالم الاجتماع مؤمناً(تيرنر، 2013: 77_80). ويفرق (شوتس) بين المعنى الموضوعي والمعنى الذاتي. فالمعنى الموضوعي يشير إلى علاقات ورموز وأفعال لها معنى عند الجميع مستقلة عن نيات من انتجوها، أما المعاني الذاتية لدى الآخرين فإنها يمكن ان تفهم بشكل كامل عن طريق معايشة تجارب الآخرين(تيرنر،2013: 84) وليس من المناسب أن يصبح الباحث مشغولاً بقضايا مثل وجود كائنات فوق بشرية أو ماهيتها، فالإجابة عنها تتم بواسطة فحص المفاهيم والنظريات التي يستخدمها الفاعلون الاجتماعيون، وأن ينظر بجدية الى ماهو مسلم به ثقافياً. وقد لاحظ (شوتس) عند التعامل مع فاعلين غير معروفين لنا يجب أن نصوغ (نماذج) لهولاء الفاعلين ونتعامل معهم على أساس هذه النماذج، فالمسائل اللاهوتية عبارة عن مجموعة من نماذج تلخص للمؤمن نوعية الالهة التي يمكن أن يفهمها(تيرنر،2013: 91_93) هذه النماذج اللاهوتية تحدد ما هي نوعية الفاعل فوق البشري وما هي الاستجابات التي تعتبر مناسبة، فالشخص حتى تكون له تجربة له مع الله لابد من إطار من المفاهيم يمكنه من خلالها تفسير مثل هذه التجارب(تيرنر،2013: 94) والفاعلين في تعاملهم مع الكائنات فوق البشرية يعتمدون على العبارات التي تستخدم في وصف الاساليب السائدة داخل مجتمعهم "العلاقات الانسانية الخاصة بالسيطرة والتبعية قد تصبح متاحة من اجل الفروق في المكانة بين الناس وآلهتهم" ففي المجتمعات الاقطاعية فان النظام الهرمي بين الناس والملائكة وبين الملائكة والله أساسه تصوراً إقطاعياً؛ وتزودنا اللغة الخاصة بالعلاقات الاجتماعية بمادة يمكن للمؤمن تصور العلاقات الاشكالية بين البشر والهتهم، فكون الاخيرة ذات مكانة أرفع فإن لغة الخطاب الدينية الى حد ما ذات مفردات تدل على التدرج الاجتماعي(تيرنر،2013: 96،97).
ويسأل دوركهايم: كيف وصل الناس إلى إضفاء مثل هذه السلطة على كائن يرى بعض الناس انه من نتاج خيالهم. لاشيء يأتي من العدم، فلا بد إذن أن تأتي قوة هذا الكائن من ناحية ما.(دركهايم، 1982: 195،196) أن الفرد لن يعتاد في يوم من الأيام على فكرة القوى التي تتجاوزه بنحو لامتناه، مثلما تتجاوز كل ما يحيط به، إذا لم يتعرف سوى على ذاته وعلى الكون المادي. وحتى القوى الطبيعية الجبارة التي يتصل بها لا يمكنها أن توحي له بمفهوم عنها، لأنه، في البدء، مثلما اليوم، بعيد عن معرفة إلى أي حد تسيطر عليه. وهو يعتقد على العكس، أن بإمكانه في ظروف معينة، أن يسخرها لمشيئته [بالطقوس والسحر]. والواقع أن العلم هو الذي كشف له، كم هو أدنى منها، وأضعف أمامها. والقوة التي فرضت عليها احترامها، وغدت موضوع عبادته، إنما هي المجتمع، والذي لم تكن الآلهة سوى شكله المؤقنم.(دوركايم، 2011: 401) او هو المجتمع وقد استحال إلى صورة وتفكير رمزي.(دوركايم، 1966: 91) فهو يحيط بالفرد من كل صوب ويفوقه مادياً ولكن تفوق المجتمع مادياً وحده هو ليس بالأمر الكافي، لأن الكون هو أيضاً بهذا التفوق المادي، ولكن الكون ليس أمراً معنوياً. أما المجتمع فهو قوة معنوية.