الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


علوم الفقه والحديث في ميزان العلم الحديث (١)

جواد بولكيد

2020 / 5 / 29
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


إن الحديث عن العلم في مجتمعات القرن الواحد والعشرين يحيلنا بشكل تلقائي إلى التفكير في الإنجازات التي تمت في الرياضيات والفيزياء والكيمياء وبقية العلوم الطبيعية، وكل ما نتج عنها من تقدم تكنولوجي هائل، حول أنماط العيش الإنساني وحقق طفرة في جودة الحياة وغير فهمنا للكون والوجود، وكل شخص على سطح الأرض سمع عن أينشتاين وباستور وكوبرنيك... وكلنا ننظر بإعجاب إلى هؤلاء العلماء العظماء ممن يسبرون أغوار المحيطات ويستكشفون عوالم الفضاء..غير أنه بالمقابل؛ تشكل لدى الكثيرين في مجتمعنا تمثل مختلف عن العالِم: على أنه خريج المعاهد الإسلامية وكليات الشريعة والملم بالعلوم الشرعية، من علوم الحديث والسيرة والحامل للقرآن. ورغم أن هذا الفهم قد يبدو بعيدا عن الأول وواضح الاختلاف عنه، إلا أنه ومن المفاجئ أن فئة كبيرة في مجتمعنا لازالت تنظر إلى العالم الشرعي على أنه يضاهي في معرفته العالم "الوضعي" بل ويتجاوزه في فهمه للكون ولكُنه الحياة...فما هو العلم إذن ومن الأجدر بلقب العالم، هل هو ابن تيمية أو نيوتن؟ هل هو الألباني أو نيتشه؟
العلم لغة مشتق من فعل "علم"، وتعرفه المعاجم العربية على أنه معرفة الأمر أو الخبر على حقيقته والدراية به وتبينه وتصديقه، كأن نقول:"علم فلان بزواج صديقه" أو "علم الناس بحدوث زلزال"..، وقد تطور استعمال الكلمة وتوظيفها ليضفي عليها معاني جديدة وأصبحت بذلك كلمة علم مصطلحا يحيل إلى مفاهيم دقيقة أحيانا، ومبهمة وغامضة في أحيان أخرى، وقد استعمل المسلمون كلمة علم للإحالة على مجمل الكتابات والبحوث التي درست القرآن والسنة، وانتشرت بذلك مصطلحات من قبيل: علم الحديث وعلوم القرآن وعلم الكلام ...للإحالة إلى فروع البحث والدراسة المتعلقة بالتراث الديني وبدراسة نصوص القرآن والحديث والأثر... بهدف استنباط العقائد والشرائع والأحكام الفقهية؛ وقد قامت الأجيال المتعاقبة من فقهاء الإسلام بوضع مجموعة من الضوابط والأحكام والتدقيقات والشروط المتعلقة بكل فرع من هذه العلوم الفقهية، تعد بمثابة المنهج البحثي الذي وجب الالتزام به، في كل من هذه التخصصات؛ فيتم مثلا تقسيم علوم الحديث إلى مجموعة من العلوم الفرعية: حيث نجد علوم رواة الحديث وعلوم المتن وعلوم السند، كما نجد قوانين محكمة لرد الحديث وقبوله، ولتصنيف الأحاديث من صحيح وضعيف إلى غير ذلك من كل مواضيع اشتغال "علماء" الحديث في الإسلام، والأمر ذاته ينطبق على علوم القرآن وعلوم أصول الفقه وغيرها من العلوم الشرعية. وبالمقابل اهتم علم الكلام بنقاش عقائدي يعتمد على الحجاج العقلي وعلى البناء "المنطقي" للبراهين التي يراد منها إثبات صحة العقيدة، وهو بذلك أقرب إلى الفلسفة منه إلى العلم.
إن الاهتمام الذي منحه "العلماء" المسلمون لوضع شروط منهجية لمؤلفاتهم وكتاباتهم في مختلف فروع العلوم الفقهية والتماسك المنطقي للفكر الإسلامي والذي تجلى واضحا في علم أصول الفقه، أضفيا على الإنتاج الفقهي والفكري الإسلامي صفة الإحكام، وسمحا بضبط وتنظيم عملية الإفتاء ورسخا سلطة رجال الدين بل قدما لها مبررا شرعيا مبنيا على سلطة المعرفة؛ خصوصا أنه لحدود نهايات القرن 18 كان مستوى المعرفة في العالم الإسلامي غير بعيد عن حدود المعرفة البشرية.
