الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من نقد الدين إلى وحدة الأديان في الثقافة الإسلامية(9)

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2020 / 5 / 27
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


من ابن عربي حتى عبد الكريم الجيلي


إن مساعي الأفراد والجماعات والأمم هو تمظهر لما في باطنها. وتجسيدها الظاهري إن كان موافقا لما في باطنها يشكل خطوة إلى الأمام في طريق الحق، وان كان مخالفا فانه عصيان الظاهر. وعصيان الظاهر أيضا عبادة لكنها عبادة خاطئة في طريق الحق. لهذا ينوب الظل في الطاعة. إنها طاعة الظاهر فقط. وفي حقيقتها هي طاعة الحس. من هنا تقييدها وضيقها وعدم اتساعها. فهي لا تستطيع أن تتجاوز الظاهر. وتبقى لهذا السبب عائمة ضمن حدود الجسد. لهذا تصنع عمرانها الخاص في العمارة من هياكل فخمة فارغة من حقيقة الباطن. وهي الفكرة التي وضعها ابن عربي في عبارته القائلة "بالظلالات عمرت الأماكن".
لم يسع ابن عربي من وراء ذلك للقول، بان الضلال من الظلال فحسب، بل وللقول بان الظلال يؤدي إلى ضلال الروح حالما تعتقد بأنها حقيقة الباطن. وذلك لان الظلال خيال. والخيال أشباح عابرة عندما تكون ظلا للجسد، وقوة مبدعة عندما تكون ظلا معنويا لصورة معنوية.
ووضع ابن عربي هذه الفكرة في موقفه مما اسماه بأشكال التوحيد. إذ اعتبر من "وحّد الله بما تجلى لقلبه عند فكره وهو صاحب دليل، فهو نور على نور من ربه ويبعث أمة واحدة". واعتبر قس بن ساعدة نموذجا له. وهناك من "وحّد الله بنور وجده في قلبه لا يقدر على دفعه من غير فكرة ولا روية ولا نظر ولا استدلال. فهو على نور من ربه يحشر بين الأصفياء والأبرياء". وهناك من "القي في نفسه واطلع من كشفه لشدة نوره وصفاء سره لخلوص يقينه. فهو يحشر في ضنائن الخلق وباطنية محمد". وهناك من "يتبع ملة حق مثل اليهود والنصارى أو يتبع ملة إبراهيم. وهؤلاء يحشرون مع من يتبعهم". وهناك من "آمن بمحمد قبل وجوده، ولكنه لم ينخرط في سلك نبي. فهؤلاء يحشرون مع المؤمنين". وهناك من "آمن بالنبي محمد. ولهم أجران ظاهرا وباطنا". وهناك "من عطل لا عن نظر بل تقليدا. فهو شقي مطلق". وهناك من "أشرك عن نظر فأخطأ". وهناك "من أشرك لا عن استقصاء نظر. فهو شقي". وهناك "من أشرك عن تقليد. فهو شقي". وهناك "من عطل بعدما اثبت عن نظر بلغ فيه أقصى القوة التي هو عليها". وهناك "من عطل بعدما اثبت لا عن استقصاء في النظر بل تقليدا. فهو شقي" .
لقد أراد ابن عربي القول، بان تنوع الأديان هو تجل للحقيقة المحمدية ودرجة من درجات إدراكها في الوقت نفسه. ومنهما تتبلور أشكال الأديان، باعتبارها درجات في التوحيد. فالجميع توحد الله، إلا أن كل منها يراه بما هو مستعد له. ذلك يعني أن تنوع الأديان بالنسبة له هو تنوع درجات التوحيد. لهذا لم ينظر إليها بمعايير المؤمنين والكفار والمشركين ولا بمقاييس الإسلام والنصرانية واليهودية والمجوسية والبراهمة. لقد حاول إظهار مستويات الظلال والأنوار، باعتبارها تجليات لأشكال التوحيد. لهذا نراه يتكلم عن تجلي الله لقلب بالدليل وعن وجود في القلب وصعوبة التدليل عليه وعن إلقاء له في القلب بفعل تصفية القلب وخلوص اليقين. وهي درجات تمثل عبور الظل الحسي إلى الظل المعنوي. وفيهم يدخل كل من كان في هذه الدرجات ماضيا وحاضرا ومستقبلا بغض النظر عن انتمائهم الديني والقومي والحضاري. بينما نراه يجد في اليهود والنصارى ممثلين "لدين الحق"، وفي المسلمين ذاتا جامعة للظاهر والباطن. أما من الحد وعطل وأشرك فانهم أيضا عطلوا وأشركوا بمستويات ودرجات مختلفة. فمنهم من عطل عن تقليد ومنهم من عطل عن نظر. والشيء نفسه يمكن قوله عمن أشرك.
