الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بواكير العلمانية في العراق وتطورها خلال القرن العشرين (القسم الثاني والاخير) تطور العلمانية في العراق خلال القرن العشرين

سلمان رشيد محمد الهلالي

2020 / 5 / 21
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


اعطى الاحتلال البريطاني للعراق (1914 – 1917) الافكار العلمانية دفعة للامام وسرع من عجلة التاريخ وتلقي المفاهيم العصرية , فقد ادرج الكثير من المظاهر العلمانية في البلاد , اهمها تاسيس الدولة العراقية عام 1921 ذات الصبغة المدنية والدستورية التي اخذت على عاتقها ادراج الممارسات العلمانية والسياسات الانفتاحية وادراجها في النسيج الاجتماعي اولا ، والنظام السياسي والاداري والتربوي للبلاد ثانيا . الا ان الافكار العلمانية لم تلقى ذلك الرواج والانتشار الكبير في المجتمع العراقي الذي تهيمن عليه انذاك البنى التقليدية وقوى ما قبل الدولة واهمها الدين والطائفية والعشيرة والاثنية , وانما كانت في البدء تاثيرات سطحية وشعبوية لم تنفذ الى اعماق المجتمع وبنيته الاصلية . لكن الاحداث المفصلية التي حصلت بعد تاسيس الدولة العراقية ساهمت في تهيئة الارضية في المجتمع العراقي لاستقبال وتلقي المفاهيم والانماط العلمانية في القرن العشرين ، والتحرر من سلطة المؤسسة الدينية التقليدية (الشيعية والسنية) التي كانت سائدة انذاك واهمها :
1. على المستوى الشيعي : نفي العديد من مراجع وعلماء الدين في النجف والكاظمية الى ايران - وابرزهم النائيني والاصفهاني والخالصي - من قبل الحكومة العراقية عام 1923 بعد اصدارهم فتاوى تحريم المشاركة في انتخابات المجلس التاسيسي ، الذي كان سيأخذ على عاتقه اقرار المعاهدة العراقية – البريطانية التي اقرتها حكومة عبد الرحمن النقيب عام 1922 ، وتاكيد سلطة الانتداب البريطاني ، والذي ساهم بصورة مباشرة في تهميش وتحجيم قوة رجال الدين ونفوذهم في الاوساط الاجتماعية والعشائرية ، سيما اشتراط الملك فيصل الاول لعودتهم الى البلاد ، عدم التدخل بالشأن السياسي . وقد تعرض المجتمع الشيعي في العراق بعد ذلك الى اكبر عملية اختراق علماني من قبل المؤسسات الحكومية في سبيل ادماجهم مع انماط الدولة الحديثة ، من خلال وسائل الترغيب في الوظائف والاموال للمتعلمين ، والامتيازات والمناصب للمتنفذين ، والاراضي الزراعية للشيوخ والاغوات والسادة ، على قاعدة (اذا كان غير الممكن شراء المراجع ، فيمكن شراء مقلديهم) . كما ساهم انحسار الدور الاقتصادي لمدينتي النجف وكربلاء بعد الممارسات العلمانية التي قام بها ايضا الشاه رضا بهلوي في ايران ، من حيث منع زيارة العتبات المقدسة وانتقال الاموال والاوقاف والخمس ، وغلق الحدود امام نقل الجنائز للدفن في العراق وغيرها ، في اضعاف القيمة او المستوى المعاشي لهذين المدينتين ، مما حدى بالكثير من رجال الدين وابنائهم في تلمس المعيشة والارتقاء الاجتماعي من خلال الدولة العراقية ، والانضمام لمؤسساتها التعليمية والسياسية والادارية . وبما ان الدولة العراقية الحديثة كانت لا تقبل من الافراد الشيعة الا من كان مندمجا في سياقها الايديولوجي العام ومتماهيا مع نسقها الحكومي – العلماني السائد ، متبرئً من هويته الثقافية والمذهبية والدينية ، فقد تلقف المجتمع العراقي المفاهيم العلمانية والانفتاحية بقوة حتى وصفه محمد مكية (بانه اقل تدينا وورعا من تركيا ومصر) . وظهر ذلك جليا ليس في استقباله وتماهيه مع جميع الحركات والتوجهات الفكرية العلمانية ، كالماركسية والقومية والليبرالية والوجودية والفاشية التي ظهرت في القرن العشرين فحسب ، وانما في المظاهر الانفتاحية الاجتماعية من حيث الممارسات الشخصية والاختلاط بين الجنسين واللباس الغربي وارتياد الملاهي والنوادي والمراقص ودور البغاء وغيرها .
الا ان اللافت للنظر ان الحكومة العراقية ومن ورائها المستشارين البريطانيين -وعلى راسهم المس بيل– قد ساهموا في تعزيز العلمانية في البلاد من خلال التعليم الحديث ، من اجل اضعاف النزعة الثورية الدينية عند الاغلبية الشيعية بعد ثورة العشرين ، لكنها من جانب اخر ، قد ساهمت – وبدون قصد – في تعزيز النمط الثوري العلماني ، الذي تمثل بالحركة الشيوعية ، اذ فاتها ان افضل طريقة للقضاء على النزعة الثورية ، هي القضاء على مسبباتها ومبررات وجودها وحركتها . وبهذا الصدد ذكر الدكتور الوردي (ان ضعف التدين في العراق ادى الى تضخيم نزعة الثورة فيه بدلا من تقليلها ، فقد اراد الحكام ان ينشروا في العراق النزعة العلمانية ليكافحوا بها الثورة ، فانعكست في ايديهم الاية ، فالجيل الجديد حين ترك التعصب الديني، التزم مكانه تعصبا اخر اشد وطأة... فبعد ان كانت في العراق طائفة واحدة تنزع الى الثورة (الشيعة) صارت جميع الطوائف في ثورة) . وذكر الوردي ايضا : ان المس بيل كانت تقول : ان رجال الدين من اكبر دعاة الثورة في العراق ، وان افضل مواجهة لهم تكون من خلال انتشار المدارس العلمانية الحديثة التي تؤدي الى اضعاف نزعة التدين عند الجيل الجديد . ويبدو ان قيادة المجتهدين في النجف وكربلاء والكاظمية لثورة العشرين كان ايضا عاملا او سببا عند الانكليز والنخبة السياسية الموالية لها في تشجيع وترسيخ النمط العلماني الحديث للدولة العراقية ، في سبيل سحب القاعدة الشعبية عن اولئك المجتهدين .
2. على المستوى السني : اعلان الغاء الخلافة العثمانية من قبل مصطفى كمال اتاتورك عام 1924 ، التي كان يعدها السنة في العراق الاب الحنون والمثال الاعلى . اذ على الرغم من تنصيب فيصل بن الحسين ملكا على العراق عام 1921 ، الا ان المساجد السنية استمرت بالدعاء والموالاة للخليفة العثماني حتى عام 1924 رغم احتجاج واعتراض الملك فيصل على ذلك . كما ساهمت اجراءات اتاتورك العلمانية في تركيا بتهيئة الارضية المناسبة لتلقي هذه المفاهيم عند النخبة العسكرية والادارية والتعليمية السنية الحاكمة، والرغبة بتقليدها وتبني خطواتها واجراءاتها ، لان الدولة العثمانية كانت تشكل في النظام المعرفي والسياسي والثقافي عند النخبة السنية مرتكزا دلاليا من الاعجاب والانبهار منذ ايام السلاطين والانكشارية ، وحتى ما بعد تاسيس الدولة العراقية . والغاء الخلافة العثمانية السنية مهد الارضية المناسبة لتلقي الجماعة السنية في العراق للتصورات العلمانية والمفاهيم الغربية . وبهذا الصدد يذكر فالح عبد الجبار: ان القرن العشرين يعد قرنا حافلا بالشؤم بالنسبة الى عالم الاسلام ، فهو القرن الذي شهد تفكك اوصال الدولة العثمانية والغاء الخلافة بعد اربعة عشر قرنا ، واكتمال الحملات الاستعمارية والاختراق الغربي ، من خلال احلال القيم الليبرالية والديمقراطية والماركسية والقومية بدل القيم الاسلامية ، وزعزعة النظام الابوي الفحولي من خلال دعوات تحرير المرأة وغيرها . وقد شكلت اعمال اتاتورك العلمانية السبب الاول لتشويه هذا المفهوم والمصطلح عند المسلمين في العالم , حيث ما ان يبادر الى الاذهان مصطلح العلمانية حتى يذكر معه اسم مصطفى كمال اتاتورك ونزعته الاصلاحية المتطرفة ضد السلوكيات الاسلامية في تركيا .
كانت الخميرة الاساس لنهضة العلمانية وانتشارها في العراق هى الطبقة البرجوازية الوسطى ذات الطابع المدني , التي اخذت بالتشكل بعد تاسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921 . فقد شعروا ان العامل الديني لايشكل عامل تراجع يحوي مضامين قرو – سطية متاخرة فحسب , بل هو يشكل عامل انقسام واحتراب في المجتمع العراقي . وحصل هناك بالتالي تواطوء ضمني – او صريح – على تهميشه وازالته من الحياة الاجتماعية والسياسية العامة في البلاد من اجل الارتقاء نحو التحديث والتضامن والعصرنة . وقد اشار حنا بطاطو الى دور الاسلام في الانقسام بقوله في كتابه (العراق) المجلد الاول ( الاسلام في العراق كان قوة فصل اكثر منه قوة دمج , اذ انه اقام انشقاقا حادا بين العرب الشيعة والسنة ونادرا ما اختلط هؤلاء واولئك اجتماعيا . وكقاعدة عامة لم يكن هنالك اي تزاوج بينهما وكانوا حتى في المدن المختلطة يعيشون في احياء منفصلة حيث لكل منهم حياته) . الا انه هذا الاختلاط العلماني لم يحصل بالقوة والانتشار المتوقع , بسبب دخول عامل جديد للمعادلة وهو السلطة . فقد كان لهيمنة السنة العرب على مقدرات السلطة ومكاسبها وقوتها دورا كبيرا في ترسيخ مفهوم الاستعلاء على الاخرين واهمهم الشيعة . وقد اشار الى هذه الظاهرة حنا بطاطو نفسه في موضع اخرمن كتابه بالقول ( ولكن القومية (الترجمة الصحيحة هى الوطنية) لم تزح الولاءات القديمة عن مواقعها وبالرغم انها نمت على حسابها , فهى تعايشت معها جنب الى جنب وصحيح انها اخذت من الولاءات القديمة بعض قوتها , ولكنها في الوقت نفسه تشربت بعض عناصرها النفسية) .
والملاحظ ان النزعة العلمانية كانت اقل وطأة في التيار الليبرالي ، بالقياس الى التيار الماركسي الذي كانت علمانيته اكثر فاعلية وحضورا بعد الحرب العالمية الثانية . فالعلمانية الليبرالية ، كانت اكثر تكيفا واعتدالا مع الواقع العراقي الذي كان يقدس المفاهيم الدينية في الربع الاول من القرن العشرين، ولم يقم التوجه العلماني الليبرالي باي عملية تصادم او استفزاز للمجتمع بالقياس الى التيار الماركسي. اذ شهدت البلاد انفتاحا عصريا على اغلب المسارات الاجتماعية، تصاعد بقوة مع تاسيس الدولة العراقية التي ساهمت في عملية الانفتاح الاجتماعي, من خلال تشجيع وبناء المجتمع (المدني)، وتشكيل المؤسسات التربوية والسياسية العلمانية. بل ان المجتمع العراقي قد تبنى بافراط مظاهر الانفتاح والعلمانية الماركسية ، وحصل تراجع كبير في تبني القيم والمفاهيم الدينية والغيبية في البلاد، حتى وصل الحال ان الملك فيصل الاول اكد للكاتب والرحالة اللبناني امين الريحاني (1876-1940) خطأ الدولة العراقية في تدريس المواد الدينية ، متعهدا له بالقول (اعدك انني سأمنع تدريس الدين في التعليم لكافة المراحل) ، وكل ذلك من اجل تعزيز مبدأ العلمانية وازالة مظاهر التشظي والكراهية والطائفية بين مكونات المجتمع العراقي، رغم ان الطائفية الدينية التي كانت سائدة في العراق خلال العهد العثماني قد تحولت الى الطائفية السياسية خلال مرحلة الحكم الملكي والجمهوري . وقد عقد احد الضباط البريطانيين وهو جيرالد دي غوري (1897-1984) في كتابه (ثلاثة ملوك في بغداد) مقارنة بين احوال العراق الاجتماعية والاقتصادية في مطلع تاسيس الدولة عام1921، وما وصلت اليه من تطور وعصرنة. فقد بين ان المسلمين كانوا اكثر تمسكا بالشعائر الدينية قبل ذلك التاريخ، فيما اصبحوا عام1958، اقل تدينا وممارسة لتلك الشعائر وكذا الامر في مجال تحرير المرأة وحضورها الكبير في مجالات الفن والدراسة والسياسة. كما عقد مقارنات عديدة في مسار التعليم واختيار الملابس والطعام وغيرها.