ولقد تعززت هذه السلطة كذلك نتيجة لكون تطور العلوم الفقهية قد تم بالموازاة مع التطور الذي عرفته العلوم الطبيعية: الرياضيات والفلك والطب والكيمياء... في سيرورة بدأت عند القرن الثاني الهجري وهو العصر الذهبي للإنتاج المعرفي الإسلامي: حيث تم إنشاء بيت الحكمة وعرفت حركة الترجمة والتأليف ثورة غير مسبوقة، هي التي مهدت لكل الإنجازات التي جاءت بعدها، وعلى سبيل المثال : في هذه الفترة برز في المجال الفقهي جامع الحديث "أبو محمد البخاري" والإمام "مالك بن أنس " ،كما وبالمقابل اشتهر علماء آخرون كالخوارزمي في الرياضيات أو الكندي في الفيزياء، وفي أحيان كثيرة، يبرع ذات العالم في عدة مجالات قد تشمل الفقه والعلوم الطبيعية. الشيء الذي جعل العلوم الشرعية والعلوم الطبيعية يبدوان في نظر العامة مصطلحين مترادفين.
لقد أولى الحكام المسلمون اهتماما كبيرا بالعلم وبالعلماء، وهو أمر دأب عليه جميع القياصرة والقادة في العالم القديم، نظرا لحاجة كل حاكم، لأطباء ومهندسين وعلماء رياضيات وفلك من أجل علاج الأمراض وتشييد الحصون ورسم الخرائط وتوجيه الأساطيل والقوافل وغيرها من الخدمات المفيدة، والتي لا يستطيع تقديمها إلا ندرة من الناس في تلك الحقبة.
وعلى ذات المنوال فإن كل دولة تحتاج لمفكرين ومنظرين يؤسسون لإيديولوجية مهيمنة، تمنح الشرعية للحاكم و تسمح بضبط العامة. وقد قرب الحكام المسلمون بدورهم علماء الدين وعلماء الكلام من البلاط، وقدموا لهم الدعم المادي وظروف الاشتغال والحظوة الاجتماعية نظير إسدائهم الخدمات المنتظرة وفي الحدود المسموح بها، في حين أن كل خروج عن الإطار المحدد يعد مغامرة قد تؤدي بصاحبها إلى السجن، كما حدث مع ابن حنبل، أو على الأقل قد تعرضه للتهميش كما حدث مع الكندي حين تولي الخليفة العباسي "المتوكل على الله" المتعاطف مع الفكر الأشعري، بعد فترة حظي فيها بدعم المأمون والمعتصم اللذين كانا يميلان للفكر المعتزلي.
بناء على ما تقدم، يتضح أن مصطلحي العلم والعلماء في العالم الإسلامي يحيلان على مجالين رئيسيين هما:مجال العلوم الشرعية ومجال العلوم الطبيعية، وأن قوة المناهج الفقهية ومجاورتها للعلوم الطبيعية وتفاعلها معها في إطار المجتمع المعرفي الإسلامي أضفيا على هذه العلوم صفة التماسك المنهجي ومنح لعلماء الفقه والقرآن والحديث والسنة صفة الخبراء الذين يتم الرجوع إليهم لأخذ المعرفة والحكمة والدين، خصوصا في غياب الاختصاص وموسوعية علماء هذا العصر، والذين غالبا ما يكونون في ذات الوقت: أطباء ومهندسين وفلاسفة وفقهاء.
هذا التشابك بين عالم الفقه وعالم الرياضيات والفيزيائي والفيلسوف خلق في الذهنية الإسلامية تمثلا عن العلم يختلف عن الفهم المعاصر له، غير أنه لازال حاضرا في العقلية الجماعية لمجتمعاتنا، ومازال يشكل عائقا أمام تطور الدول الإسلامية عموما، وتلك المحسوبة على الحضارة العربية بشكل خاص..
فما هو العلم في معناه الكوني إذن؟ وما الذي يميزه ويمنح القوة لنتائجه؟ وهل يستقيم إلحاق العلوم الشرعية بالعلم بمفهومه المعاصر؟ (يتبع)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي: عدد اليهود في العالم اليوم


.. أسامة بن لادن.. 13 عاما على مقتله




.. حديث السوشال | من بينها المسجد النبوي.. سيول شديدة تضرب مناط


.. 102-Al-Baqarah




.. 103-Al-Baqarah