ونظر ابن عربي إلى هذه المستويات والدرجات بمعايير الحقيقة المحمدية نفسها. لهذا نراه يحشر كل مستوى بمستواه. إذ يحشر من يتجلى الله لقلبه وهو صاحب دليل ضمن من "يبعث أمة واحدة". ويحشر من وجد في قلبه ولا يستطيع التدليل عليه ضمن الأصفياء والأبرياء. ويحشر من القي في نفسه لصفاء السر ضمن ضنائن الخلق وباطنية محمد. ويحشر اليهود والنصارى ضمن أممهم. ويحشر من آمن بمحمد قبل ظهوره مع المؤمنين. ويعطي لمن آمن بالإسلام أجران ظاهرا وباطنا كالمجتهد. واعتبر من عطل عن تقليد "شقيا مطلقا"، ومن أشرك عن تقليد شقيا. واعتبر من أشرك عن عدم استقصاء في النظر شقيا. لكننا نراه يصمت حيال أولئك الذين عطلوا وأشركوا عن نظر واستدلال وكذلك حيال أولئك الذين عطلوا بعدما اثبتوا عن نظر واستدلال. ذلك يعني انه اخرج الملحدين والمشركين من فرقة الأشقياء، عندما تكون مواقفهم مبنية على أساس الاجتهاد العقلي.
وفي الإطار العام لم يكفر بن عربي ولم يتهم أيا كان في اعتقاده ودينه. لقد فسح للجميع حق الوجود، وأعطى للأديان وحدتها في درجات التوحيد، كما عبر عن ذلك في شعره:
عقد الخلائق في الإله عقائدا
وأنا اعتقدت جميع ما عقدوه!
وهو موقف يستمد أصوله من نظريته عن الحقيقة المحمدية التي تجعل من الأديان جميعا درجات في سلّم الحق. وبالتالي فان تنوع الأديان هو تنوع في محاولات الإنسان بلوغ تمثله وتمثيله للحقيقة المحمدية نفسها، كما عبر هو نفسه عنها بصورة نموذجية في قصيدته الشهيرة (تناوحت الأرواح)
لقد صار قلبي قابلا كل صورة
فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت
ركائبه، فالحي ديني وإيماني!
وهو إقرار بالتنوع نابع من سموّ الروح، الذي يجعل القلب كيانا قادرا على التنوع في الصور واحتواءها في الوقت نفسه. حيث تتحول الأديان وكتبها والطبيعة وما فيها إلى تجليات للمحبة، باعتبارها سر الوجود، الذي يعطي لكل شئ معنى، بوصفه نسبة في نظام المطلق.
بينما قد عبد الكريم الجيلي صيغة نموذجية للرؤية الصوفية عن وحدة الأديان، استمدت جوهرها من آراء ابن عربي نفسه. فقد طابق الجيلي فكرة الاستعداد الذاتي مع الفطرة. من هنا قوله، إن العبادة فطرة. والمقصود بالعبادة هنا هو الطاعة. والطاعة هي انجذاب الأشياء لذاتها وبما انه لا ذات حقيقة في الوجود غير الله، لهذا كان الانجذاب نحوها هو انجذاب تجاه النفس. وهو المعنى المقصود من العبادة بوصفها فطرة. من هنا عبادة الموجودات كلها له، بمعنى طاعتها إياه، لأنه من صلب فطرتها. من هنا قوله "ما في الوجود شئ إلا وهو يعبد الله بحاله ومقاله وأفعاله، بل بذاته وصفاته.. فكل شئ في الوجود مطيع لله" . لقد وجد الجيلي في كل موجود حياة هي قوته الدافعة في أحواله وأقواله وأفعاله في طاعة الله. إذ لكل شئ حال وقول وفعل وذات وصفات. وهو موقف يشمل الموجودات جميعا من إنسان وحيوان ونبات وجماد. فكل شئ يعبد الله، بمعنى يطيعه، لان في ذلك مصدر وجوده.