لم تكن العلمانية في العراق خلال القرن العشرين ذات نسيج واحد من الافكار والسلوكيات والانتشار , وانما كانت متعددة الافكار السياسية والايديولوجية توزعت على ثلاث توجهات :
اولا : العلمانية الليبرالية : وهى امتداد للعلمانية الثقافية التي تبلورت مع ظهور الانتلجنسيا العراقية في الربع الاخير من القرن التاسع عشر . والعلمانية السياسية والاجتماعية التي تشكلت في العقد الاول من القرن العشرين , والتي ذكرناها في القسم الاول من بواكير العلمانية في العراق . لان العلمانية السائدة انذاك في المشرق العربي – ومن ضمنها العراق – كانت هى العلمانية الليبرالية اذ لم تكن التوجهات الثورية المتضادة مع الليبرالية مثل الماركسية والقومية قد تبلورت في المنطقة انذاك . اي ان تماهي الانتلجنسيا العراقية بصفتها الناقل الاساسي للمفاهيم والتصورات الغربية مع العلمانية الليبرالية كان تحصيل حاصل لما هو سائد في اوربا انذاك . فقد كانت الوسيط الذهبي بين هذه القيم العصرية وبين المجتمع , لذا فان الاطلاع على الحضارة الغربية والانبهار بها كان يعني الاطلاع على القيم الليبرالية حصرا والتماهي معها . كما ان الدول الوطنية التي تاسست مابعد الكولونيالية في العراق وبلاد الشام ومصر , قد اعتمدت التوجهات العلمانية الليبرالية في الانظمة السياسية والدستورية والتعليم والاعلام والقوانين وغيرها , ولم يحصل ذلك الاختراق الثوري والايديولوجي الفاعل الا بعد الحرب العالمية الثانية . وكان من اهم تلك الدول التي اسسها الاستعمار البريطاني بعد الحرب العالمية الاولى هو العراق , الذي ادرج فيه الانكليز الكثير من القيم الليبرالية ذات الصبغة الانكلو – سكسونية في النظام السياسي والدستوري والتعليمي والاجتماعي والثقافي , بعد ان كانت الانتلجنسيا العراقية قد تماهت سابقا ابان عهد النهضة مع القيم الليبرالية الفرنسية في بواكير نشاتها سابقا . لان مفاهيم التنوير الليبرالية التي انتشرت في العالم في القرن التاسع عشر ، هي مفاهيم التنوير الفرنسي، لان التنوير الانكليزي الذي بدأ مع الثورة الجليلة عام 1688 وتنظيرات جون لوك قد انحصر في مجال النخبة الفكرية والسياسية في اوربا، رغم انه قد مهد للثورة الامريكية والفرنسية، الا ان بريقه قد تلاشى امام التنوير الفرنسي الذي انتشر شعبيا في اغلب ارجاء العالم. وكان من جملة المتاثرين بالتنوير الفرنسي والمبادئ الليبرالية التي استند عليها النهضويون العرب, او جيل النهضة في المشرق العربي الذي نشر اراؤوه الاصلاحية والعقلانية والسياسية في الصحف والمجلات هى الانتلجنسيا العراقية , التي استلهمت مبادئ التنوير الفرنسي وافكاره الاصلاحية وتبنت جزءا كبيرا من قيمه العلمانية والليبرالية التي نادت بها .
تميزت مرحلة حكم الملك فيصل الاول 1921-1933 بان التوجهات العلمانية الليبرالية في الدولة العراقية مثل تاسيس الاحزاب السياسية وحرية الصحافة والرأي والتظاهر واستمرارية عمل مجلس النواب , كانت ظاهرة للعيان بصورة كبيرة ، وان كانت الديمقراطية الحقيقية لم تتبلور كليا ويعتريها القصور , ولاسيما في قضية التمثيل النسبي للمكونات الاجتماعية في البرلمان والحكومة العراقية . فقد حاول الملك فيصل تعديل هذا الوضع الشاذ في الدولة من خلال القيام باصلاحات تدريجية في مجال التعليم والادارة من اجل اشراك تلك المكونات المهمشة في الادارة والحكم كالشيعة والكورد , وبشكل لا يؤدي الى اثارة الطبقة الطائفية الحاكمة التي ورثت هذه العقلية وذلك الامتياز من الدولة العثمانية والعلاقة الاندماجية والعفوية معها , الا ان تلك الاصلاحات لم تستمر او تنجح بسبب موت الملك فيصل المبكر والمفاجىء عام 1933 اولا , وتصلب النخبة الحاكمة السنية في مواقفها من الظاهرة الطائفية وعدم اصلاحها ثانيا .
ويغلب على الاحزاب السياسية في عهد الملك فيصل الطابع العلماني الليبرالي, من حيث المطالبة بترسيخ القيم الديمقراطية والدستورية وتعزيز الحريات العامة والشخصية. وسميت الاحزاب التي تاسست في عهده عند الباحثين بـ (احزاب الانتداب البريطاني) الا ان الاصح تسميتها (احزاب مرحلة حكم فيصل الاول) لان الفضل الاول في تاسيسها وممارسة نشاطها يعود اليه شخصيا . كما ان مدة حكمه الزمنية (1921-1933) قاربت مرحلة الانتداب البريطاني(1920 – 1932) . وبلغ عدد الاحزاب السياسيسة خلال فترة حكم فيصل الاول (13) حزبا. وهي: الحزب الوطني العراقي وجمعية النهضة العراقية وحزب الحر العراقي وحزب الامة وحزب الاستقلال الوطني (الموصل) وجمعية الدفاع الوطني (الموصل) والحزب الوطني العراقي (الموصل) وجمعية الدفاع الوطني (السليمانية) وحزب التقدم وحزب الشعب وحزب الجبهة الوطنية وحزب العهد العراقي وحزب الاخاء الوطني . الا ان جماعة الاهالي التي تبلورت في عهد الملك فيصل الاول عام 1931 تعد من اهم التوجهات العلمانية الديمقراطية في العراق الحديث والمعاصر وتشكلت من الشباب الجامعي المثقف ذوي الميول الليبرالية , واتخذت من الاشتراكية الغربية (الديمقراطية) اساسا ايديولوجيا لها وتزعمها كامل الجادرجي لاحقا , رغم انه لم يكن من المؤسسين الاوائل لها. وضمت جماعة الاهالي شخصيات سياسية ليبرالية بارزة امثال : جعفر ابو التمن وعبد الفتاح ابراهيم وحسين جميل ومحمد حديد وغيرهم ، واصدرت جريدة (الاهالي) عام 1932 ورأس تحريرها حسين جميل . كما تجلت الرغبة والسعي عند الملك فيصل الاول لتاسيس الدولة العصريه القائمة على العلمانية والديمقراطية من خلال مضامين القانون الاساسي العراقي الصادر عام1925 الذي وصف بانه (وثيقة ديمقراطية ليبرالية) اذ احتوى هذا الدستور على الاطار العام لنظام الحكم الملكي في البلاد , المستمد احكامه من الدساتير الغربية والعلمانية الليبرالية . وبحسب تعبير مجيد خدوري الذي وصفه بالقول (فليس هذا غريبا على بلد كالعراق المتأثر انذاك بالافكار الليبرالية) . وقد استمدت هذه الوثيقة معظم فقراتها من دساتير استراليا ونيوزلندا. واصبح للعراق بموجبها (دولة ملكية دستورية وحكومة ممثلة ، وديمقراطية محددة بالقانون تعتمد مبدأين رئيسين اولهما اضفاء مسحة ديمقراطية من خلال ربط تاليف الوزارة وبقاءها بموافقة السلطة التشريعية المنتخبة نظريا، واخضاع الوزارة للمجلس النيابي. وثانيهما، اعتماد مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث: التشريعية والقضائية والتنفيذية حتى قيل بان هذا الدستور هو بمثابة (هدية الغرب للعراق). ولكن هذا لا يمنع من وجود بعض السلبيات والاختلالات سواء اكان في طريقة كتابة ذلك الدستور او في بعض بنوده ونصوصه والتطبيقات العملية للنظام السياسي الديمقراطي، وخاصة في مجال السلطة البرلمانية ودورها الرقابي والتشريعي .
بعد وفاة الملك فيصل الاول في اذار 1933 وحصول العراق قبلها على الاستقلال, ودخوله عصبة الامم في الخامس من تشرين الاول عام 1932 ونهاية سلطة الانتداب البريطاني التي كانت الراعية الاولى لتاسيس الدولة في العراق، حصلت عملية تراجع كبير في المسار الديمقراطي في البلاد, تبلورت من خلال الرغبة بالاستحواذ او الصراع على السلطة عند النخبة السياسية الحاكمة، والاستعانة بالجيش والعشائر في هذا الصراع، وقمع الحركات المناهضة باسلوب العقاب الجماعي دون اي مراعاة لقيم الديمقراطية وحقوق الانسان. فضلا عن ذلك منع تاسيس الاحزاب السياسية المعارضة وتعليق انشطتها مع تقييد الحريات العامة وغيرها، لاسيما وان الملك غازي 1933-1939 قد اندفع بقوة في تبني المفاهيم القومية المتطرفة على حساب القيم العلمانية الليبرالية والتعددية . حيث اسس نمطا جديدا يقوم على ادخال الجيش او القوات المسلحة بالسياسة، فشهد عهده حصول اول انقلاب عسكري في الشرق الاوسط عام1936 , مع تبلور النزعات والجمعيات القومية ذات التوجهات الفاشية مثل جمعية الجوال العربي ونادي المثنى ومنظمة الفتوة وغيرها. فضلا عن بروز شخصيات راديكالية اعلنت عن توجهات سياسية وحزبية مضادة للقيم الليبرالية امثال: ساطع الحصري وسامي شوكت وعبد الرزاق الحصان وصائب شوكت و(فهد) وبكر صدقي ويونس السبعاوي وعاصم فليح وياسين الهاشمي وغيرهم .
شهدت السنوات الاولى من تاسيس الدولة العراقية العديد من الاعمال التربوية والقانونية والفكرية العلمانية ادرجت في الهيكل العام للدولة بصفتها دولة علمانية غير دينية اهمها :
1 . علمانية التعليم : عملت الحكومات الملكية على فتح العشرات من المدارس الحكومية ذات الطابع العلماني كخط مواز للتعليم الديني التقليدي السائد في البلاد. وقد ادرجت المفاهيم العلمانية في المناهج الدراسية الابتدائية والثانوية والكليات . واعتبر المنظر القومي اليميني ساطع الحصري عراب هذا النوع من التعليم , الا انه لم يكن علمانيا بالمطلق , فقد احتوى مسارات طائفية ولمحات عنصرية ورثها من اصوله العثمانية ادرجها في النظام التعليمي في البلاد , وخاصة في التاريخ الاسلامي . وقدا تجلت علمانية الحصري المتطرفة وطائفيته المضمرة من تاسيس جامعة اهل البيت التي اسسها الملك فيصل الاول عام 1924 من اجل التقريب بين المذاهب الاسلامية في العراق من جانب , والتقريب بين ابناء المجتمع في الجامعة من جانب اخر , الا ان الحصري اصر على ان تكون الجامعة علمانية صرفة , فيما ارادها البعض قومية ذات طابع اسلامي , واستمر بالتحريض عليها حتى نجح باغلاقها عام 1930 وبقى العراق بدون جامعة حتى عام 1958 عندما تاسست جامعة بغداد . كما ان الحصري هو المسؤول عن النمط التلقيني السائد في المدارس والجامعات العراقية حتى الان , لانه كان يريد تلقين العراقيين الافكار القومية ولايريد منهم التفكير في تلك الاراء المطروحة ومناقشتها وفائدتها وهدفها , وهو السبب الاساس لفشل التعليم في العراق حتى الان . ويبدو ان بعض العراقيين قد شعروا في وقت مبكر خطورة هذا التوجه عند الحصري وارادوا القاء الضوء على اختلالاته ونواقصه , واهمهم الكاتب المعروف محمد عبد الحسين وزميله ناجي القشطيني اللذين نشرا كتاب (سر تاخر المعارف) اتهموا فيه الحصري بافشال النظام التعليمي في البلاد .
علمانية القوانين المدنية : اعتمدت الدولة العراقية الحديثة القوانين الوضعية والعلمانية . ففي سنة 1933 عينت الحكومة العراقية لجنة برئاسة رجل القانون المصري المعروف عبد الرزاق السنهوري لوضع اسس التشريعات العراقية القانونية . كما شكلت لجنة اخرى ايضا برئاسة السنهوري من اجل وضع مسودة قانون مدني في العراق ضمت كلا من نوري القاضي ومحمد حسن كبة وحسن الشامي ومنير القاضي وعبد الجبار التكرلي ونشات السنوي وغيرهم . وقبل ذلك ايضا ادرج المستشارين الانكليز في الحكومة العراقية الكثير من القوانين الوضعية والعلمانية في التشريعات العراقية النافذة .