( دوركايم، 2011: 94) ويمتلك الحياة الذكية التي يفتقر اليها الكون. ونجد صوتا يتكلم فينا ويهيب بنا قائلا: هو ذا واجبك. وعندما نتخاذل عن أداء ذلك الواجب، يعلو الصوت ذاته محتجا على فعلنا. ولما كان ذلك الصوت يتكلم بلهجة الأمر، فانا نحس دائما بأنه لابد صادر عن كائن يعلو علينا. غير أننا لانتبين بوضوح من هو ذلك الكائن. ولهذا لجأ خيال الشعوب من أجل تفسير ذلك الصوت الخفي الذي تختلف لهجته عن لهجة الصوت الانساني الى أن يعزوه الى كائنات علوية تسمو على الانسان، وأصبحت هذه الكائنات موضوعا للعبادة؛ وهنا لاتكون العبادة سوى المظهر الخارجي للاعتراف بالسلطة التي تعزى اليها. وعلينا أن نزيل عن هذه النظرة ما علق بها من صور أسطورية، وأن نصل الى الحقيقة من وراء الرمز. وهي المجتمع.(دوركايم،2015: 87،88) فالاعتقاد بالله ليس وهما وإنما له مصدر موضوعي وهو المجتمع لكن ليس بالضرورة أن يتطابق هذا الواقع مع صورته في ذهن المؤمن(الخريجي،1990: 95) لإن "المشاعر الجمعية لا يمكن أن تصبح واعية بذاتها، إلا إذا اختلطت بموضوعات خارجية، وتجسدت فيها. كما لا يمكن أن تتخذ شكلا مميزا، ما لم تأخذ بعض خصائصها وملامحها من الأشياء الأخرى، أي أنها تكتسب نوعا من الطبيعة الفيزيقية، وتمتزج نفسها بحياة العالم المادي" "إن العناصر الأساسية التي انبثقت عنها المشاعر الدينية، قد خضعت للاستعارة في الواقع عن طريق الفهم"(الخريجي،1990: 100)
وإذا تفحصنا المشاعر التي تخالجنا عند الإحساس بالله كما تمر بنا نجد أنها تشبه علاقتنا بالمجتمع. "بشكل عام ليس هناك شك بأن المجتمع من حيث قوة تأثيره، يلبي كل المتطلبات التي تثير لدى الخلائق الشعور بالالوهيته، ذلك إن المجتمع بالنسبة لأفراده يشكل ما يشبه الإله للمؤمنين" "إن الله والجماعة ليست إلا شيئا واحدا" "وإذا تمعنا في أثرها على أفراد الجماعة، لرأيناه شبيها إلى حد كبير بتأثير الله على المؤمنين به. أنها تأمر وتنهي، وتتطلب من الأفراد الطاعة العمياء"(النشار، 1944: 157) ونحن نتصور الله كما يقول دوركهايم "على انه قوة عليا أسمى منه كثيرا، ويوقن [الفرد] انه متصل بها ويتعلق وجوده بوجودها" وهو "يشعر في أعماقه انه أنما يفعل ما يفعله، ويقوم بما يقوم به، لان مبدأ ألهيا يدفعه ويسيطر عليه. كذلك الجماعة أنها تغرس فينا الإحساس بارتباطنا الدائم بها، وتعلقنا تعلقا لا انفصام له بوحدتها" "الله قبل كل شيء هو كيان يتخيله الإنسان على انه أفضل منه بنواح عدة، ويخيل إليه أن هناك علاقة تبعية تربطه به. هذا الإله من الممكن أن يكون شخصية ذات وعي وإدراك مثل "زيوس" أو "يهوه" ومن الممكن أن يكون قوة مجردة ومبسطة كما هو الحال في الطوطمية، في كل هذه الحالات، يعتقد المؤمن أن عليه أن يسلك سلوكا معينا يفرضه عليه المبدأ المقدس الذي يرتبط به. كذلك المجمع يثير لدينا إحساسا من علاقة التبعية الأبدية"(النشار،1944: 158) وإذا قارنا بين الجماعة وبين الإله، فسنجد أن كلاهما مرجعية معيارية (يعلمنا ويلزمنا الحلال والحرام والخير والشر)، وكلاهما موجدان قبلنا وباقيان بعدنا، وكلاهما يتفوق علينا فيزيائياً ومعنوياً، وكلاهما يمتلك الحق الشرعي بالجزاء (الاجتماعي أو الإلهي). ويرد دوركهايم على من يقول ان المجتمع ليس كاملاً مثل الإله، فكيف يكون اصلاً له؟. قائلا: ان هذا العالم مترع نقصاً وقبحاً(دوركايم،1966: 130) ناهيك عن الابادات الجماعية والتمييز العنصري الذي تزخر بها الكتب المقدسة، او الجرائم التي ارتكبت (وترتكب) باسم هذه الأديان. دون أن تعتبر هذه الجرائم لدى المؤمنين به أي نقص في كماله.