وبما أن الوجود متنوع متبدل متغير، لهذا تنوعت وتبدلت وتغيرت أحوال الناس وأقوالهم وأفعالهم في العبادة. من هنا أيضا تنوع الديانات والله واحد. وذلك لان كل دين وفرد وجماعة وأمة في مراحل وجودهم التاريخي يرى ما لا يراه الآخرين. وهي خصوصية تستجيب وتستمد وجودها من استعدادهم الذاتي. لهذا اختلفت الأمم والأقوام بعد أن كانت مجبولة بالفطرة على عبادة الله، كما يقول الجيلي . وهو تنوع مرتبط بتنوع تجليات الله. لهذا ذهبت كل طائفة إلى ما علمته انه صواب ولو كان ذلك العلم عند غيرها خطأ. بعبارة أخرى، إن اختلاف الأمم في علمها عن الله هو اجتهادها الذاتي فيما تراه صوابا مع انه قد يبدو عند غيرها خطأ. وهو اجتهاد "يحّسنه" الله في عينها، باعتباره جزءا من جهادها في معرفة المثال المطلق، أي أن الله يتجلى لها بمقدار ما تسعى إليه. من هنا فكرة الجيلي عن أن الأمم تسعى كلها لمعرفة الله، وهو "يحسنه عندها ليعبدوه من الجهة التي تقتضيها تلك الصفة المؤثرة من ذلك الأمر" . ذلك يعني أن الله يحّسن ما يعتقدوه صوابا عنه ليعبدوا ما شاهدوه فيه، باعتباره تجل لرؤيتهم عن المطلق. وبالتالي، فان الله هو المطلق في الديانات المتنوعة.
وهو تنوع يعكس المسار التاريخي للجهاد والاجتهاد الإنساني في بلوغ تطابق الأنا مع المطلق. وذلك لان عبادة الله هي عبادة الأنا. والانا في ارتقاء دائم يتمظهر تاريخيا في أفعال العبادة وأشكالها المتنوعة من عبادة الأوثان إلى عبادة الطبيعة ومنها إلى عبادة الكواكب ومنها إلى عبادة النور والظلمة ومنها إلى النار الواحدة والدهر ومنهما إلى الله الواحد.
لقد أراد الجيلي القول، بان تطور العبادة هي طاعة متزايدة للانا في إدراك حقيقتها بوصفها ذاتا واحدة لا تجزئة فيها. وحقيقة الإنسان في وحدته. وكل تعمق في إدراكها يوصله إلى إدراك حقيقة الله الواحدة. فمن الأوثان إلى الطبيعة بمختلف عناصرها، ومن الكواكب المتعددة إلى ثنوية النور والظلمة، ومنها إلى واحدية النار والدهر، ومنها إلى الله الواحد وواحديته المتنوعة عند أهل الكتاب، ومن واحدية الله المتجزئة إلى وحدته الصمدية المجردة. وفي كل مرحلة وعند كل طائفة وأمة "ناس للجنة وناس للنار" . أي لا توجد طائفة خالصة في طاعتها، والطاعة على مقدار الاقتراب من حقيقة الحق ضمن هذا الدين أو ذاك. لأنهم جميعا يسعون للحق ويصلون إليه ويسعون للسعادة ويصلون إليها .
ذلك يعني انه لا أفضلية لدين على آخر من حيث الانتماء المباشر، مع أن الأفضلية قائمة في تمثل الدين لحقيقة الوحدة الصمدية المجردة. وذلك لاحتوائها على كل درجات الطاعة السابقة لها، بعد تذليلها فقط في مساعي التوحيد الخالص. فقد ظهر عبدة الأوثان بعد ظهور الإنسان، كما يقول الجيلي. وتعبد الإنسان الأوثان تقربا بها إلى الله . ذلك يعني انهم لم يعبدوا الأوثان كأوثان، بل عبدوا فيها الله. وبما أن الله موجود في كل ذرات الوجود، لهذا عبدوه من حيث ما تقتضيه ذواتهم، التي هو عينها، بعد أن شهدت لهم قلوبهم بان الخير في ذلك الأمر . والطبيعيون عبدوا الأصل دون الفرع بعد تحكيم العقل. لهذا قالوا بالعناصر الطبيعية من ماء وتراب وهواء ونار. لقد وجدوا فيها اصل الوجود لهذا عبدوا الطبائع . لكنهم ما عبدوا فيها إلا الحق من حيث الصفات. أما الفلاسفة فقد قالوا بعبادة الكواكب، وكل كوكب يؤثر دوره في الوجود سلبا وإيجابا، لأنهم اعتقدوها جواهر فعالة في حياة الإنسان ومصيره. بينما ذهب الثنوية إلى عبادة النور والظلمة المطلقة. ووجدوا فيهما الله من حيث نفسه، لأنه جمع الأضداد بنفسه. وعبد المجوس النار لان