ارادت الحكومة العراقية بعد الحرب العالمية الثانية ، ومن خلال نصائح الحكومة البريطانية القيام باصلاحات علمانية وليبرالية في مجال اطلاق الحياة الحزبية وحرية الصحافة والمشاركة السياسية، لاسيما بعد تخلصها من التنظيمات العسكرية القومية والفاشية في البلاد , وتحييد الحركة الشيوعية من خلال الاعتقالات والملاحقات , لذا اعلن الوصي عبد الاله في خطاب له في 27 كانون الاول 1945 على ضرورة (ان تتالف احزاب سياسية تعبر عن مختلف وجهات النظر ليسير الحكم في البلاد سيرا ديمقراطيا) ، كما طالب ايضا بادخال جيل جديد من الشباب في العمل السياسي في العراق . وعندما اعلن توفيق السويدي في منهاج وزارته التي تألفت في 23 شباط 1946 عن فسح المجال لتاسيس الاحزاب السياسية، قدم ممثلو التيارات السياسية طلباتهم ، فاجازت وزارة الداخلية في 2 نيسان 1946 تاليف خمسة احزاب سياسية هي: حزب الاستقلال (القومي) والحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاحرار وحزب الشعب وحزب الاتحاد الوطني. واما حزب التحرير الوطني فلم تسمح الحكومة له بالعمل السياسي العلني لااعتقادها انه كان يمثل واجهة الحزب الشيوعي العراقي . وفي مطلع الخمسينات ظهرت احزاب اخرى اجيزت ايضا من وزارة الداخلية وهي : حزب الاتحاد الدستوري وحزب الاصلاح وحزب الامة الاشتراكي وحزب الجبهة الشعبية . الا ان هذه الممارسة الليبرالية لم يكتب لها النجاح, بسبب مضايقة السلطة نفسها للعمل الحزبي , من خلال سحب اجازة بعض الاحزاب ومراقبتها . واستمر التعطيل والاغلاق حتى صدور مرسوم تحريم الاحزاب والجمعيات السياسية في وزارة نوري السعيد الثانية عشر عام 1954 , الذي الغى كل مظهر من مظاهر الديمقراطية والتعددية والمشاركة السياسية في البلاد , الامر الذي زاد من عملية الاحتقان الشعبي في البلاد، تجلت بصورة واضحة في الاضطرابات التي اعقبت ازمة السويس عام 1956 ومن ثم تاسيس جبهة الاتحاد الوطني عام1957، التي مهدت الى قيام ثورة تموز1958 واسقاط النظام الملكي في العراق .
وبسقوط النظام الملكي عام 1958 تراجع الخطاب العلماني الليبرالي في العراق لحساب التوجهات اليسارية والقومية , واصبحت القيم الليبرالية موضع اتهام واستهزاء وتشكيك من قبل اتباع التيار الراديكالي والثوري، واتحدت القوى الماركسية والقومية في مهاجمة ذلك الخطاب والنيل منه معرفيا وسياسيا . اذ اتسم النظام السياسي في العراق بعد ثورة تموز 1958 بتركيز السلطة بيد الزعيم الاوحد عبد الكريم قاسم ، وانهاء سمة الفصل بين السلطات الثلاث النسبية التي كان يؤكدها دستور عام 1925. اذ منح دستور 1958 المؤقت رئيس مجلس الوزراء ولاية السلطتين التشريعية والتنفيذية، فضلا عن اختراق السلطة القضائية من خلال تعيين القضاة ومحاسبتهم ومراقبتهم , ولكن هذا لايمنع من وجود بعض الاصلاحات الليبراليه والحريات النظرية العامة التي اقرها هذا الدستور , سيما في مجال حرية الصحافة والاحزاب والتظاهر. الا انه يمكن القول ان الانقلاب البعثي القومي في شباط 1963 قد اطلق رصاصة الرحمة على بقايا القيم الليبرالية في العراق , التي استمرت في تراجعها وتلاشيها حتى اسقاط هذا النظام في عام 2003 . فقد توالت على البلاد انظمة عسكرية وراديكالية قومية , تستند على اسس من الطائفية العلنية والعشائرية والمناطقية , عملت على تركيز سلطة القائد الرمز والاب الاوحد والحزب الطليعي , مع احتكار ظاهر للعيان لجميع مؤسسات الدولة ومقدراتها لصالحه . وتجلى ذلك في عهد حكم الاخوين عبد السلام عارف (1963-1966) وعبد الرحمن عارف (1966-1968) والحكم البعثي الثاني برئاسة احمد حسن البكر (1968-1979) وصدام حسين (1979-2003) .
ثانيا : العلمانية الماركسية : ان المفردات الرئيسة في القرن التاسع عشر – كما قال الكاتب جون وشار - هي (الليبرالية والقومية والاشتراكية). وتعرف العراقيون على هذه المفردات العلمانية الثلاث كمفاهيم ومعاني مجردة دون ممارستها سياسيا وفعليا على ارض الواقع . وكان تعرفهم في البدء قد تجلى بصورة مبسطة و مثالية ، فالليبرالية ارتبطت عندهم بالحرية والديمقراطية والمشاركة السياسية والتسامح الديني ، فيما تلازمت الاشتراكية بالمساواة بين الفقراء والاغنياء ، واما القومية فهي عندهم حالة من التماهي والاعتزاز بالعروبة واللغة والنسب العربي . ولم يتم استعمال هذه المفردات ضمن المدلولات الحقيقية لها الا في القرن العشرين ، وبالتحديد بعد الثورة الدستورية في الدولة العثمانية عام 1908 . وتعد جريدة الزوراء حلقة الوصل الاولى بين العراق والحركة الاشتراكية العالمية ، فبالاضافة الى نشرها اخبار الاصلاحات التركية في عهد الوالي مدحت باشا والحركات السياسية في اوربا ، فانها قامت بنقل اخبار (كومونة باريس) الاشتراكية في فرنسا عام 1871 ، وادرجت برنامج اعضائها وافعالهم . وعلى الرغم ان الجريدة لم تكن تتعاطف مع كومونة باريس وتصفهم بـ (عصاة باريس) بسبب الطبيعة الاستبدادية للدولة العثمانية ، الا ان نشرها لبرنامج الكومونة الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، عدّ بداية المعرفة بالحركة الاشتراكية العالمية .
لقد فهم العراقيون العلمانية الاشتراكية ضمن المعنى المثالي او (اليوتوبي) التي تعني (المشاركة) في الانتاج والاموال و (المساواة) بين الاغنياء والفقراء. ولم يتعرفوا انذاك على الماركسية التي تبلورت كأحد فروع الاشتراكية في اوربا، التي هي فلسفة ومنظومة شاملة تتميز بالتعقيد والغموض في استعمال المصطلحات والمفاهيم الاقتصادية والاجتماعية . فضلا عن ذلك ان المثقفين والمتعلمين والشيوعيين العراقيين الذين تعرفوا لاحقا على الماركسية، لم يتعرفوا عليها من مصادرها الاصلية، وانما من الشروح والاضافات والانماط التي اضافها (لينين) عليها، وهي ماركسية القرن العشرين التي عرفت باسم (الماركسية - اللينينية). اي ان العراقيين انتقلوا مباشرة من الاشتراكية الى الماركسية اللينينية او الشيوعية دون المرور بالفلسفة الماركسية قط, . وتعرفوا عليها كأيديولوجية تبتغي السلطة واحتكار الحقيقة والعنف الثوري، وليس كفلسفة انسانية ذات ابعاد معرفية وقيمية هدفها الانسان. اي ان شيوعيتهم سابقة على ماركسيتهم. ويبدو ان الماركسية–اللينينية اقرب الى المزاج العراقي في تبني الايديولوجية التي تطرح نفسها كأحدى الحلول الجاهزة والمثالية وتبني العنف الثوري, الذي يتلاءم ايضا مع طبيعة الشخصية العراقية المتطرفة والمغتربة او المستلبة. ومن اجل ذلك نجد ندرة ظاهرة في تبني الانماط او المدارس الاخرى من الاشتراكيات او الماركسيات، كالاشتراكية الفابية والسان سيمونية والديمقراطية والتعاونية والدينية وغيرها ان لم يكن العكس، فقد تبنى بعض العراقيين انماطا اكثر ثورية ويسارية في الماركسية-اللينينية ، كالماوية (نسبة الى الزعيم الصيني ماوتسي تونغ M.Tung (1893-1976) والتروتسكية (نسبة الى الزعيم السوفيتي تروتسكي) واراء اخرى لزعماء وشخصيات ثورية راديكالية مثل جيفارا وهوشي منه وكاسترو وكيم ايل سونغ وغيرهم. وطبعا كل ذلك ضمن المسار النظري وليس التطبيق العملي , فلم يقم الشيوعيون العراقيون باي عمليات بطولية وشجاعة ضد الانظمة الديكتاتورية والاستبدادية في العراق , رغم اعداد الضحايا الكبيرة التي قدموها خلال تاريخهم المعاصر .
اتخذت العلمانية الماركسية في العراق خلال القرن العشرين مسارات مختلفة ومتعددة من حيث السمو والانتشار او النكوص والانزواء . وهذا التعدد والتباين في المسارات يرجع الى تماهي الماركسية في العراق مع السياسة والصراع مع السلطات الملكية والجمهورية المتعاقبة, او الاحتراب مع التيارات القومية والدينية والليبرالية الاخرى في سبيل الهيمنة والسلطة والنفوذ. وقد تبلورت الماركسية في العراق ضمن صورة رئيسية واحدة هي صورة الحزب الشيوعي العراقي, الذي احتكر لنفسه التفسير الاوحد والتنظيم المعبر عن الماركسية , وعد المخالفين له والخارجين عن مساره السياسي والايديولوجي هم من زمرة (المنحرفين) او (المرتدين) و (الرجعيين) ... وهكذا .
ففي العقد الثالث من القرن الماضي شهد تحول نوعي في شيوع الافكار الاشتراكية وانتشارها وهو تاسيس الخلايا الحزبية المتفرقة, لاسيما في بغداد والبصرة والناصرية, وهذا التحول يدل على ان الافكار الاشتراكية اصبحت اكثر مقبولية وانتشارا في البلاد انذاك . فبعد ان كانت عبارة عن ميول ومتبنيات فردية وذاتية، اصبحت عبارة عن مسارات جماعية وتنظيمات سرية تتخللها رغبة عارمة بالتبشير والاصلاح . انه تحول وانتقال من الذات الى المؤسسة. وكانت اولى تلك الخلايا الاشتراكيه قد تشكلت في بغداد ، والتي وصفها حنا بطاطو بانها اول خلية ماركسية في العراق. واعتبر مؤسسها (حسين الرحال) اول ماركسي عراقي . وضمت تلك الخلية كل من محمود احمد السيد ومحمد فاضل البياتي وعوني بكر صدقي ومصطفي علي ومحمد سليم فتاح , اطلق عليهم احد الباحثين المعاصرين اسم (جماعة الصحيفة) نسبة الى مجلة (الصحيفة) التي اصدرتها هذه الجماعة عام 1924 .وكان اول نشاط ظهر لهذه الحلقة هو الخلاف الفكري مع التيار المحافظ الذي كان يسود البلاد حول قضية الحجاب وتحرير المرأة, وسميت بمعركة (السفور والحجاب). ودار الخلاف بين هذه الحلقة يساندها عدد من المثقفين العلمانيين الذين توافقت افكارهم مع اراء حلقة حسين الرحال مثل سامي شوكت ومعروف الرصافي وغيرهما, وبين بعض المثقفين المحافظين الذين تصدوا لاراء تلك المجموعة مثل توفيق الفكيكي وجميل المدرسي ومصطفى عبد الجبار والشاعر ملا عبود الكرخي ومحمد بهجت الاثري وغيرهم. وبدأ الخلاف في تشرين الاول عام1924 حتى بدايات كانون الاول علما ان انحياز جماعة حسين الرحال الى دعاة السفور في هذا الجانب لا يدل بالضرورة الى تبنيهم الفكر الماركسي التحرري، فدعاة السفور في العراق امثال الزهاوي وغيره كانت لهم ميول ليبرالية، قد سبقوا هذه الجماعة الى تلك الدعوة .
وقريب لهذا الاتجاه , رفعت عريضة الى الملك فيصل الاول من وجهاء وعلماء دين في بغداد عام 1927 يشكون فيها من مظاهر الانفتاح في المجتمع العراقي ، لاسيما تلك الدعوات التي تطالب بالسفور ورفع الحجاب وتحرير المرأة. ذكروا فيها (ان ظهور النساء سافرات يؤدي الى الخطيئة والفساد ، وعلى الخصوص اهالي بغداد والعراق، فان طباعهم حادة لشدة الحرارة .. ومن طبعهم الشبق والميل الى الشهوات النفسية بخلاف طبائع الغربيين). وبهذا الصدد ايضا دعا الشيخ علي الشرقي – الذي يعد اول عراقي ذكر اصطلاح العلمانية – في مقال نشره عام 1928 الى ضرورة فصل الدين عن مؤسسات الدولة، واتباع المفاهيم والقيم والحواضر المدنية على حساب المفاهيم والقيم والحواضر الدينية، لاسيما في المدارس العراقية الحديثة التي اصبحت بعد عام 1921 (علمانية) . ان شيوع هذه الافكار والدعوات يدل على ان البيئة العراقية الفكرية كانت مهيأة اكثر لاستقبال المفاهيم الماركسية التي كانت ترتكز على مقولات وقيم علمانية، سرعان ما اضافت اليها مسارات اخرى من نقد الاديان او الاستهزاء بها، والدعوة الصريحة الى تبني مفاهيم الالحاد واللاادريه. يذكر القيادي الشيوعي المنشق مالك سيف : ان طلابا من لواء المنتفك (الناصرية) في دار المعلمين العالية في بغداد، اخذوا يقومون بنشاطات مسرحية كوميدية عام 1934، الا ان الملفت للنظر احتوائها على مضامين الحادية ضد الاديان، عرف لاحقا ان متزعم اول خلية شيوعية في الناصرية يوسف سلمان (فهد) كان يقوم بالتجوال في الارياف والمدن ، لتنظيم هؤلاء الطلبة، وتثقيفهم للشيوعية والالحاد والتجاوز على الاديان ونقدها.