ويقول دوركهايم: أننا قلما نجد شخصية إلهية لاتحتفظ بشيء من اللاشخصية. فأولئك الذين يتصورون تلك الشخصية أوضح صورة ممكنة في شكل ملموس وواضح يفكرون فيها، في الوقت عينه، بوصفها قدرة مجردة لايمكن تعريفها إلا من خلال طبيعة فاعليتها، بوصفها قوة تنتشر في الفضاء وتكون محتواة، جزئياً في الأقل، في كل أثر من آثارها. إنها القدرة على إحداث المطر أو الرياح، المحاصيل أو ضوء النهار. ومن حيث القاعدة العامة، فإن هذه الفعالية ليست معرّفة إلا على نحو ناقص بحيث لايستطيع المؤمن أن يكوّن عنها سوى فكرة شديدة الإبهام. وهذا الإبهام هو الذي مكّن من حدوث تلك ضروب من التوفيق والازدواج التي انقسمت الآلهة في سياقها وتفككت واختلطت بجميع الطرائق. ولعلنا لانجد أي ديانة انحلت فيها المانا الاصلية، واحدة اكانت أم متعددة، انحلالاً كاملاً إلى عدد محدد بوضوح من الكائنات المنفصلة والمستقل بعضها عن بعض؛ فكلّ منها يظل مشوبًا على الدوام بلمسة من اللاشخصية تمكنها من أن تدخل تراكيب جديدة. لأن من طبيعة القوى الدينية أن تكون عاجزة عن فردنة نفسها فردنة كاملة.(دوركهايم، 2019: 273)
والسؤال إذا كانت سلطة المجتمع الأخلاقية والشرعية والجزائية هي ذاتها سلطة الله الأخلاقية والشرعية والجزائية، من أين يا ترى جائت سلطة الله على الطبيعة وتحكمه بالظواهر الطبيعية؟ هل يوجد عاقل يعتقد أن المجتمع يتحكم بالظواهر الطبيعية؟ والجواب بتصوري أن للمجتمعات البدائية اعتقاد بالتأثير على الظواهر الطبيعية عبر الطقوس الجماعية. كالطقوس التي تحث على المطر والخصوبة والصيد وغيرها وهذا مبدئيا يعني أن الجماعة لها قدرة على التأثير بظواهر الطبيعة. وبما أن أصل الآلهة هي الجماعة ذاتها مشخصة بأرواح الأسلاف البارزين الذين صعدوا إلى السماء لاحقا. فإن سلطتها على الظواهر الطبيعية منطقية جدا. وهكذا فأن أرواح الأسلاف تحكمت بظواهر الطبيعة، فظهرت آلهة المطر وآلهة الظلام وآلهة الخصب وآلهة النور الخ. وما كان من ظهور التوحيد إلا أن يجمع جميع هذه الظواهر في يد اله واحد. والى اليوم لازال المسلمون يعتقدون بصلاة "الاستسقاء" التي تصلى جماعيا لتحث الغيوم على المطر. وكان عامة العرب حتى منتصف القرن العشرين، يمارسون طقوس جماعية التطبيل لخسوف القمر. ولازال المعتقد عند عوام العرب إن بعض الأموات المقدسين تغيم الدنيا من اجلهم أو تحل الكوارث الطبيعية بسببهم. فالرابطة بين أرواح الأسلاف والظواهر الطبيعية وثيقة عند الإنسان البدائي وليست غريبة على الإنسان المعاصر إلى الآن.