الحياة مبنية على الحرارة الغريزية، وهي اصل الوجود. بهذا يكونوا قد عبدوا الله من حيث الاحدية. وهي الدرجة التي تفنى فيها جميع المراتب والأسماء والأوصاف كما تفني النار كل شأ. وفي عبادتهم للنار ما عبدوا إلا الواحد القهار، كما يقول الجيلي . بينما ترك الدهريون العبادة رأسا انطلاقا من عدم فائدتها، واعتقدوا بان الدهر بما يقتضيه مجبول من حيث الفطرة الإلهية على ما هو واقع فيه. واعتبر الجيلي موقفهم هذا عبادة لله "من حيث الهوية"، لأن الدهر هو الله .
أما من اسماهم بأهل الكتاب، الذين ادرج فيهم البراهمة واليهود والنصارى والمسلمين، فانه وجد فيهم تجليات متنوعة لعبادة الله. فمنهم من يتعبده مطلقا لهذا ينكر النبوة والرسل معتقدا بان كل ما في الوجود مخلوق لله، كما هو الحال عند البراهمة. ومنهم من يتعبده بتوحيد الله ثم بالصلاة مرتين والصوم في عاشوراء كما هو الحال عند اليهود. ومنهم من شهده في الإنسان كما هو الحال عند النصارى. واعتبر توحيدهم الأقرب إلى الحق من دون المسلمين، وذلك لان النصارى طلبوا الله فقيدوه في عيسى ومريم والروح القدس. فهم الأقرب إلى المحمديين وذلك "لان من شهد الله في الإنسان كان شهوده اكمل من جميع من شهد الله من أنواع المخلوقات" . أما المسلون فهم أهل التوحيد الخالص. لان جميع الأمم عبدت الله من خلال عبادتها شيئا من العالم، أما المسلمون "فانهم عبدوه من حيث الإطلاق" . لهذا اعتبرهم خير أمة وماعداهم مشركون سواء فيه أهل الأوثان وعبدة الكواكب والطبيعة والدهريين والمجوس وأهل الكتاب .
بهذا يكون التصوف قد تجاوز "ضيق المذاهب" خروجا إلى فضاء الإنسانية المجردة ومعالم المطلق فيها. لكنه لم يكن خروجا بالمعنى المألوف، لان جوهر التصوف الإسلامي يقوم في تذليل العادة، أي الطبيعة المصطنعة والمتكلسة في مجرى الصيرورة التاريخية للثقافة نفسها. وهو فعل يستلزم إرجاع الذات الإنسانية إلى "فطرتها" عبر توحيد عقلها النظري والعملي في وجدان الحقيقة. مما يؤدي بالضرورة إلى تذليل مختلف مظاهر ومستويات تجزئة الأنا البشرية.
حينذاك يصبح الرجوع إلى النفس رجوعا إلى معالمها المطلقة. وفي هذا تكمن ماهية الخروج على عادة "الأنا" و"الآخر"، لأن معيار التصوف وغايته النهائية تقوم في إبداع "أنا الحق". وهذه بدورها تجعل من تجارب الأفراد والأمم درجات في سلّم الحق والحقيقة، التي شكلت نظرية "وحدة الأديان" تجليها النموذجي في الموقف من الدين. وبما أن الوحدة هي غاية التصوف الإسلامي، فإن الخروج من مضيق المذاهب إلى معالم المطلق يعني أيضا تذليل جزئية الأديان أيا كانت. لكنه تذليل حققه التصوف على أساس انتمائه العميق لإشكاليات الثقافة الإسلامية ومرجعياتها. لهذا كان حتى في اشد "شطحاته" خروجا عن المألوف أكثر قربا إلى حقائق الوحدة الإسلامية. وبالتالي أكثر توليدا للأبعاد الروحية في روح الاعتدال واليقين الإسلامي.
*** ** ***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماكرون يستعرض رؤية فرنسا لأوروبا -القوة- قبيل الانتخابات الأ


.. تصعيد غير مسبوق على الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية مع تزايد




.. ذا غارديان.. حشد القوات الإسرائيلية ونصب خيام الإيواء يشير إ


.. الأردن.. حقوقيون يطالبون بالإفراج عن موقوفين شاركوا في احتجا




.. القناة 12 الإسرائيلية: الاتفاق على صفقة جديدة مع حماس قد يؤد