تبلورت العلمانية الماركسية من خلال تنظيمات سرية وحلقات حزبية عديدة . فقد اسس عبد الحميد الخطيب عام 1927 حلقة البصرة الاشتراكية , فيما اسس يوسف سلمان يوسف (فهد) عام 1928 حلقة الناصرية الشيوعية . الا ان المثير بالامر هو تاسيس جمعية الاحرار في البصرة عام 1929 والتي عرفت في سجلات الشرطة باسم (الحزب الحر اللاديني) الذي يعد اول تجمع علني شيوعي في العراق , ضمت العديد من الشيوعيين العراقيين الاوائل امثال (يوسف سلمان يوسف (فهد) واخيه داوود سلمان وعبد الحميد الخطيب وغالي زويد وعبد القادر السياب (عم الشاعر بدر شاكر السياب) وعبد محمد وغلوم بستكي ومهدي وصفي وجورج اصطفان واندريا عيسى ويوسف داوود وعبد الزهراء) واتخذت الجمعية من نادي الشبيبة في البصرة مقرا لها، الا ان الغريب هو ان اهداف (جمعية الاحرار) مثلا وهي (الحرية، الاخاء، المساواة) هي اهداف الثورة الفرنسية الليبرالية ,وليست اهداف الثورة البلشفية في روسيا, واما برنامج الجمعية فقد احتوى على مضامين عصرية وعلمانية عديدة وليست مضامين اشتراكية او ماركسية فقط ، بل مضامين ليبرالية ايضا , تركز اغلبها على الاصلاح والتسامح الديني . ويبدو ان استيعاب الانتلجنسيا العراقية للمفاهيم العصرية الحديثة كان مبسطا وسطحيا الى الحد الذي لا تميز به بين المقولات الليبرالية وبين المفاهيم الاشتراكية والماركسية. ويرجع السبب الى حداثة انتشارها في الاوساط الثقافية العراقية, وندرة المصادر او الترجمة العربية الى تلك المذاهب والمدارس الفكرية انذاك . وقد تاثر اعضاء الجمعية بجريدة (الشمس) التي صدرت في الثامن من اذار 1915 ورأس تحريرها (اسبر الغريب) وهو مسيحي بروتستانتي ، والتي رفعت الشعار (كل ما نراه في الشمس / ونرى الشمس في كل مكان) وهي مجلة شهرية لا يزيد عدد صفحاتها على المائة بقليل ، وهي ذات ميول علمانية واضحة ، لاسيما في تهجمها على الاديان . اذ سبق ان نشرت مقالا اكدت فيه (ان الاديان اضرت في البشرية وما نفعت ، ولم تضر من حيث كونها مضرة بجوهرها ، كلا بل ان العاملين على نشرها قد افسدوا الغاية السامية منها وقلبوا مبادئها راسا على عقب حفاظا لنفوذهم) .
واما في بغداد فقد تشكلت ثلاث حلقات اشتراكية بعضها كان لها صلة بنادي التضامن الذي تاسس عام 1926 وهى : حلقة عاصم فليح وحلقة جميل توما وحلقة زكي خيري . وقد ساهم فهد بعد قدومه الى بغداد بربط ليس خلايا الجنوب فيما بينها فحسب , بل وربط خلايا بغداد ايضا , والتوحد بتنظيم حزبي واحد , سيما بعد ان اعلن الزعيم الوطني محمد جعفر ابو التمن اعتزاله العمل السياسي , الذي كان يشكل المظلة التي ينشط تحتها الماركسيون والوطنيون , مما حتم عليهم البحث عن تنظيم سياسي يتوحدون تحت اسمه . وقد تبلورت تلك الحلقات والشخصيات بتنظيم (جمعية مكافحة الاستعمار والاستثمار)عام 1935 بحسب حنا بطاطو وعام 1934 بحسب الرواية الرسمية للحزب . وقد تحول اسم الجمعية الى الحزب الشيوعي العراقي بعد عام من ذلك التاسيس . وقد تعرض الحزب الى تحديات خطيرة خلال العهد الملكي اهمها :
1 . الانشقاقات الحزبية والايديولوجية التي قام بها بعض اعضاء الحزب ضد التنظيم الاصلي , وهو الحزب الشيوعي العراقي . واهم تلك المجموعات التي انشقت (جماعة الاماميون وجماعة الشراريون الجدد وجماعة وحدة النضال ورابطة الشيوعيين العراقيين وجماعة الحقيقة) .
2 . الملاحقات الحكومية التي تقوم بها السلطات ضد اعضاء الحزب الشيوعي من قبيل الاعتقالات والفصل والطرد من الوظيفة واسقاط الجنسية العراقية واخرها الاعدامات التي طالت قيادات الحزب عام 1949 واهمهم سكرتير الحزب فهد .
اخذت الافكار العلمانية الماركسية في عقد الخمسينات تتغلغل بقوة في الاوساط الاجتماعية، واصبح الحزب الشيوعي العراقي اكبر الاحزاب الشيوعية العربية واقوى الاحزاب السرية في العراق، وتحول في ذلك العقد من حزب المنشقين الذين لم يستقطبهم النظام الملكي الحاكم (الى عامل من عوامل الحياة في العراق) كما يقول حنا بطاطو, لاسيما بين الطلبة والشباب. واشتد الاقبال عليه حتى ان مدير الامن العامة (بهجت العطية) سجل في تقريره (ان50% من الشباب العراقيين ذو توجه شيوعي) . فقد دعمت الحركة الشيوعية النزعة المساواتية بين مختلف قطاعات المجتمع، وتسامت عن مفاهيم التعصب الاخرى، واعتمدت معيار الانتساب العصري والعلماني والاممي للحركة الماركسية, والانتماء الفوقي للطبقة العاملة, كمرتكز دلالي على حساب الانتماء او الاستقطابات المذهبية والاثنية والقبلية التي وصفتها بالرجعية والبالية ، ومن اجل ذلك قيل (ان الشيوعية في المشرق العربي افيون الاقليات), للدلالة على انصهارها في الحركة الشيوعية كوسيلة عاطفية او غير عقلانية للتخلص من التهميش والنظرة الدونية التي الصقت بهم اجتماعيا من قبل السلطات الحاكمة على مدى التاريخ. فيما وصف المفكر الفرنسي ريمون ارون (1905-1983) الماركسية بانها (ديانة علمانية) كبديل ديني عند اصحاب الديانات الاخرى المهمشه في المنطقه، او ستكون (اسلام القرن العشرين) كبديل الاسلامي عند الاقليات الاخرى عن الاسلام السلطوي او الطائفي السائد . وقد تبلور هذا الاتجاه بصورة واضحة عند الشيعة في وسط وجنوب العراق, من حيث الانتماء المتطرف عند اغلب فئات الانتلجنسيا للافكار الماركسية والحركة الشيوعية، اذ ساهم تعرضهم للتهميش السياسي والاقتصادي والاجتماعي بعد تاسيس الدولة في العراق الى عملية تماهي كبرى مع تلك القوى المتضادة مع تلك الدولة، واهمها الحركة الشيوعية العلمانية، فاذا كان تهميش الشيعة قد حصل باسم العلمانية ، واعتبارهم رافضين للدولة المدنية او العصرية اثناء اعتراض المجتهدين على انتخابات المجلس التاسيسي عام1922، فان محاربة هذه المقولة ورفضها من قبل الشيعة، كان في المزيد من التبني المفرط للقيم العلمانية والمدنية والعصرية، التي تجلت انذاك بالنزعة المساواتية التي دعت الى تطبيقها الافكار الماركسية، والتي من جانب اخر، عرت النخبة الحاكمة ذات الاصول العثمانية، واعتبرتها مجرد اناس هدفهم الاساس هو الهيمنة على السلطة ومقدرات الدولة من خلال حكم الاقلية المدللة، وليس الافكار والقيم العصرية - كما يدعون - حتى اضحت الشيوعية هي الفكرة اللاشعورية للشيعة من اجل تحقيق المساواة والعدالة وانهاء المعادلة الطائفية في الادارة والحكم والاداة الرئيسية التي سعى شيعة العراق فيها الى احداث تغيير سياسي جذري .
كما ان للجمود الفكري والثقافي في العراق ، وعدم نجاح المتبنيات العلمانية والليبرالية في اصلاح الواقع العراقي، او طرح الحلول الناجعة في سبيل تطوير المجتمع ونهضته في جميع المسارات، بسبب هيمنة النسق العثماني المتأخر على المؤسسات الثقافية بعامة. دورا اساسيا في انتشار العلمانية الماركسية التي طرحت اراءا وافكارا مثالية وعصرية مـن اجل حل تلك الانتكاسات البنيوية في النظم المعرفية والثقافية في العراق، فتلقفها العديد من المثقفين كوصفة جاهزة و (موضة) عصرية للانتماء والظهور، ذات ابعاد تقدميه قادره على اعادة انتاج مجتمع (رومانتيكي) قائم على العدالة الاجتماعية والمساواة، واعادة الاعتبار للانتلجنسيا العراقية التي اقصيت من قبل الفئة العسكرية الحاكمة. وقد اكد هذا المفهوم عبد الله العروي بقوله (ان ماركس الايديولوجي سيبقى حيا يبعث مادامت هناك بقية متأخرة في العالم). فيما كان التلازم بين الشيوعية والعاهات الفردية والاختلالات الاجتماعية سمة اكدها التاريخ على ارض الواقع حتى وصفها عباس محمود العقاد بانها (مذهب ذوي العاهات).
وتعد فترة حكم عبد الكريم قاسم (1958-1963) من اهم المراحل البارزة في تاريخ العلمانية الشيوعية في العراق . فقد تصاعد نشاط الحزب والحركات والمنظمات والجمعيات التابعة له الى مديات واسعة ، اخترق خلالها البنية السياسية للدولة والمجتمع، حتى وصل الحال ان اعتبر الحزب الشيوعي العراقي هو الحزب شبه الرسمي للدولة, ليس بسبب الحرية في ممارسة نشاطه التنظيمي والسياسي فحسب. بل لانه اخذ بالتدخل في شؤون الدوائر والوزارات الحكومية في الدولة العراقية. الا ان هذا لا يمنع من وجود حالات من الخلاف والنكوص في العلاقة بين الزعيم عبد الكريم قاسم والحزب الشيوعي العراقي , تبعا للمتغيرات السياسية في الداخل اولا واستخدام بعض الشيوعيين المتطرفين اعمالا عدائية وانتقامية ضد المخالفين لهم في الرؤية السياسية والايديولوجية - سيما في كركوك والموصل- ثانيا . واعتبر البعض ان سياسة التوسع في القاعدة الجماهيرية والكسب المفرط للافراد ادت الى نتائج سلبية على سمعة الحزب وسيطرته على اتباعه, لان هذه الزيادة الكمية بعد ثورة تموز 1958 كانت بالضرورة قد تبلورت على حساب النوع.
ان من اهم المفاهيم التي اسدل الستار عنها خلال العقود الثلاث الاخيره التي اعقبت تاسيس الدولة العراقية وطرحت بقوه بعد ثورة تموز 1958هى اشكالية العلاقه المعقده بين العلمانية الماركسيه والدين . فمن المعلوم ان الرؤيه الماركسيه للدين التي سبق ان حددها ماركس وانجلز ولينين ترتكز على مفهوم احادي هو (الالحاد). فالدين والفنون والاداب والسياسة والقانون والفلسفة، تشكل في نظر الفلسفة الماركسية البنية الفوقية في اي نظام اجتماعي، وهي انعكاس للبنية التحتية التي تشكلها طبيعة النظام الاقتصادي والطبقات الحاكمة فيه،. التي تفرض نمطها السياسي والاجتماعي والثقافي. بمعنى ان الدين عنده هو اما اختراع بشري او انعكاس لواقع اقتصادي واجتماعي محدد , وليس الهي او سماوي وافدا من الغيب . وقد اعلن ماركس صراحة ان (الدين لا يحيى في السماء بل على الارض، وانه وعي انسان الذي لم يجد بعد ذاته او الذي فقدها.. الدين ليس سوى (يوتوبيا) مجردة مصنوعة من مادة الوهم). وقد ربط ماركس الظاهرة الدينية بالصراع الطبقي من خلال رؤيته للحركات والثورات الاجتماعية التي حدثت في اوربا في اعقاب انهيار الطبقة الاقطاعية وصعود البرجوازية الى السلطة, التي سيطرت على رؤوس الاموال ووسائل الانتاج , واتخذت من الدين سلاحا تستعين به في تخدير عقول الناس او الطبقة الخاضعة. (فالدين هو تعبير عن التعاسة الحقيقية، هو عبارة عن انين كائن يائس، وعاطفة عالم بلا قلب... انه افيون الشعوب... فنقد الدين هو الخطوة الاولى لنقد هذا الوادي الغارق في الدموع). فيما اعتبر لينين من جانبه (الحرب على الدين هو الف باء الماركسية وكل نظرية مادية) الا انه من جانب اخر، اعتبر قضية الالحاد والايمان قضيه شخصية بالنسبة لعامة الناس، لكنه بالنسبة للعناصر الشيوعية يصبح الالحاد ضروريا. حتى انه قال مفتخرا بعد اغلاقه الكنائس والجوامع في روسيا بعد نجاح ثورة اكتوبر عام1917 (لقد لقنت الله درسا لن ينساه).
