الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رحلة حول العالم: أرمينيا - أرض العزيمة والأمل

كلكامش نبيل

2020 / 5 / 18
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


استكمالاً لرحلة استكشاف العالم أبجديًا، كانت محطة ليلة البارحة "أرمينيا"، تلك البلاد القديمة الرائعة ومملكة أرارتو. برغبة في الإطلاع على تاريخ البلاد ككل، اخترت فيلم بعنوان "أرمينيتي My Armenia" من اخراج أرتاك أفيتيان عام 2009. الفيلم الوثائقي باللغة الإنجليزية ومدته 90 دقيقة ومقسّم إلى أربعة أجزاء تقابل عناصر الطبيعة: الماء والنار والتراب والهواء. لغة الفيلم شاعرية للغاية ومؤثرة وتوضّح آلام هذا الشعب وتعلقه بالحياة في الوقت ذاته.

يبدأ قسم "الماء" بالحديث عن جبل أرارات ورسو سفينة نوح هناك بحسب سفر التكوين وجهود الباحثين للبحث عن السفينة ووجود مقتنيات مقدسة في احدى الكنائس الأرمنية يُقال أنها تضم جزء من خشب السفينة. يذكر الفيلم أيضًا بعثات روسية في زمن القيصر نيكولاي الثاني للبحث عن السفينة وتدمير تلك اللقى وضياعها بسبب الثورة البلشفية. ذكرني ذلك أيضًا بأسطورة تقول أن الأبواب الرئيسية لكنيسة آيا صوفيا في اسطنبول تضم خشب من سفينة نوح. يتحدث الفيلم عن الأثر المبكر للمسيحية في ضمير الشعب الأرمني وتأسيس الكنيسة الأرمنية الرسولية وكيف كان قسطنطين أرمني المولد وكيف انتشرت المسيحية في وقتٍ مبكر في البلاد وكانت أول بلاد تتبنى المسيحية رسميًا في القرن الثالث الميلادي. بالتأكيد كانت هناك مملكة الرها المسيحية أيضًا وهذا يدفعني لقراءة أكثر عن هذا الموضوع. يذكر الفيلم قصة القديس غريغور المنور وبقاءه في الجب مع الأفاعي والعقارب لمدة 13 عام وخروجه بعد رؤية الملكة لحلم متكرر لعلاج زوجها من الجنون على يد السجين الذي ترك هناك وتصوّر الجميع وفاته، وهو القديس غريغور. يتطرق الفيلم لضحايا الأرمن في عام 2015 وهروبهم من غرب أرمينيا وتوزعهم في بلاد كثيرة في أوروبا والولايات المتحدة وسوريا ومصر ولبنان وإيران – ولكنه للأسف لم يذكر العراق. يسرد الفيلم دفاع الأرمن عن بلادهم في وجه محاولات لمحو أرمينيا من الوجود وكيف صدّ الشعب الجيش التركي في معركة سردار آباد باستخدام مناجل وأدوات زراعية صدئة وكيف بارك الكاثوليكوس تلك الجهود الشعبية الدفاعية.

يتحدث الفيلم عن ندرة المياه في أرمينيا عند النظر إلى الهضبة ولكنه يؤكد تقديس الماء في الثقافة الشعبية ووجود آلهة للمياه والأنهر وكيف تسربت تلك التقاليد إلى المسيحية واستمرار تقديس المياه في عيد التجلي "رش المياه أو فاردافار"، الذي يعقب عيد القيامة، حيث يرش الناس المياه على بعضهم البعض، وهذا بالضبط يشبه عيد نوسرديل "عيد الرشاش" في الكنيسة الآشورية العراقية وذكريات تلك اللحظات من البلل في بغداد في التسعينيات. يتحدث الفيلم بشاعرية عن بحيرة "سيفان" – على أرتفاع 1900 متر فوق مستوى سطح البحر – وجمال الطبيعة هناك والأديرة والكنائس فوق جزيرة وسط البحيرة وكيف صدّ الأرمن هجمات العرب في القرن التاسع الميلادي والفرس والمغول عبر التاريخ. في البحيرة، عثر العلماء على عربات ملكية أورارتية عمرها آلاف السنين. يتطرق الفيلم أيضًا لتقديس المياه وتخصيص نافورات ونبع لشرب المياه من قبل الناس لأحبائهم الراحلين، وهذه العادات ملحوظة في تركيا والعراق اليوم أيضًا.