ودرس (سوانسون) أصل الاعتقادات البدائية في خمسين مجتمعاً وعلاقة الاعتقاد بالله والعالم فوق الطبيعي بالجوانب المختلفة للبناء الاجتماعي؟ وانتهى إلى أن التوحيد يوجد في المجتمعات التي تتميز بثلاث مستويات من الجماعة المستقلة والمسيطرة (الأسرة، والعشيرة، والقبيلة)(بيومي، 2011: 201). فبين جونسون (2005) أنه كلما زادت قوة تعاون أفراد المجموعات احدهم مع الآخر زاد وضوح الأفكار المحلية عما تكونه الآلهة التي ترى وتعرف كل شيء، وتوقع العقوبات، تلك الآلهة التي توجد في كل مكان وزمان. وتوصل روس وريموند (2003) لنفس النتائج، حيث أن الإيمان برب يوقع العقاب له علاقة إرتباط بحجم المجموعة الاجتماعية. وهذا الاعتقاد غير معروف في المجموعات البسيطة في موارد الرزق.(فولاد، شيفنهوفل، 2015: 32) فالاعتقاد بعامل فعال واحد أسمى فوق طبيعي وأخلاقي، يكون عامل ضعيف في المجتمعات الصغيرة لسهولة ملاحظة السلوك الأخلاقي للأفراد، وينشط هذا العامل (بقوى فعالة واحدة) في المجتمعات الكبيرة لصعوبة مراقبة الأفراد اجتماعياً(ربابورت1999)( فولاد، شيفنهوفل، 2015: 363) فيكون هذا العامل وسيلة ضبط غير مرئية. فالآلهة والسماوات تُبنى في شكل نظام اجتماعي، كثيرا ما يماثل بالضبط المجتمع البشري. هكذا نجد في مجتمع ريفي ساكن مثل لاتفيا سماءا صيغ نموذجها كمزرعة، في حين أن الرب يكون مثل مالك إقطاعية كبيرة، بينما البانتو، الذين يعيشون في قبائل كثيرة يتصورون فكريا أن سمائهم نظام قبلي طبقي ضخم. وفي المدنيات الأولى القديمة، نجد أن حالة الدولة القوية يتم إسقاطها بسهولة على السماء.(فولاد، شيفنهوفل، 2015: 346) وبعض الكتب المقدسة تعلن صراحة تحيز الله لجماعته، ك"شعب الله المختار" بالنسبة لليهود، و"خير أمة" بالنسبة للعرب المسلمين.
وفي العينة الثقافية المقننة في المجتمعات التي تمارس الزراعة الكثيفة أو التكثيفية، وجدت أغلبية (50%) من الديانات متعددة الآلهة على الرغم من أن الكثير من هذه الديانات تقريباً (42%) قد وجدت في المجتمعات التي تمارس الزراعة الانتشارية. وقد توجد الديانات متعددة الآلهة لدى العشائر والقبائل (33%) أو المشيخات (42%) لكن احتمال ظهورها يكون أكثر في الولايات أو الدول (42%). وفي داخل الديانات متعددة الآلهة مجمّع من الآلهة شديدة التخصص وفئات الكهنة المحترفين الذين يحتكرون المعارف الدينية ويقومون بالطقوس من خلال الجمهور. وتكون آلهة الديانات متعددة الآلهة، غالباً، وعلى نحو ثابت، شديدة الشبه مع البشر في طبيعتهم. فبعضها خيراً وبعضها شريراً، وبعضها يأكل ويشرب ويمارس الجنس أو القتال وافانية(فيرمان، 2015: 37،38). أن الناس كثيرا ما يفكرون في الرب وكأنه مقيد بحدود الزمان والمكان (باريت1998). فهناك فرق بين صور الرب اللاهوتية وصوره غير اللاهوتية (الصور المؤنسنة). وهذا يوضح حقيقة أن معتقداتنا الرسمية التي نقررها تتضارب مع الطريقة التي نفكر بها في الرب في الزمان الواقعي، فمعتقداتنا التي نقررها هي إشارات مفيدة للإنتماء للجماعة والإخلاص لها بدلا من الافتراضات التي نحملها معنا.( فولاد، شيفنهوفل، 2015: 362)

التحليل النفسي للألوهة:
وعلى نفس النهج يلاحظ عالم النفس سيغموند فرويد ان "الأخلاق الدارجة، العادية، تنطوي بذاتها على تقييد صارم وتتصف بطابع تحظيري شديد. وهنا بالتحديد يرسي جذوره ذلك التصور القائل بوجود كائن أعلى يعاقب ويقاصص في غير لين ولا رحمة."(فرويد، 1983أ: 59) وهذا هو التصور الموضوعي الأول للإحساس بالإله والذي يفسر تشابه الأوصاف العامة بين المجتمعات إنها كامنة في المجتمع، لكن هذه المشاعر حول الله يمكن الإحساس بها بالعزلة أيضا وفي تضاد من المجتمع في بعض الأحيان فكيف نفسر ذلك إذا كان المجتمع هو مصدر الالوهة؟ هنا يجيبنا التحليل النفسي حيث يرى زعيمه (سيغموند فرويد) أن هناك تشابها بين صفات الله وبين صفات الأب "أن الله بديل عن الأب، أو بتعبير أدق أب مبجّل، أو صورة عن الأب كما يراه المرء ويحس بوجوده في طفولته" "أو النوع البشري في الأزمنة السالفة بوصفه أبا العشيرة البدائية"(فرويد،1980: 21) "أن إله كل إنسان هو صورة أبيه، وأن الموقف الشخصي لكل فرد إزاء الإله منوط بموقفه إزاء أبيه المادي، ويتنوع ويتبدل طردا مع هذا الموقف، وأن الإله ليس في صميمه سوى أب ذي مكانة أكثر رفعة. وينصحنا التحليل النفسي هنا أيضا، كما في حال الطوطمية، بأن نصدق المؤمن عندما يتكلم عن الإله كما لو عن أبيه، تماما كما صدقناه حينما كان يتكلم عن الطوطم كما لو عن جده الأول"(فرويد، 1983ب: 192) "وفي زمن لاحق نظر الفرد إلى أبيه غير هذه النظرة، فرآه متضاءل الأهمية بنوع ما، لكن تلك الصورة الطفلية الأولى لبثت قائمة وانصهرت مع البقايا المتوارثة لذكرى الأب السالف لتؤلف التمثيل الفردي عن الله"(فرويد،1980: 21) وهذا الأب سيكون قوة نفسية داخل الفرد تراقب الأنا هي الأنا الأعلى الرقيب الأخلاقي الذي نسميه الضمير والذي نحس به حينما نشعر بالذنب والندم والتوبة، "ويتولى الأنا الأعلى تمثيل وظيفة الحماية والأمان عينها التي كان يمثلها الأب فيما سلف، والتي ستمثلها في وقت لاحق العناية الإلهية أو الأقدار."(فرويد، 1983أ: 63) فالسلطة الأبوية المتمثلة بالأب "ذلك الكائن الكلي القدرة والمتمتع بسلطة المعاقبة والتأديب، تحث الفرد وتحفزه على إنكار دوافعه الغريزية الجنسية، وتحدد ما هو مباح وما هو محظور. أما الأعمال التي تجعل الطفل يوصف بأنه "عاقل" أو "شيطان" فإنها ستنعت، في زمن لاحق، حين يحل المجتمع والانا الأعلى محل الأهل، بأنها "صالحة" أو " طالحة"، فاضلة أو مرذولة."(فرويد، 1979: 166) وهذا ألانا الأعلى هو حصيلة المجتمع الرجولي الذي منح الأب سلطة على الأسرة والمهيمن عليها، وهذا الأنا الأعلى هو نتاج المربون والمعلمون ورجال الدين والقيم الاجتماعية أيضا، بالتالي هو المجتمع داخل الفرد يراقبه ويعاقبه فيحس بالشعور بالذنب وتأنيب الضمير ويحس بالسعادة والرضا حين ينفذ تعاليمه (راحة الضمير)، وهو يعني أن المجتمع في الحالتين حاضرا فينا يمنحنا الشعور بالإلوهية من الخارج أو من الداخل عبر الأنا الأعلى، الأولى حين يكون وسط الجماعة، والثانية حين ينفرد مع نفسه مع أناه العليا، ومن هنا سبب التفسير الخاطئ لفطرية الاعتقاد بالإله، فهذا الإحساس جاء من التنشئة الاجتماعية التي وضعها المجتمع داخل الفرد عبر الأسرة الأبوية والتعليم، حتى أصبح كأنه فطري. فالمناجاة التي نحسها بوحدتنا مع الإله والاتحاد الذي تحدث عنه المتصوفة، والشعور بأنه في قلبنا، ويعلم ما بنا، ونحس بالخوف والرهبة والبنوة تجاهه، ما هو إلا موقف الأنا تجاه الأنا الأعلى، التكثيف النفسي للمجتمع وكما يصفه فرويد "وعندما يقارن الأنا نفسه بمثاله، فإن الحكم الذي يصدره على تقصيره الشخصي يولد ذلك الشعور بالتواضع والخشوع الديني الذي عليه يكون تعويل المؤمن في ورعه وتوقه. وفي مجرى التطور اللاحق يتابع المعلمون والسلطات دور الأب؛ فتبقى أوامرهم ونواهيهم قائمة بتمام قوتها في الأنا المثالي"(فرويد،1983أ: 37). وكما يقول فرويد "بأن الحل الذي يقترحه المؤمنون صحيح تاريخيا لا ماديا" "أي أننا إذا كنا لا نؤمن بوجود إله أعلى كلي القدرة اليوم، فإننا نعتقد بالمقابل انه وجد في الأزمنة البدائية شخص تجلت فيه سيماء العملقة، فرفع في وقت لاحق إلى مصاف الآلهة"(فرويد، 1979: 179)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
_فراس السواح، دين الإنسان، منشورات علاء الدين، دمشق 1998.