عندما تعرف العراقيين على الافكار العلمانية الاشتراكية بصورتها الاولى المبسطة، لم تطرح قضية الالحاد او حتى الموقف من الدين بصورة عامة عند المتأثرين بتلك الافكار، لانهم اخذوا الواقع العراقي انذاك بنظر الاعتبار، الذي يشكل الدين فيه مرتكزا دلاليا رئيسيا في نظامهم المعرفي والاخلاقي . فضلا عن ذلك ان الافكار والمدارس الاشتراكية الاولى التي تعرفوا عليها كانت ضمن الاطار الليبرالي، وبالتالي فان رؤيتها للاديان والمفاهيم الاجتماعية التقليدية الاخرى كانت معتدلة بصورة عامة. فاذا اخذنا حلقة حسين الرحال - او جماعة الصحيفة - كما يطلق عليهم , فانهم لم يبادروا او يعلنوا الحادهم الصريح امام الملأ، وانما كان هجومهم على المفاهيم التي يعتقدون انها متخلفه وغير عصريه في الدين (او تلك التي اضيفت لاحقا من الاقوام الاخرى) مثل قضية (الحجاب) . وهي رؤية لا تمس جوهر الدين او متبنياته الاصلية، وانما المسارات المتعلقة به، او تلك التي تعلقت به لاحقا خلال صيرورة التاريخ، او من تاثيرات عصور الانحطاط ونتائجه المتخلفة. الا ان جمعية الاحرار اللادينية التي تبلورت في البصرة عام1929 تعد اول التنظيمات الماركسية او شبه الماركسية التي اعلنت صراحة هجومها على الاديان، واعتبرتها عامل اساسي لفرقة المجتمع، ودعت الى العلمانية من خلال فصل الدين عن السياسة والتعليم والاحزاب والحياة العائلية ونشر التسامح الديني وغيرها. الا ان تطور الخلايا الماركسية واتحادها بصورة الحزب الشيوعي العراقي في منتصف عقد الثلاثينات، ادى الى قيام منظريه وقادته الى التمويه والمرونة في طرح قضية الدين والالحاد، واستخدام التكتيك المرحلي في الدعوة الى الشيوعية من اجل كسب الاتباع في المجتمع، بعد ان علموا ان قضية الدين والالحاد قد تشكل عامل ضعف في دعوتهم لكسب الناس وانتشار الشيوعية في البلاد، ومادة فاعلة في ايدي الخصوم والمنافسين في الهجوم عليهم، فطرحت مقولة ان قضية الالحاد والايمان مسألة شخصية بين الانسان وربه , وان الحزب لا دخل له فيها . واستمر الحال على هذا المسار طوال العقود المنحصرة بين عامي 1929-1959 .
لم تطرح قضية العلمانية والدين والالحاد في ادبيات الحزب الشيوعي العراقي خلال هذه العقود الثلاث عدا منشورات (كفاح السجين الثوري) التي كان يتم تداولها بين الشيوعيين في سجن بعقوبة عام 1954 . حيث هاجم احدهم مشاركة بعض الشيوعيين في مراسيم زيارة الاربعين للامام الحسين , واعتبرها (مفاهيم اقطاعية)، فيما حصل رد على هذا الهجوم من قبل احد الرفاق مدافعا عن تلك المشاركة , مبررا ان هذه المسيرات لصالح الحركة الشيوعية . وقد رد على هذه الاطروحة ايضا العديد من السجناء الذين رفضوا الاراء الواردة فيها. (ينظر للتفاصيل: حنا بطاطو، العراق، الكتاب الثاني). وبعد ثورة تموز 1958 , اعتقد اتباع النزعة العلمانية الماركسية المتطرفة خطا ان لهم الحق - او القدرة – على فرض المفاهيم الانفتاحية والعصرية التي يؤمنون بها، وبجرعة كبيرة على جميع افراد المجتمع، من خلال الدعوة المتطرفة الى المساواة بين الجنسين، وتحرير المرأة، والهجوم على رجال الدين وبعض المراجع في النجف وكربلاء، وانتشار المطبوعات الصريحة وبيعها في الاسواق من قبيل (اين الله؟) (الله في قفص الاتهام) (لماذا انا ملحد؟)، واستخدام نفوذهم عند الزعيم عبد الكريم قاسم لاقرار قانون احوال الشخصية رقم 88لسنة 1959 الذي تجاوز صراحة العديد من الثوابت الفقهية الاسلامية، من قبيل المساواة في الارث ومنع الزواج باكثر من زوجة واحدة الا باذن القاضي، وتحديد سن الزواج بـ (18) عاما وغيرها من قضايا الطلاق والرضاعة والحضانة المخالفة للرؤية الرسمية للشريعة الاسلامية. وبما ان الخلاف بين التوجه الاسلامي والتيار الماركسي كان في الاصل خلافا ايديولوجيا , فان اصحاب التوجه الاسلامي عملوا على مواجهة العلمانية الشيوعية وتمددها في البلاد من خلال ثلاث طرق :
الاول : تحريم الانتماء للشيوعية وتكفيرها من قبل مراجع ورجال الدين الشيعه والسنه والكورد . وقد تجلى ذلك واضحا في فتاوى المراجع الشيعه ( محسن الحكيم وابو القاسم الخوئي وعبد الكريم الجزائري وعبد الهادي الشيرازي وعلي كاشف الغطاء) والسنه (نجم الدين الواعظ وحمدي الاعظمي وعبد القادر الخطيب وفؤاد الالوسي) والكورد (الملا صالح عبد الكريم وجميل المفتي وعمر عبد العزيز وعثمان عبد العزيز).
الثاني: التنظير الفكري الاسلامي ودحض الطروحات العلمانية الماركسية والاشتراكية في الاقتصاد والسياسة من خلال الصحف والمجلات والمؤلفات. وتجلى ذلك التنظير بصورة واضحة في كتابي محمد باقر الصدر (فلسفتنا) الذي صدر عام1959 و(اقتصادنا) الذي صدر عام1961 والعديد من المطبوعات الاسلامية التي انتشرت في ذلك العهد.
الثالث : تاسيس التنظيمات الاسلامية – السياسية لمواجهة الحركة الشيوعية والمؤسسات والواجهات التابعة له ، مثل : حزب الدعوة الاسلامية والحزب الاسلامي العراقي وجماعة العلماء التي اصدرت مجلة الاضواء عام 1959.
تعرض الشيوعيون والماركسيون الى حملة شاملة من الاضطهاد والتنكيل قامت بها مليشيا الحرس القومي البعثية بعد انقلاب 8شباط عام1963 . وقد شملت تلك الملاحقات حملة منظمة من (العنف الرمزي) كالتخوين والتسقيط والتشويه الاعلامي مع حملة اكثر قسوة من (العنف الجسدي) تمثل بالتصفية والاعتقال والتعذيب. وقد اثرت تلك الملاحقات والتصفيات المنظمة على قيادات الحزب وكوادره في بغداد والمحافظات على فاعليته وانتشاره. مما اضطر بعض القيادات التي نجت من الاعتقال بالعمل الحزبي والتنظيمي خارج البلاد، لاسيما في الدول الاشتراكية الاوربية، لكن هذا لا يمنع من قيام بعض تلك الكوادر من الانتقال الى كردستان العراق واعادة تنظيم الحزب هناك بالتنسيق مع الحركات الماركسية الكردية .
وبعد الانقلاب البعثي الثاني في تموز 1968 توافق الشيوعيون والبعثيون على قيام ما اطلق عليها الجبهة الوطنية والقومية التقدمية عام 1973 . ودعم الشيوعيون النظام البعثي الجديد , وانحازوا الى رؤيته السياسية ضد المعارضين الاخرين - وخاصة الاسلاميون الشيعة والكورد - وحصلوا على بعض المناصب والمكاسب في اجهزة الدولة ومؤسساتها الاعلامية , بل ان الكثير منهم انحاز لجناح صدام حسين في مواجهة جناح الرئيس احمد حسن البكر , واطلقوا عليه (كاسترو العراق) , الا ان البعثيون سرعان ما انقلبوا عليهم وحلوا الجبهة الوطنية عام 1979 وهرب اغلب اعضاء الحزب الشيوعي الى خارج العراق , تاركين قواعدهم يلقون مصيرهم المحتوم من الاعدام والاعتقال . واستمروا في المنافي حتى عودة الكثير منهم بعد سقوط النظام البعثي عام 2003 .
ساهم انهيار المعسكر الاشتراكي في نهاية عقد الثمانينات وتفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991 وتحوله الى دولة ليبرالية وراسمالية الى انهيار اغلب المنظور الايديولوجي والسياسي عند الشيوعيين العراقيين . وحصل تغيير في الخطاب الفكري العام عند الحزب الشيوعي العراقي من المقولات الماركسية الشمولية الى التوجهات الديمقراطية والقيم الليبرالية , سيما بعد ان اصبحت الافكار الشيوعية من قبيل ديكتاتورية البروليتاريا والحزب الطليعي الاوحد والدولة الشمولية الاحادية والقائد الرمز في متاحف التاريخ . فقد عبر عن هذه التحولات المفصلية الكاتب الامريكي فرنسيس فوكوياما في كتابه (نهاية التاريخ والانسان الاخير) الذي اعلن انتصار القيم الليبرالية ونهاية التاريخ وان العالم سيتجه - اجلا ام عاجلا – الى الديمقراطية كممارسة سياسية , وان الانظمة السياسية المتضادة مع الليبرالية من قبيل القومية والماركسية والدينية – وخاصة الاسلامية – والكونفوشيسية والارثذوكسية وغيرها ستعيش قريبا لحظاتها الاخيرة وستتجه نحو الليبرالية والديمقراطية .
ثالثا : العلمانية القومية : ان بواكير ظهور القومية العربية في حركة سياسية واستقلالية في العراق ترجع الى مطلع القرن العشرين ، وتحديدا بعد ثورة الاتحاديين على السلطان العثماني عبد الحميد الثاني عام 1908. وكما قال وميض جمال نظمي (لم يكن العراق في اواخر القرن التاسع عشر تربة خصبة لنمو الحركة القومية ، فعلى خلاف سوريا ومصر لم تكن للعراق اتصالات وثيقة بالافكار الاوربية او البعثات التبشيرية . فضلا عن ذلك ان مستوى التعليم في العراق كان غير عال، وكان عدد الطلبة الذين يرتادون المدراس الموجودة غير كبير) . كما ان ادراك الهوية من منطلق ديني او اسلامي , كان هو السائد في المجتمع العراقي، بالقياس الى المنطلق القومي المتأخر والمتأثر بالتوجهات التغريبية الحديثة. فيما ان النخبة الحاكمة من اهل السنة كانوا لا يعدون الحكم الاستبدادي للسلطان عبد الحميد الثاني اشكالية معقدة او ملحة يجب الخروج عليها وتجاوزها الى فضاءات اخرى من الاستقلال والحرية، وهي السمات المفتقدة تاريخيا في نظامهم المعرفي والديني . الا ان القومية العربية كعاطفة وشعور وجداني بالهوية والتمايز كانت اسبق من ذلك، اذ ترجع الى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث تجلت في البدء على شكل قصائد شعرية القاها بعض الادباء العراقيين تعبيرا عما يجول في انفسهم من اعتزاز وفخر بالنسب العربي والمجد الحضاري للامة العربية المفترضة او المتخيلة في وجدانهم المغترب امام الدولة العثمانية التي كانت تسومهم سوء العذاب والذل والاحتقار. ويمكن تسمية هذا النمط الاول من القومية بـ (العروبة) الذي سيبقى يصاحب الانماط القومية العربية المتعددة في العراق التي ستتبلور لاحقا. ويعد شيعة العراق اول الفئات الاجتماعية التي نادت بالقومية في نمطها العروبي الاول, القائم على الشعور بالعاطفة والاعتزاز بالهوية. وقد اكد هذا الراي ايضا الدكتور وميض جمال نظمي بالقول (لقد كان الشيعة العرب العراقيون اول من تقبل ودافع عن الافكار الداعية الى التجديد والاصلاح والقومية العربية، فلكونهم عرب، رفضوا الاندماج بالفرس من ناحية, وبمضطهديهم الاتراك من ناحية اخرى ، ولكونهم من الجهة الاخرى شيعة، فلقد كانوا ناقمين على الحكم الطائفي للعثمانيين، ولكنهم – في الوقت نفسه – لم يكن بوسعهم التخلي عن الاسلام او القبول باتجاه محاكاة الغرب ، كما انهم لكونهم انصار الدستور ، فقد سخطوا لا على الاستبداد العثماني فحسب والايراني ايضا .. لقد كان المنطقي بالنسبة لهم ان يتطلعوا الى حكم دستوري وكيان قومي عربي..). وبهذا المعنى ايضا اكد الدكتور عبد العزيز الدوري (وكان لبعض علماء الشيعة في طليعة من دعا الى الاصلاح والتجديد، ويلاحظ انهم وقفوا ضد الاتجاه الاستبدادي والطائفي للسلطان ، كما ان نظرتهم للغرب كانت سلبية فاتخذوا وجهة عربية اسلامية). فيما قارب هذا الراي فرهاد ابراهيم بالقول (ان المجتهدين الشيعة كانوا بالمقارنة مع السادة السنيين اكثر انفتاحا على افكار التجديد ، فقد ادخلوا الاجتهاد على ايدي الاصوليين ، وناقشوا القضايا السياسية في عصرهم ، عكس السنة الموالين للحكومة.. ولم يتهم الشيعة افكار التجديد بانها بدعة) . وهذا يعني ان الرابطة الدينية التي كانت تجمع العراقيين مع الدولة العثمانية واعتبار الخليفة ظل الله في الارض قد تحرر منها الشيعة العراقيون في وقت مبكر بالقياس الى باقي الفئات الاجتماعية الاخرى , وذلك بسبب الممارسات الاقصائية والطائفية للدولة العثمانية وانعدام الرؤية التقديسية للسلطان عبد الحميد الثاني , كما هو ظاهر عند اهل السنة ، مما خلق الارضية المناسبة لنمو الهوية القومية العربية بصورتها العاطفية الاولى .