يتناول القسم الثاني "النار" دور النار في تاريخ الشعب الأرمني وكيف فرضت عليهم الحروب عبر التاريخ. يذكر الفيلم تقديس الأرمن للنار في السابق وكيف أعيد تفسير أعياد مرتبطة بالنار بشكل آخر يتوافق مع المسيحية، وهذا ما يحدث على الدوام في الكثير من الأديان لأن العقائد القديمة لا تختفي بل يُعاد توظيفها. في السابق، كان الأرمن يوقدون النيران بهدف تدفئة الأرض تمهيدا لقدوم الربيع وفق المعتقدات القديمة، وعند إزالة المعابد القديمة مع إنتشار المسيحية لم يقم الرهبان بإزالة معبد إله الشمس وبذلك بقي معبد غارني، المعبد الوثني الوحيد في البلاد وتمت إعادة ترميمه بعد أن ضربه زلزال مدمر. المعبد مبني من البازلت على الطراز اليوناني وداخله مزين بالموزائيك وموضوعات من الميثولوجيا اليونانية وهناك حمامات كانت تعمل كمكان للتواصل الاجتماعي أيضًا كما هو الحال في روما القديمة. لا يزال الأرمن يحتلفون بعيد "ترنديز" المرتبط بديانات قديمة مكرسة لإله الشمس قبل دخول البلاد إلى المسيحية. يذكر الفيلم أيضًا أقدم صورة ليسوع المسيح في أرمينيا ونقلها إلى القسطنطينية ومن ثم إلى كنيسة أرمنية في جنوى في إيطاليا وأنها الأقدم في العالم. بالطبع يطلق الأرمن على بلادهم اسم هايستان، وكحال العديد من الشعوب التي يعرفها الآخرون بأسماء أخرى مثل اليونانيين "بلاد هيلاس" والاغريق ومصر "إيجيبتوس" وإيران "فارس" وغيرها الكثير.

في فصل التراب، يقول الفيلم أن أرمينيا بلاد صخرية بشكل كبير وهذا ما يجعل الزراعة صعبة في كثير من الأحيان ويضطر السكان لجلب التربة من أماكن بعيدة لفرش مصطباتهم الجبلية وزراعة الكرمة وصنع النبيذ منذ أقدم العصور التاريخية. في بعض أجزاء أرمينيا، يبقى الطقس باردًا طوال الوقت ولا تعرف تلك الأجزاء سوى فصلين "الشتاء والربيع". يذكر الفيلم وصف مؤرخ بريطاني للأرمن بأنهم شعب مستعد للموت من أجل وجوده ومتفائل عندما يكون الجميع في أشد مراحل الاكتئاب. يسرد الفيلم قصة طريفة عن تراب أرمينيا بين الملك أرشاك وملك فارس شابور، ويذكرني ذلك بالمصور الأرمني العراقي أرشاك، الأشهر في القرن الماضي. في الحديث عن تاريخ مملكة أراراتو العريقة، يظهر التأثير النهريني من العراق قويّا على المنحوتات الأرمنية القديمة وأساليب تصوير الآلهة بوقوفها على الثيران والأسود وهي تمد قدمها كوقوف الإلهة عشتار على أسدها في بابل، كما أن الكتابة المسمارية النهرينية التي أبتكرت في جنوب العراق انتشرت لتُستخدم من قبل الفرس والأرمن والحثيين والسوريين وغيرهم من شعوب دول الجوار. القبعات المزودة بقرون الألوهية في بلاد النهرين مصوّرة في منحوتات آلهة أرمينيا القديمة أيضًا وهذا دليل على عمق الصلات بين الشعبين منذ القدم. يذكر الفيلم بابل وروما ويذكر أقدم خارطة للعالم في بابل – من القرن الخامس الميلادي – وكيف أنها ذكرت أرمينيا إلى جانب بلاد آشور. يذكر الفيلم الكثير من الكنائس الأرمنية التاريخية من العصور الميلادية المبكرة والقرون الوسطى ومعمارها المميّز الذي وضعه القديس غريغور المنوّر. لطالما جذبني هذا المعمار وأنا أمر بجوار كنائس أرمنية في بغداد وموسكو والقاهرة واسطنبول، بل أن كنيسة القديس غريغور المنوّر في توبهانه في أسطنبول قد جذبتني منذ أول زيارة لي للمدينة عام 2005 واخترت فرع معهد اللغة الواقع هناك – على بعده عن منزلي – فقط لأنه يطل على تلك الكنيسة الجميلة. يذكر الفيلم صمود تلك الكنائس أمام الغزاة واحتواء بعضها على معاهد تدريس وبحوث في العصور الغابرة ويتطرق بالطبع للصليب الحجري الأرمني المميز الخاتشكار. يجعلني ذلك أتساءل أحيانا إن كان الخاتشكار أصل كلمة هاتش haç التركية بمعنى صليب.

