الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل يستوي الأعمي والبصير؟؟!!

محمد أبو قمر

2020 / 5 / 31
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


يمكن يكون من ضمن أسباب تردي أوضاعنا الاجتماعية والأخلاقية والثقافية والعلمية عدم وضوح معاني بعض المصطلحات والمسميات والأوصاف الشائعة والتي لها صلة مباشرة أو غير مباشرة بحياة الناس ، فضلا عن تشوش معانيها واختلاطها بمسائل أخري لا تمت لأصلها بصلة ، الأمر الذي يجعلنا مثلا نخلط بين النقد وهو علم وبين الهجاء الذي لا صلة له بأي علم ، وبالتالي نساوي تلقائيا بين الناقد والشتّام ، وهكذا تتوه منّا الحقائق وتتشوه معارفنا.
ولنأخذ مثلا مصطلح الخبير ، فالخبير في المعاجم العربية هو من خبر الشيء ، أي علم الشيء وعرف حقيقته معرفة فائقة ووقف علي أسرار تكوينه ، لكنك تلاحظ أن كلمة خبير في مصر وربما في المنطقة العربية كلها هي مجرد وظيفة ، منصب ، وقد لا يكون لصاحب هذه الوظيفة أو هذا المنصب أي صلة بالشيء المفروض أن يكون خبيرا بشأنه، مجرد أنه ترقي في السلم الوظيفي إلي درجة خبير ، لكنه لا خبير ولا نيله ، والنتيجة هي أن معظم القضايا والمشاكل والمسائل التي تحتاج إلي خبير للفصل فيها قد لا تنتهي نهاية عادلة ، وإذا انتهت نهاية عادلة فإن ذلك يكون بالمصادفة وليس لأن الخبير كان خبيرا بالفعل.
هذا الخلط ، وهذا التشوش يفسد حياة الناس ، فعلا تفسد حياة الناس ، فلا تستهين بوصف لا ينطبق تمام الانطباق علي الموصوف ، فإن تأثير ذلك علي المجتمع في العموم بالغ السوء إذ يخلق عداوات بين الناس ، ويفقد البعض ثقته في النظام القانوني والقضائي ، وقد يتطور ذلك إلي كراهية للنظام السياسي في مجمله ، ومن ثم ينشأ التناقض بين بعض الناس والدولة حيث تكون الكلمة الفاصلة في حقوق الناس وفي مسائل وقضايا كثيرة ومتنوعة في عهدة جاهل بالشيء لا يعرف حقائقه ولا يدرك أسراره ، وقد كنت أنا شخصيا شاهدا في قضية وقّع أحد أطرافها أمامي إيصال أمانة بمبلغ كبير جدا كضمان لدين عليه لأحد الأصدقاء ، وعندما تعقدت الأمور بينه وبين الدائن وذهبت القضية إلي المحاكم أنكر المدين أن التوقيع توقيعه ، فأحيل الإيصال إلي خبير ليدلي برأيه فيما إذا كان التوقيع لهذا الرجل أم لا ، والغريب أن خبيرين مختلفين أفتيا علي التوالي بعدم صحة التوقيع وضاعت حقوق الدائن المسكين .
أخطر مصطلح أو توصيف يمثل خدعة ثقافية وعلمية وفكرية وأخلاقية ويؤدي بل أدي إلي انحطاط معارفنا وغياب وعينا بأنفسنا وبالزمن وبالحضارة الإنسانية هو مصطلح ( عالم ) ( بفتح العين وكسر اللام ) ، وجمعه ( عُلماء ) ، واستخدام هذا التوصيف في مصر يمثل إهانة بالغة للعلم واحتقارا للشعب ، فعلي سبيل المثال حين يعتبر أحد سمكرية السيارات نفسه مهندسا فإنه بذلك يهين الهندسة ويحتقر عملاءه ، والأكثر مأساوية هو أن الناس سوف يساوون بين المهندس والسمكري وحينذاك يخبو دور الهندسة أو تختلط الهندسة في أذهان الناس بالسمكرة وتسود في المجتمع مهنة مشوهة لا هي هندسة ولا هي سمكرة ، ولك أن تتخيل في هذه الحالة مدي تأثير ذلك علي مفاهيم الناس وعلي حياتهم وعلي مصالحهم.
إن إسباغ وصف العالم علي من لا يستحقون هذا اللقب في مصر يمثل كارثة لا مثيل لها علي وعي المصريين ، إذ في هذه الحالة يختلط العلم بالدجل ، وبالاحتيال ، وبالنصب ، فيضيع العالم الحقيقي ، وتتوه سيرته ، وتتلاشي إنجازاته وسط بروز سيرة النصابين والدجالين وأباطرة الخرافة ، وهذا هو بالضبط المعني الحقيقي لانحطاط الواقع الثقافي وتفسخ المعارف وتدني درجة الوعي .