_مرسيا الياد، المقدس والعادي، ترجمة عادل العوا، التنوير، 2009.
_علي سامي النشار، نشأت الدين، النظريات التطورية والمؤلهة، دار النشر الثقافة بالإسكندرية، 1949.
_عبد الله الخريجي، علم الاجتماع الديني، سلسلة دراسات في المجتمع العربي السعودي، رامتان_جدة، الطبعة الثانية 1990.
_إميل دركهايم، في تقسيم العَمَل الاجتماعي، ترجمة حافظ الجمالي، مجموعة الروائع الإنسانية_الأونسكو، السلسلة العربية، اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع بيروت، 1982.
_إميل دوركايم، الانتحار، ترجمة: حسن عودة، الهيئة العامة السورية للكتاب، دراسات اجتماعية4، 2011.
_إميل دوركايم، علم اجتماع وفلسفة، ترجمة الدكتور حسن أنيس، الناشر مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الأولى سنة 1966.
_إميل دوركايم، التربية الأخلاقية، ترجمة: السيد محمد بدوي، المركز القومي للترجمة، 2015.
_د.محمد أحمد بيومي، علم الاجتماع الديني، دار المعرفة الجامعية طبع نشر توزيع 2011.
_تحرير: إيكارت فولاند و وولف شيفنهوفل، التطور البيولوجي للعقل والسلوك الدينيين، ترجمة: مصطفى إبراهيم فهمي، المركز القومي للترجمة، ط1 2015.
_تحرير: جى.ر. فيرمان، بيولوجيا السلوك الديني، الجذور التطورية للإيمان والدين، ترجمة: شاكر عبد الحميد، المركز القومي للترجمة، الطبعة الأولى 2015.
_سيغموند فرويد، الأنا والهَذا، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة والنشر بيروت، 1983 أ.
_سيغموند فرويد، أبليس في التحليل النفسي، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة والنشر بيروت، 1980.
_سيغموند فرويد، الطوطم والحرام، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة والنشر بيروت، 1983 ب.
_سيغموند فرويد، موسى والتوحيد، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة والنشر بيروت، 1979.
_براين تيرنر، علم الاجتماع والاسلام، دراسة نقدية لفكر ماكس فيبر، نقله إلى العربية: أبو بكر أحمد باقادر، جداول، الطبعة الأولى كانون الثاني/يناير2013.
_مجموعة باحثين (المشاركون)، الدين والمجتمع ونظرية المعرفة، قراءات معاصرة في أعمال إيميل دوركهايم، ملف بحثي 2015/08/28، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، على الرابط:
http://www.mominoun.com/.الدين-والمجتمع-ونظرية-المعرفة--قراءات-معاص...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. زيارة الرئيس الصيني لفرنسا.. هل تجذب بكين الدول الأوروبية بع


.. الدخول الإسرائيلي لمعبر رفح.. ما تداعيات الخطوة على محادثات 




.. ماثيو ميلر للجزيرة: إسرائيل لديها هدف شرعي بمنع حماس من السي


.. استهداف مراكز للإيواء.. شهيد ومصابون في قصف مدرسة تابعة للأو




.. خارج الصندوق | محور صلاح الدين.. تصعيد جديد في حرب غزة