دخلت العلمانية القومية العربيه في العراق بعد ثورة الاتحاديين عام 1908 الطور الثاني من تطورها التاريخي , وهى القومية السياسية التي تبلورت كرد فعل لتزايد الوعي الثقافي في المجتمع عقب الانفتاح الذي حصل بعد الثورة , فضلا عن سياسة التتريك والاستعلاء ضد العرب والعراقيين واحتقارهم التي انتهجتها جمعية الاتحاد والترقي . وتجلى رد الفعل الاول في بادىء الامر خارج العراق، اذ تاسست في القاهرة جمعية اطلقت على نفسها (لجنة الدفاع عن مصالح العراق) ضمت عددا من الاشخاص وصفوا بالقوميين المناوئين لسياسة الحكومة في اسطنبول، ونشطت هذه الجمعية في دفع الحركة القومية في العراق الى الامام من خلال منشورات والمطبوعات التي ترسلها الى البلاد بصورة سرية. وقد انتقدت هذه اللجنة عدم استعمال اللغة العربية في دوائر الحكومة العثمانية وابعاد الضباط والموظفين العرب. ولما انشا الحزب الحر المعتدل فرعا في البصرة وبغداد عام 1911 طالب العراقيون من خلاله بالاصلاح العام واستعمال اللغة العربية في المدارس وتعيين اكبر عدد من الموظفين العرب في الولايات العربية .
وفي الوقت الذي تميزت به الحركة القومية بالفاعلية في البصرة وبغداد والنجف، كانت تلك الحركة في الموصل قد اعتراها الضعف الشديد والخمول، وارجع البعض سبب ذلك الى الولاء الشديد للسلطان العثماني والميول التركية عند غالبية ابناء المجتمع هناك . فضلا عن سمة التنوع القومي والاثني في الموصل الذي جعلها تفقد صفة المدينة العربية الخالصة , حتى وصل الحال ان فشلت جميع الجهود لتاسيس جمعية تنادي بالعروبة الجامعة في الموصل خلال تلك المرحلة .وسبق ان كتب القنصل البريطاني في عام 1909 يصف المدينة وتماهيها مع الترك بالقول (ربما لايوجد مكان اخر مثل هذه المدينة كان تاثره قليلا جدا بما جرى في الامبراطورية العثمانية) .
بعد خلاص العراق من السيطرة العثمانية التي قاربت الاربعة قرون ووقوعه تحت الهيمنة البريطانية المباشرة بين عامي 1914-1920 ونظام الوصاية والانتداب بين عامي 1920-1932، تطورت العلمانية القومية العربية في العراق نحو نمط جديد قائم على المطالبة بالسيادة والاستقلال والدولة العربية المستقلة . اذ يعد تاسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921 من اهم الاحداث المفصلية في تاريخ هذه الحركة . فبعد اتحاد الانتلجنسيا العراقية في بعث الهوية العربية ومطالبة الاتراك والانكليز على حد سواء بانهاء سيطرتهم المباشرة على البلاد ، حدثت عملية انفصال وانقسام في الحركة القومية بسبب هذا التاسيس الذي حصل تحت سلطة الانتداب. ففي الوقت الذي وجد الضباط العراقيون المنشقون عن الدولة العثمانية في تنصيب فيصل بن الحسين ملكا على العراق وانهاء السيطرة البريطانية المباشرة انتصارا لارادتهم التي سبق ان اعلنوا عنها في مقررات جمعية العهد العراقية والمؤتمر العراقي في سوريا عام 1919 . وجد القوميون العروبيون الاخرون ممن حمل لواء المعارضة والرفض والمقاومة ضد الانكليز في ثورة العشرين- وما سبقها من احداث - في هذا التاسيس والاستقلال عن السيطرة البريطانية المباشرة ، ما هو الا مظهر خادع يخفي وراءه سيطرة غير مباشرة من قبل المندوب السامي وسلطات الانتداب والمستشارين والقادة العسكريين , فعملوا جهد انفسهم على مقاومته ورفضه وفضحه في الاوساط الاجتماعية المختلفة واعتباره شكلا من اشكال الاحتلال غير المباشر .
ان عملية الانفصال والانقسام التي حصلت بين الانتلجنسيا العراقية ضمن تحركات العلمانية القومية العربية في العراق , قد القى بظلاله المباشرة على فشل مشروع الدولة في العراق طيلة ثمانين عاما من عمرها الاول (1921-2003) . حيث تبلور نمط قومي واحدا يعتمد التهميش والاقصاء لاغلب المكونات الاجتماعية الرئيسية في البلاد ، ويعمل على ترسيخ المعادلة الطائفية السياسية في الادارة والحكم, التي سبق ان عمل بها العثمانيون طيلة اكثر من اربعة قرون . وقد ظهرت بوادر هذا النمط القومي التغريبي في عقد العشرينيات - وبعد تاسيس الدولة في العراق تحديدا - ولاسباب سياسية تتعلق بالرغبه في الهيمنه على السلطه والاستئثار بمقدرات الدوله, والجدل حول جدوى المشاركه في العمليه السياسيه في البلاد تحت الوصايه البريطانية ورعايتها . فبينما رأت الاغلبية الشيعية في العراق والمتمثلة بالزعامات الروحية والدينية من جهة والقيادات الوطنية من جهة اخرى , عدم الجدوى في المشاركة في الانتخابات وانشاء المجلس التاسيسي تحت الانتداب البريطاني والهيمنة غير المباشرة على مقدرات الدولة، رأت النخب السياسية ذات الاصول والميول العثمانية والتي تماهت مع الاقلية السنية في العراق, ضرورة المشاركة والمساهمة في عملية بناء الدولة وتاسيسها من اجل الحفاظ على المعادلة السياسية السابقة في الادارة والحكم, وترسيخ المكتسبات التي حصلت عليها بالتعاون مع جميع السلطات الحاكمة على مدى التاريخ الاسلامي، فحصلت من جراء ذلك عملية تحالف (صريح او ضمني) بن هذه الفئة الاجتماعية والنخب السياسية التي تقودها وبين سلطات الانتداب البريطاني يهدف الى تهميش واقصاء الاغلبية الشيعية عن الادارة والحكم, والايحاء بان وقوفها ضد العملية السياسة وتاسيس الدولة في العراق ,لم يكن لاسباب وطنية تتعلق برفض الانتداب والوصايا الاجنبية، وانما بسبب عدم حرصهم على هذا البلد وبناء مؤسساته الدستورية ، فكان اجدى هذه الوسائل لمقاومتهم وتشويه سمعتهم هو استحضار الموروث العدائي او المتخيل الذي صنعته السلطة العثمانية ضد الاغلبية العربية الشيعية ,وتوظيقه لاغراض سياسية واعتبارها ذات ولاء خارجي عابر للحدود، وان ابناء البلد الاصليين والمدافعين عن سيادته وحقوقه , ليسوا هم القبائل العربية في وسط وجنوب العراق, وانما الطبقة السياسية ذوات الاصول الجورجية والمملوكية والشركسية والتركية والكيلانية الحاكمة في العراق التي هيمنت على مقدرات السلطة والحكم من خلال التحالف مع الدولة العثمانية سابقا والادارة البريطانية لاحقا.
وقد اكد هذه الظاهرة الكانب الامريكي اسحق النقاش بالقول (ان السياسيين السنة في العراق ادعوا انهم يحكمون بالقومية العربية، الا انهم يفتقدون الى اية اواصر او علاقات عائلية مع القبائل العربية في الجنوب، ولا يشاركون الشعب العراقي حياته واهدافه وتطلعاته، واسبغوا على العروبة معنى جديدا وغريبا لا يعتمد النسب والانتماء للقبائل الاصلية في العراق، لانهم في الاصل ليسوا عرب...). لذا فليس من المصادفة ان نجد ان المنظرين القوميين في العراق لم يعتمدوا الاصل والنسب العربي ضمن شروط تكوين القومية العربية , لانهم في الاصل لا يرجعون الى اصول او قبائل عربية . وقد اعترف بذلك الدكتور سيار الجميل، الذي رغم دفاعه المستميت عن العهد الملكي في العراق، الا انه اثبت الاصول العثمانية والاجنبية للنخبة السياسية الحاكمة التي تبنت القومية العربية بقوة كمعادل موضوعي لمواجهة النزعة الوطنية والمحلية والعروبة المعتدلة التي نادى بها الشيعة بقوله (ان اسر وعوائل تركية وعثمانية استوطنت العراق بحكم رجالاتها الادارية والانكشارية فضلا عن الاسر القوقازية واغلبها شركسة وداغستانية استوطنت بغداد وخصوصا في الوزيرية (التابعة الى الاعظمية). وان اشرس القوميين العرب الذين انضموا الى حركات قومية فاشية هم من اصل غير عربي بدءا من ساطع الحصري "من اصل تركي" وسامي شوكت من "اصل قوقازي" ورشيد عالي الكيلاني من "اصل كيلاني في ايران" وصدام حسين من "اصل منغولي" وعليه نجد ان اسر وعوائل من اصول تركية وقوقازية وافغانية وداغستانية وكيلانية وشركسية ومنغولية قد تعربت واصبحت عربية..)
في عقد الثلاثينات وصلت القومية العربية في العراق الى مرحلة التنظير الايديولوجي، فاذا اعتبرنا الشيخ علي الشرقي هو رائد التنظير للنمط القومي العروبي الذي ادرج الكثير من اراءه العروبية في المقالات التي كان ينشرها في العقود الاولى التي اعقبت تاسيس الدولة العراقية الحديثة (وجمعها لاحقا الاستاذ موسى الكرباسي في كتب متعددة) , فان ساطع الحصري هو رائد التنظير للنمط العلماني القومي التغريبي الذي عمل على استعارة الرؤية الالمانية في بلورة الخصائص العامة للقومية العربية والاسس التي يجب ان تستند عليها. وسبق ان ذكرنا ان عقد الثلاثينات قد شهد البواكير الاولى لتراجع القيم الليبرالية في المشرق العربي وبروز الشخصيات والحركات الراديكالية التي تبلورت على هامش الازمة الاقتصادية التي ضربت الدول الغربية، وظهور الاحزاب الفاشية والنازية في اوربا , التي اثارت الشك وعدم الثقة بالنظم والقيم الليبرالية. وكان العراق من تلك الدول التي شهدت تاثرا منقطع النظير بالتوجهات القومية للحركات الفاشية والنازية، وظهور الجمعيات والتنظيرات العلمانية القومية المتطرفة. لذا فليس من المستغرب ان نجد ان اهم الشخصيات الراديكالية التي وقفت بالضد من القيم الليبرالية وتبني المفاهيم الثورية والقومية والماركسية في العراق قد ظهرت في عقد الثلاثينات ومن اهمها (سامي شوكت وساطع الحصري وعبد الرزاق الحصان و(فهد) وعاصم فليح وياسين الهاشمي وناجي شوكت وبكر صدقي ويونس السبعاوي وفهمي سعيد وصلاح الدين الصباغ وكامل شبيب ومحمود سليمان وصائب شوكت والملك غازي)وغيرهم من الذين تاثروا بالمنهج والاعمال التي قام بها مصطفى كمال اتاتورك في تركيا ورضا بهلوي في ايران انذاك , والتي ارتكزت الى مفاهيم العلمانية المتطرفة والعسكرتارية والدولة القومية الشمولية والاحادية .
لم يمتلك التيار العلماني القومي في العراق حزبا او تنظيما مستقلا خاصا بالقضية القومية العربية الا في عقد الثلاثينات من القرن العشرين . فخلال العقد الاول من تاسيس الدولة العراقية ومرحلة الانتداب البريطاني1920-1932 ظهرت العديد من الاحزاب التي مارست العمل السياسي والتنظيمي العلني، الا انها كانت احزابا ليبرالية ديمقراطية انشغلت بقضايا التاسيس والمطالبة بالاستقلال وترسيخ المشاركة السياسية وتعزيز المؤسسات الحكومة وغيرها ، ولم تظهر احزابا او تنظيمات اعتبرت الوحدة العربية هدفها الاساس او السعي الى تكوين الدولة القومية الموحدة والشاملة ، الا بعد استقلال العراق ودخوله عصبة الامم عام 1932 . وكان اول تلك التنظيمات جمعية الثقافة العربية التي تعد اول الجمعيات التي تبنت الاتجاه القومي في العراق. وتاسست عام 1931 من خلال الزعامة الفكرية لساطع الحصري . ثم تبلورت فيما بعد العديد من التنظيمات والجمعيات القومية في العراق، التي عبرت عن التوجهات السائدة في هذا العقد من حيث التاثير والاعجاب بالانماط الفاشية والنازية مثل الحزب القومي العربي وجمعية الجوال العربي ونادي المثنى وجمعية حماة العروبة وكتائب الشباب وجمعية احياء الاتحاد العربي والوحدة العربية وجمعية الضباط القوميين ونادي جمعية الاتحاد العربي (فرع العراق) ومنظمة الحرس الوطني وجمعية الثقافة العربية وجمعية الدفاع عن فلسطن ونادي المهلب بن ابي صفرة وجمعية المؤتمر العربي القومي وجمعة المنهج القومي .