المؤمن بضرورة تغيير وتطوير المعارف والانجازات التي سبقته غير المؤمن بضرورة الحفاظ علي المعارف التي أُنتجت في الماضي .
الأول إذا واجهته معضلة يخلق أو قل يبدع حلا جديدا لها لم يكن موجودا من قبل .
أما الثاني إذا ما واجهته معضلة فإنه يفتح الكتب القديمة ليبحث فيها عن حل .
الفرق بين الاثنين هو أن الأول يستخدم عقله ، أما الثاني فهو ينكر عقله ويحتقر عقول الناس الذين وثقوا في قدرته علي إبداع حلول عصرية لمعضلات حياتهم إذ كل ما يفعله لهم هو البحث عن الحلول في عقل من سبقوه ويسمي عملية البحث البليدة هذه علما....
الأول عالم ، والعلماء من هذا النوع المبدع العبقري المتشوق دائما لتغيير أنماط الحياة إلي الأفضل ليسوا كثيرين ، وتستطيع أن تحصيهم بعدد المرات التي تغيرت فيها الدنيا في كل مجال من مجالات العلم باختراعاتهم وإبدعاتهم واكتشافاتهم ، فأديسون مثلا غير العالم باختراعاته في مجال الكهرباء ، والعالم بعد نيوتن لم يكن ذاته قبل نيوتن ، كذلك جالليو ، ونيكولا تسلا ، وقد أحدث انريكو فيرمي نقلة نوعية هائلة للعالم باختراعاته في مجال الطاقة النووية.
أما الثاني الذي لا يفعل في حياته سوي حفظ المتون القديمة فهو مجرد حارس للتراث الذي ورثه عمن سبقوه ، وكل ما يبذله من جهد هو مجرد أن يبحث في هذا التراث عن إجابة لأي سؤال يوجه إليه.
الأول يطور العالم ، يغير المفاهيم ، ينتج معارف جديدة ، يُحدث انقلابات إيجابية في وعي الناس ، يجعل الحياة أكثر سهولة ، أكثر سرعة ، أكثر بهجة ، تنعكس إبداعاته علي حياة الناس فيتطوروا إنسانيا وأخلاقيا .
الثاني يُجمد العالم ، يُثبته ، يُوقف حركة التاريخ ، لا ينتج أي معرفة جديدة ، ينحدر بوعي الناس انحدار بائسا ، ينفي الحاضر ويسير بالناس عكس اتجاه الزمن فتتشوه حتي قيمهم الأخلاقية.......
كثيرون في مصر يوصفون بأنهم علماء ، كثيرون جدا يسمون أنفسهم علماء لكن كل شيء من حولهم يتغير إلي الأسوأ ، ولا يفعلون لنا سوي أن يأخذوننا إلي الماضي ، يعبئون به أرواحنا حتي صرنا لا نعرف من نحن.
في مصر هيئة يطلقون عليها اسم هيئة كبار العلماء ، معني ذلك أن هناك علماء صغار سوف يصبحون كبارا فيما بعد ، وأنا لا أعرف هل تعني عبارة كبار العلماء أنهم كبار في السن أم أنهم أنجزوا إنجازات كبيرة ، ما أعرفه هو أن العالم هو من يعلم كيف يغير العالم سواء كان صغيرا أم كبيرا، ولا أعرف عالما في هذا العالم اقتصر علمه علي حفظ متون من سبقوه.
إن مسألة اغتصاب الأوصاف ليست مسألة بريئة أبدا ، ولا يمكننا الاستهانة بتأثيرها السلبي علي أوضاعنا الثقافية والحضارية والأخلاقية ، فهل يمكنك أن تساوي بين تأثير ابن تيمية علي حياة الناس وعلي سلوكياتهم وعلي مفاهيمهم وبين تأثير جالليو مثلا علي الدنيا كلها؟؟، وهل يمكنك المساواة بين تأثير مؤلفات أحد أعضاء هيئة كبار العلماء في مصر وبين تأثير مؤلفات ابن خلدون؟؟!!.
الخلاصة هي أن اغتصاب الأوصاف والألقاب هو واحد من أهم أسباب تردي أحوالنا الثقافية والعلمية والفكرية ، واحد من أهم أسباب ذلك التيه الحضاري الذي الذي فقدنا فيه معرفة إلي أي اتجاه نحن نسير.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. طلاب يهود في جامعة كولومبيا ينفون تعرضهم لمضايقات من المحتجي


.. كاتدرائية واشنطن تكرم عمال الإغاثة السبعة القتلى من منظمة ال




.. محللون إسرائيليون: العصر الذهبي ليهود الولايات المتحدة الأمر


.. تعليق ساخر من باسم يوسف على تظاهرات الطلاب الغاضبة في الولاي




.. إسرائيل تقرر إدخال 70 ألف عامل فلسطيني عبر مرحلتين بعد عيد ا