يتناول القسم الأخير "الهواء" موضوع الأبجدية الأرمنية وابتكارها منذ القرن الرابع الميلادي على يد اللاهوتي الأرمني ميسروب ماشدوتس ودورها في الحفاظ على الأمة الأرمنية ولغتها ووجودها. يظهر الفيلم متحف المخطوطات الارمنية واحتواءه نوادر المخطوطات القديمة ومنها ترجمات أرمنية لأعمال أرسطو وكتب طبية أرمنية من القرون الوسطى وغيرها فضلاً عن مخطوط ضخم أنقذته سيدتان أرمنيتان في رحلة النجاة من المذابح في مدينة موش في تركيا – ودفن جزء منه في ارضروم حتى تم جمعه من جديد - وكيف أنقذ آخرون باب خشبي تاريخي من موش أيضًا ونقلوه على ظهورهم إلى يريفان. يتطرق الفيلم لأقدم عروض المسرح اليوناني القديم في أرمينيا وكيف كان الجيش الأرمني والبارثي يخوض معارك وتداخل العرض المسرحي مع جلب رأس قائد الجيش المعادي لتزول الحدود الفاصلة بين الواقع والدراما. يذكر الفيلم كلمات الكاتب الأميركي الأرمني وليم سارويان عن اعتزازه بهويته بأنه كاتب أميركي المولد ويكتب عن أميركا وبالإنجليزية ولكن روحه التي تصف وتكتب ستبقى أرمنية. بالإضافة إلى صوت الدودوك الأرمني المهيب والترانيم الأرثوذكسية الرائعة وموسيقى الكندية لورينا ماككينت وأغاني أرمنية شهيرة مثل "ديلي يامان"، يبرز الفيلم في النهاية جمال نافورات يريفان المعاصرة والرقصات الشعبية الشهيرة التي تذكرنا بدور الأرمن الكبير في مدرسة الباليه في العراق وحتى الباليه في القاهرة أيام حضوري لحفلات دار الأوبرا هناك. يختتم الفيلم المؤثر بكلمات الشاعر البريطاني الرومانسي لورد بايرون بأن أرمينيا ستظل على الدوام من بين أروع البلاد في العالم.

رابط الفيلم: shorturl.at/jDGW9








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استعدادات إسرائيلية ومؤشرات على تصعيد محتمل مع حزب الله | #غ


.. سائق بن غفير يتجاوز إشارة حمراء ما تسبب بحادث أدى إلى إصابة




.. قراءة عسكرية.. المنطقة الوسطى من قطاع غزة تتعرض لأحزمة نارية


.. السيارات الكهربائية تفجر حربا جديدة بين الصين والغرب




.. طلاب أميركيون للعربية: نحن هنا لدعم فلسطين وغزة