والمفارقة انه لم تتأسس في العراق قبل عقد الثلاثينات اي جمعية تحمل اسم او مفردة العربي او العربية غير اثنتين. الاولي: الجمعية الاسلامية العربية وتاسست1920 من قبل ابو القاسم الكاشاني (والغريب انه من اصل ايراني ولغته العربيه ضعيفه جدا) ومحمد الخالصي في الكاظمية، الا ان نشاطها كان منحصرا ضد الوجود البريطاني في العراق. والثانية : منظمة الميثاق العربي العراقي وتاسست في تموز1922 من قبل بعض شيوخ عشائر الفرات الاوسط والجنوب بلغ عددهم (92) شيخا ابرزهم (بدر الرميض وفرهود المغشيش وموحان الخير الله) وغيرهم وبينت ان غايتها العمل على تاليف حكومة حرة نيابية ديمقراطية مسؤولة امام الامة العراقية المستقلة ومنع اي تدخل اجنبي وتاييد سياسة الملك فيصل الاول، وتلاشت هذه المنظمة بعد ان اصبح الكثير من اعضائها في المجلس التاسيسي والمجالس النيابية اللاحقة.
وعليه يمكن القول ان القومية العربية في العراق من حيث الفكر والنظرية والمشروع - وحتى الممارسة - ليست نسيج واحد مترابط او متكامل على اسس ثابتة او صلدة، وانما هى عبارة عن توجهات متعددة ومتباينة من حيث الاصول والريادة والاهداف والاولويات والرؤية الى المجتمع والدين والدولة. الا ان المدرستين الاهم من حيث الانتشار والفاعلية هما:
1. القومية العروبية : وهي القومية التحديثية المعتدلة في مقابل القومية التسلطية التغريبية المتطرفة التي تبلورت لاحقا بعد تاسيس الدولة العراقية الحديثة عام1921. والقومية العروبية او (العروبة) هي اول التوجهات القومية في العراق التي تبلورت على هامش تكوين او تاسيس الانتلجنسيا العراقية في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.
2. القومية التغريبية : وتبلوت بعد تاسيس الدولة في العراق عام1921 كرد فعل ايديولوجي وسياسي ليس ضد الانتداب البريطاني او المطالبة بالاستقلال التام، وانما كرد فعل تسلطي ضد القوى الوطنية التي كانت تطالب بانهاء الانتداب والاستقلال التام, والديمقراطية الحقيقية القائمة على المشاركة السياسية والتمثيل النسبي للمكونات الاجتماعية في العراق, ورفض الممارسات الطائفية والعنصرية واعادة انتاج النسق العثماني في الادارة. وقد حظي هذا النمط من القومية العربية بدعم المستشارين الانكليز وتاييدهم في التوسع والانتشار في العراق وتشجيع الخطوات الاقصائية التي قاموا بها, والمساهمة معهم في استغلال مقدرات الدولة السياسية والاقتصادية والتربوية في تعزيز وترسيخ المفاهيم الايديولوجية التي نادوا بها .
بعد الحرب العالمية الثانية دخلت العلمانية القومية في العراق نمطا جديدا وهو القومية الثورية الاشتراكية والوحدوية . وهذا النمط من القومية لم يكن يشكل قطيعة ايديولوجية مع النمط القومي الفاشي، بل هو امتداد له في بعض المفاهيم، لاسيما الجمع بين القومية المتطرفة والاشتراكية المعتدلة , والاعجاب بالنسق والافكار القومية الالمانية والنظرة الطائفية والاحادية نحو مكونات المجتمع العراقي. الا انها تميزت بالنزعة الثورية والانقلابية الصريحة والاستعارات الماركسية والدعوة الانية للوحدة العربية والقطيعة التامة مع الليبرالية والدولة الديمقراطية وغيرها. وقد تعرض النمط القومي السابق ومنظره الاول ساطع الحصري الى انتقاد صريح من كتاب ومنظري هذا النمط القومي الثوري ، لاسيما البعثيين منهم، واصفين اياه بـ (المفكر القومي التقليدي) (الذي يفتقر الى تصور كامل للدولة العربية الواحدة وتركيبها الاجتماعي وعلاقة الدولة بالفرد والموقف من العالم وقضايا العصر) – حسب وصف سعدون حمادي - واما الياس فرح فقد وصف تلك المرحلة بـ (العفوية) في معرض تقسيمه للحركة القومية العربية التي اكد انها مرت بمرحلتين:
الاولى : المرحلة العفوية التي امتدت الى منتصف القرن العشرين .
الثانية : مرحلة الثورة العربية ذات الايديولوجية الثورية المتميزة المستمدة من النظرية العلمية (الماركسية) .
وكان الدور الابرز للانبعاث العلماني القومي في العراق خلال هذه المرحلة يعود لتاثيرات الرئيس المصري جمال عبد الناصر واعماله المازومة ضد الغرب والصراع السياسي والايديولوجي معهم . وقد ذكر احد الكتاب الغرب (ان شعبية الناصرية قبل ثورة تموز 1958 في العراق لم تكن لها علاقة بمضمون العروبة ، بل انها نشأت بسبب كونها رمزا لمواجهة الغرب ، فضلا عن مضمونها الاجتماعي التقدمي ، حتى ان الحزب الشيوعي العراقي دعم عبد الناصر في هذا المجال) ينظر : ماريون فاروق سلوغليت وبيتر سلوغليت ، منابع نشوء القومية في المشرق ونزعة العروبة في العراق ، في : القومية مرض العصر ام خلاصه ، المصدر السابق ، ص134 . وهذا يعني ان عبد الناصر هو من جعل مفهوم القومية العربية في العراق ياخذ بعدا شعبيا وحشديا بعد ان كان مفهوما نخبويا مقتصرا على الصفوة السياسية والمثقفة . وكان لازمة السويس عام 1956 دور اساسي في بعث الحركة القومية العربية مرة اخرى في العراق بعد مرحلة الضمور والضعف التي اعقبت الحرب العالمية الثانية ، الا ان قيام الجمهورية العربية المتحدة (سوريا ومصر) عام1958 تعد الركيزة الاساس التي الهبت شعور القوميين الوحدويين وحماسهم في سائر البلدان العربية، لاسيما في العراق، الذي تصاعدت فيه الدعوات الصريحة للانضمام الى هذه الوحدة بعد قيام واندلاع ثورة تموز1958 واسقاط النظام الملكي وقيام الجمهورية العراقية .فقد شهدت مطالبات سياسية وشعبية عديدة من قبل القوميين تدعو للانضمام للجمهورية العربية المتحدة , وكل تلك الدعوات حدثت بتحريض من ميشيل عفلق امين عام حزب البعث في سوريا , الامر الذي اثار انزعاج الزعيم عبد الكريم قاسم ورفضه الشديد , فحصل توتر وانفصام بين القوميين وقاسم توجه بالانقلاب العسكري عليه عام 1963 .
توجت اعمال القوميين بالتعاون والتنسيق مع الحكومة المصرية بانقلاب 8 شباط 1963 الذي قاده حزب البعث ، وتسلمت السلطة في العراق الاحزاب والتوجهات القومية (البعثية والناصرية) الخمسة سنوات القادمة (1963-1968) ففي البدء تسلم البعثيون السلطة بعد الانقلاب مباشرة، ونظموا ميليشيا (الحرس القومي) في سبيل حماية سلطتهم ومطاردة الموالين لحكم عبد الكريم قاسم وابرزهم في ذلك الشيوعيين، وعينوا عبد السلام عارف رئيسا للجمهورية لمواقفه السابقة في المطالبة بالوحدة العربية والمناداة بها .
واجه حزب البعث في العراق اشكالية اخرى ، تمثلت بالصراع على السلطة بين اجنحة حزب البعث (اليمين واليسار) (العسكر والمدنيين) استغلها الرئيس عبد السلام عارف الذي قام بعزلهم عن السلطة وحل مليشيا الحرس القومي في 18 تشرين الثاني 1963 . وقد حصل عارف على تاييد عبد الناصر وحركة القوميين العرب , خاصة بعد اعلانه بانه سيسعى لاقامة احسن العلاقات مع مصر، وتفعيل اجراءات الوحدة معها. وجرت مفاوضات بهذا الصدد انتهت بالتوقيع على اتفاق الوحدة بين العراق ومصر في 28مايس1964 وتشكيل مجلس رئاسة لدراسة تنفيذ الاجراءات الضرورية بهذا الشأن. الا ان عبد الناصر قد اشترط على كل دولة عربية تريد الوحدة مع مصر القيام باجراءات اشتراكية، وحل الاحزاب السياسية، وقد رضخ عارف لهذه الشروط، فقام في تموز1964 باعلان تاميم البنوك وشركات التأمين والمصانع الكبيرة والقيام (الاتحاد الاشتراكي العربي) كحزب او تنظيم في البلاد، وقد حلت اربعة احزاب قومية تنظيماتها وانضمت الى هذا الاتحاد وهي: حركة القوميين العرب والحزب العربي الاشتراكي وحركة الوحدويين الاشتراكيين والوحدويون الاشتراكيون الديمقراطيون , الا ان خطوات الوحدة لم تنجح , لانها في الاصل كانت للاستهلال المحلي والدعاية والنيل من عبد الكريم قاسم . واستمر التوجه القومي الناصري هو السائد خلال مرحلة حكم الاخوين عارف (1963-1968) حتى الانقلاب البعثي الثاني في تموز 1968 عندما تولى السلطة احمد حسن البكر . فقد انتشرت التوجهات العلمانية البعثية في الدولة العراقية وتمددت نحو المجتمع بعد ان احتكرت السلطة مقدرات الدولة الامنية والتعليمية والاقتصادية والاعلامية لصالحها , واسس البعثيون لدولة استبدادية وشمولية اعتمدت في سطوتها على القسر والارغام وترويج الايديولوجيا البعثية من جانب , وعلى الاموال والوظائف وشراء الذمم من جانب اخر . واستمر الحكم البعثي قائما في البلاد حتى اسقاطه على ايدي الامريكان في نيسان 2003 .
لقد تبنت الانتلجنسيا العراقية والعربية بعامة الهجوم على الاديان - او الدين الاسلامي بخاصة - لاعتقادهم انه يشكل العائق الاساس امام النهضة العربية والعلمانية , او الوصول الى مستوى الحضارة الغربية . فالدولة العراقية عملت على نشر المفاهيم والسلوكيات العلمانية بقوة عند الجماعة الشيعية بالقياس الى السنة العرب , وذلك من خلال الاعلام والتعليم والجيش . وهذه السلوكيات هدفها الاول ليس ترويض الجماعة وتدجينها بعد ثورة العشرين وعزلها عن زعمائها الروحيين الثوريين فحسب , وانما تجفيف منابع الهوية التي تشكل الثقافة الشيعية التقليدية المرتكز الدلالي فيها , ومن ثم التمهيد لاخصائها وتدجينها واخضاعها لتوجهات السلطة وسردياتها القومية والطائفية . وبهذا الصدد ذكر حنا بطاطو في مقال (الدور السياسي للشيعة وعملية الاندماج ) (ان انتشار الافكار والقيم العلمانية الشيوعية والبعثية وسط المثقفين الشيعة.. اضعف بالطبع سطوة المعتقدات الشيعية القديمة عندهم ....... ويرجع ضعف تاثير المراجع على الفلاحين الشيعة القاطنين على ضفاف هذه الانهر (دجلة والغراف وشط العرب) الى غياب اي اثر للدين المنظم . وعلى سبيل المثال لم يكن هناك اي اثر حتى اواخر عام 1947 لاي مؤسسة دينية في المناطق الشيعية على ضفاف دجلة والغراف) .
اما الاختراق العلماني للمجتمع السني قد اقتصر على تلك النخبة الحاكمة ، دون العامة التي كان الاختراق لها اقل بالقياس الى الفئات الاجتماعية كالشيعة والكورد والمسيحيين والاقليات الدينية والمذهبية والاثنية الاخرى . وهذا يرجع الى ان الخطوات الحكومية التي قامت بها الدولة من اجل بلورة الاندماج القسري للفئات المعارضة او غير الحاكمة ، لم تكن تشمل السنة ، على اعتبار انهم كانوا بالاصل عصبة الدولة وحكامها ، فلا حاجة بالتالي لاختراقهم علمانيا او حتى مدنيا ، فالمفاهيم العشائرية والطائفية والمناطقية بقيت راسخة في النظام الثقافي والاجتماعي لتلك الاقلية الحاكمة ، بل ربما كان للدولة يد في عدم وصول الاختراق الى مديات واسعة من التطرف ، من اجل الحفاظ على عصبة الدولة وعدم تفتيت الهوية السنية الحاكمة امام التيارات والتوجهات الغربية العلمانية الاخرى ، لان ذلك قد يجعلها تسقط في احصان الاحزاب والتيارات المعارضة ، كما سقطت في ذلك الاتون الهوية الشيعية من قبل . وقد تفاجأ المجتمع العراقي بصورة عامة بعد عام 2003 وانهيار المعادلة الطائفية السابقة في الحكم ، ان المجتمع السني مازال يعيش في انماط القبيلة والطائفة والمناطقية اكثر من غيره ، وان حظه من الاختراق العلماني والمدني الذي قامت به الدولة العراقية بعد عام 1920 كان اقل بكثير من الشيعة والكورد والمسيحيين والفئات الاخرى ، وان المجتمع المدني والحركات السياسية والتيارات الفكرية والايديولوجيات الوافدة ، كانت من الضعف عندهم بصورة تبعث على الشك والتأمل ، وحتى اذا كان هناك من تبنى الايديولوجيات القومية والماركسية والاسلامية وغيرها ، فانها لم تلغي هويته الثقافية السنية ، وانما تكون اهميتها بالدرجة الثانية بعد تلك الهوية الاصلية ، التي لا يستطيع التفريط بها بسهولة ، لانها ببساطة – هوية السلطة . كما ان الحكومات المتعاقبة في العراق (1921-2003) كانت قد وضعت ستارا حديديا امام التوجهات والاختراقات للمجتمع السني ، وحافظت عليه من التفتت والتلاشي حتى اصبح بنية صلدة لا يمكن تجاوزها او استدراجها للقيم العلمانية الليبرالية والماركسية ، وهذا الكلام لا يعني بان المجتمع الشيعي والكوردي كان يعيش العلمانية والمدنية باجلى صورها واعلى مباهجها ، وانما يكون هذا الكلام صحيحا فقط بالقياس الى المجتمع السني الذي لم يتجاوز في يوم من الايام هويته الثقافية . وقد اكد هذه الرؤية الدكتور فالح عبد الجبار في كتابه (العمامة والافندي) بقوله (بما ان المؤسسة الدينية السنية في الاصل غير مستقلة وتابعة للسلطات الحاكة المتعاقبة على العراق، فهي كانت مندمجة بصورة كبيرة في النظام السياسي، فان الاختراق العلماني كانت نتائجه بصورة كبيرة قد ظهرت على المؤسسة الدينية الشيعية، وعلى مقلديهم في المحافظات الشيعية). كما ذكر عبد الجبار ذلك ايضا في مقاله (الصعود الشيعي والتصادم الطائفي في السياسية والاجتماع العراقيين) المنشور في كتاب (نواصب وروافض) (تاريخيا وحتى الثمانينات من القرن الماضي كانت طبقة رجال الدين الشيعة في العراق ضعيفة جدا بالمقارنة مع نظيرتها الايرانية , فهذه الاخيرة كانت تتمتع بقاعدة مالية قوية وقاعدة شعبية ريفية قوية منظمة في مؤسسات نقابية ... وكان المذهب الشيعي الايراني مندغما في القومية الايرانية على نقيض ذلك كانت الطبقة الدينية العراقية غير متجانسة في وطن يسوده الانقسام الحاد على مستوى الطائفة والاثنية) .
وعلى النقيض من ذلك ، توقع كتاب اخرون انبعاث الاديان – لاسيما الاسلام – في القرن الواحد والعشرين ، كرد فعل لتلك الممارسات والاختراقات العلمانية (الليبرالية والماركسية والقومية) والمفاهيم الوجودية والالحادية وغيرها، واسماها صموئيل هنتيغنتون بـ (انتقام الالهه) . فيما تنبأ عزيز السيد جاسم بهذه الظاهرة بقوله (ستنبثق انتفاضة هائلة للاديان بسبب المادية المتطرفة في الشيوعية) . ينظر : عزيز السيد جاسم ، الزهر الشقي ، مكتبة اليقظة العربية ، بغداد ، 1986 ، ص250 .
استمرت التوجهات العلمانية السياسية والاجتماعية والتعليمية قائمة في العراق خلال القرن العشرين حتى يمكن القول (ان القرن العشرين هو قرن العلمانية في العراق) وتوزعت تلك العلمانية على التوجهات الليبرالية والقومية والماركسية , وانعكس تاثيرها على المجتمع ونظامه الاخلاقي والمعرفي بصورة ظاهرة , الا ان ذلك لم يمنع من وجود بعض الحركات والتوجهات الاسلامية السياسية التي اردت الوقوف بوجه هذه المسارات العلمانية وارجاع الناس للنسق الديني . فقد ظهرت في الخمسينات العديد من الاحزاب الاسلامية (الشيعية والسنية) اهمها حزب الدعوة الاسلامية وحزب التحرير والحزب الاسلامي العراقي والاخوان المسلمين وغيرهم . ولكنها تنظيمات سياسية بقيت ضمن اطار النخبة والشباب الاسلامي , ولم تنفذ الى اعماق المجتمع والاوساط الشعبية , بسبب الحجر والقمع والرفض الحكومي لتلك التوجهات بالعمل والدعوة والانتشار اولا وصمود الركائز العلمانية في النظام المعرفي والاخلاقي عند اغلب العامة ثانيا . واستمر الحال على ماهو عليه حتى انتصار الثورة الاسلامية في ايران عام 1979 التي وجهت ضربات عديدة للتوجهات العلمانية في الشرق الاوسط , ونشرت الافكار الاسلامية الثورية والسياسية القائمة على الحاكمية الدينية , ولم تظهر التاثيرات الدينية بسبب تلك الثورة مباشرة في العالم الاسلامي , بسبب قوة الركائز العلمانية السابقة , وانما اخذ تاثيرها يظهر فيما بعد وتدريجيا - ولاسيما في عقد التسعينات - ومن اهم تلك الدول او المجتمعات التي لم تظهر عليه تاثير الصحوة الاسلامية في العقد الاول من الثورة الايرانية هو العراق , والسبب هو الحرب التي شنها نظام صدام حسين على ايران (1980-1988) ورفض حكومة البعث اي توجه ايديولوجي او عقائدي يتقارب مع ايران , وقمع التوجهات السياسية الاسلامية واحزابها وقادتها ورموزها وصمود الركائز العلمانية السابقة التي ادرجتها الحكومات العلمانية السابقة في النسيج الاجتماعي , عدا بعض التاثيرات البسيطة التي تفاعل معها الشباب والطلبة في الجامعات وغيرها . واستمر الوضع قائما حتى عقد التسعينات عندما برزت السلوكيات والمظاهر والرموز الاسلامية الى العلن بين اوساط العامة في المجتمع العراقي , مستغلين ضعف النظام البعثي الحاكم في هذا العقد بعد الحصار الاقتصادي والضربات التي تعرض لها في اعقاب احتلاله للكويت (1990 – 1991) واستمرت التوجهات الاسلامية بالتصاعد مع انخفاض لافت بالافكار العلمانية - وخاصة التوجهات الثلاث (الليبرالية والماركسية والقومية) حتى نهاية عقد التسعينات , عندما برزت نهضة السيد الشهيد محمد الصدر التي نشرت السلوكيات الدينية الشعبية والافكار الاسلامية الشيعية بقوة من قبيل الزيارات الجماعية المليونية والصلوات الجماعية وارتداء الحجاب عند النساء وغيرها .
واما على المستوى السني الاسلامي في العراق فقد تاثر ايضا بالفضاء الاسلامي العام في المنطقة الذي صنعته الثورة الايرانية , الا انه لم يتعرض الى المحاربة والحجر من قبل النظام البعثي الحاكم خلال عقد الثمانينات - ان لم يكن العكس - فقد دعم النظام البعثي الحاكم الاوقاف الدينية السنية وخاصة المساجد وغيرها , وادرج المفاهيم الاسلامية السنية الطائفية في المناهج الدراسية والاعلام الرسمي . وفي عقد التسعينات عمل النظام البعثي على ممارسة بعض السلوكيات الدينية , من اجل ركوب الموجة الشعبية وسحب البساط من تحت ارجل المعارضين الاسلاميين الشيعة اولا وزيادة التحريض الشعبي والديني على الغرب - وخاصة امريكا - التي كانت توجه ضربات متلاحقة لنظامه السياسي والامني ثانيا منها :
1 . اطلق النظام البعثي الحاكم ما اسماه (الحملة الايمانية) في حزيران 1993 وقام خلالها بتاسيس جامعتين الاسلاميتين تتبعان المذهب السني وبناء العشرات من الجوامع الضخمة في عموم البلاد , وادراج الكثير من المواد الاسلامية في المناهج الدراسية وزيادة ساعات البث الديني في الاعلام الحكومي الرسمي من قبيل صلوات الجماعة والجمعة والدعاء وغيرها .
2 . نشر الافكار السلفية الوهابية في المجتمع الشيعي خاصة والعراقي بعامة والتشجيع عليها - او غض النظر عنها - والتي كانت تقوم بها اوساط متنفذة في الدولة العراقية ومقربة من الحكومة السعودية . والتي كانت تعطى اموال لكل شيعي يتحول الى وهابي في وسط وجنوب العراق بالدولار ,مستغلين حالة الفقر والعوز بسبب الحصار الاقتصادي .
3 . تشجيع الطرق الصوفية وتكايا الدراويش في وسط وجنوب العراق من اجل تحجيم التوجه الاسلامي الشيعي الثوري بين الشباب . وكان المشرف عليها وداعمها الاول نائب رئيس مجلس قيادة الثورة عزة الدوري , حيث انتشرت التكايا في وسط وجنوب العراق وانضم الكثير من الشباب اليها وتاثروا بافكارها ومعتقداتها .
وقبل ان نختم هذه الدراسة , لابد ان نذكر اهم الاستنتاجات عن تطور العلمانية في العراق خلال القرن العشرين وهى :
1 . ان التيارات والتوجهات العلمانية السياسية والايديولوجية الثلاث التي هيمنت على الساحة العراقية خلال القرن العشرين هى (الليبرالية والماركسية والقومية) .
2 . ان تاثير اليبرالية كان فاعلا في النصف الاول من القرن العشرين ,فيما كان تاثير الماركسية واضحا بعد الحرب العالمية الثانية . واما التوجهات العلمانية القومية فقد اكتسبت سطوتها الشعبية بقوة بعد تسلمها السلطة في شباط 1963 وحتى سقوط اخر الانظمة القومية عام 2003 .
3 . كلا التوجهين العلماني الليبرالي والعلماني القومي قد تسلموا الحكم والسلطة في العراق . فالتوجه العلماني الليبرالي كان هو الطابع العام للعهد الملكي (1921-1958) والتوجه العلماني القومي (الناصري والبعثي) كان هو ايديولوجية الدولة العراقية بين عامي (1963-2003) .
4 . رغم ان التوجه العلماني الماركسي لم يتسلم الحكم في العراق خلال القرن العشرين (عدا بعض التاثير والسطوة خلال مرحلة حكم عبد الكريم قاسم (1958-1963) الا ان التاثير الشعبي والانتشار النخبوي والثقافي كان فاعلا ومؤثرا في الساحة العراقية .
5 . لم تحصل اشكالية كبيرة بين التوجهات العلمانية الليبرالية والقومية مع الدين في العراق . فيما حصل التصادم الفاعل والبارز بين العلمانية الماركسية ورجال الدين .
6 . التوجه العلماني القومي يتميز بالانتهازية في العلاقة مع الدين . فهو من جانب علماني متطرف ضد المذهب الشيعي وطقوسه ورجاله , فيما هو متدين امام المذهب السني ويدعمه بالاوقاف والتعليم والاعلام .
7 . كان للمنظرين الليبراليين من امثال علي الوردي وكامل الجادرجي وعبد الفتاح ابراهيم دور كبير في الترويج للعلمانية الليبرالية في العراق خلال العهد الملكي .
8 . المنظرين الماركسيين من امثال عزيز السيد جاسم وابراهيم كبة وفيصل السامر ونوري جعفر دور كبير في الترويج للعلمانية الماركسية .
9 . المنظرون القوميون من قبيل سعدون حمادي وفؤاد الركابي وعبد الرحمن البزاز دور ظاهر في الترويج للعلمانية القومية ونشرها في العراق بالاعتماد على السلطات الحاكمة .
10 . الادباء العراقيون من الشعراء والقاصون دور كبير في الترويج للمفاهيم العلمانية والتحرر والاصلاح والانفتاح واستغلال الدين وغيرها من امثال الزهاوي وعلي الشرقي والرصافي والجواهري ومحمد باقر الشبيبي وفؤاد التكرلي وعبد الملك نوري ومحمد صالح بحر العلوم وغائب طعمة فرمان وغيرهم .
11 . شهد العقد الاخير من القرن العشرين بداية النهاية للتوجهات العلمانية في العراق . وكان لانهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 وتفكك المعسكر الاشتراكي دورا كبيرا في اضعاف التوجه العلماني والتحول نحو النسق الديني والاسلام السياسي الذي اخذ بالتمدد انذاك في المجتمع العراقي .
12 . كان للدولة العراقية التي تاسست عام 1921 دور كبيرا في الترويج للمتبنيات والسلوكيات العلمانية وترسيخها في المجتمع العراقي من خلال اليات التعليم والاعلام والجيش وغيرها .
13 . واجهت التوجهات العلمانية في العراق تحديات ايديولوجية كبيرة من اتباع التيار الاسلامي . وكان اقوى المواجهات العقائدية قد حصلت بين العلمانيين الماركسيين والاسلاميين بسبب دعاوى الالحاد العلنية التي اعلنوها صراحة . فيما انحصر الصراع بين القوميين والبعثيين مع الاسلاميين ضمن المسار السياسي .
(الدكتور سلمان الهلالي /الناصرية)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - العلمانية شرط ضروري للتقدم
منير كريم ( 2020 / 5 / 21 - 13:00 )
تحية للدكتور الهلالي
لم تتجذر العلمانية في كافة المجتمعات الاسلامية وربما نظيف قريبا في المجتمعات الهندوسية ايضا
بقت العلمانية في الشرق الاوسط ظاهرة سياسية سطحية لم تنفذ الى وجدان الشخصية وبقت الدولة شبه دينية
ارتدت عن العلمانية الدول العلمانية الرائدة في الشرق الاوسط وهي تركيا وايران وتونس
بعض الشيوعيين في البلدان العربية في تناقض صارخ يصلون في المساجد
لا تقدم ولا ازدهار بدون العلمانية
شكرا لك

اخر الافلام

.. الشرطة الأمريكية تعتقل عشرات اليهود الداعمين لغزة في نيويورك


.. عقيل عباس: حماس والإخوان يريدون إنهاء اتفاقات السلام بين إسر




.. 90-Al-Baqarah


.. مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى وسلطات الاحتلال تغلق ا




.. المقاومة الإسلامية في لبنان تكثف من عملياتهاعلى جبهة الإسناد