الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
التناشز الاجتماعي والسياسي والمعرفي في العراق
سلمان رشيد محمد الهلالي
2020 / 5 / 31الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
التناشز : وتعني في العربية ما ارتفع وظهر من الارض او خرج عن المعتاد او القواعد او الالحان اي هو الشيء الذي لايكون في مستوى غيره . والتناشز هو الترجمة العربية لمصطلح dissonance والتي تاتي ايضا تحت صيغة التنافر او التباين وغيرها . وهو من اهم المصطلحات الرائجة في علم النفس او علم الاجتماع وفروعهما الاخرى , ويعبر عن حالة التحولات السريعة في الانظمة المعرفية والسياسية التي ميزت الانسان الحديث والمعاصر . واغلب البلدان والمجتمعات عانت من التناشز المتعدد في حياتها المعاصرة ,. واصطلاح التناشز يرجع الى مفهوم "التناشز الاجتماعي" المستلهم من مفهوم الفجوة الحضارية أو الفجوة الثقافية (Cultural Lag) الذي اطلقه عالم الاجتماع الاميركي وليم اوغبرن (William Ogburn) (1886-1959) ، في كتابه "التغير الاجتماعي" (Social change) الصادر في عام 1922، وعبر عنه بشكل خاص عن الفكرة التي تربط بين التغير التكنولوجي والتغير الاجتماعي/ الثقافي، والقائلة بان التقدم السريع الذي يحصل في مجالات الحياة المادية أو اليومية بفضل الاستفادة من منجزات التقدم العلمي واستخدام الاكتشافات التقنية الحديثة والاكثر تطوراً في وسائل واساليب تلبية الاحتياجات ، لا يصاحبه تقدم عامٌ موازٍ في الأفكار والقيم والاخلاق الاجتماعية والممارسات السلوكية والمعاني الثقافية والروحية . بمعنى ان العالم اوغبرن يقصد بهذا المصطلح ظاهرة اجتماعية تلاحظ في كل مجتمع يعاني من التغير، فمن طبيعة التغير الاجتماعي ان اجزاء المجتمع لا تتغير كلها على وتيرة واحدة او بسرعة واحدة , فمنها ما يتغير بسرعة كبيرة ومنها ما يتغير ببطء. وهذا التفاوت في سرعة التغير يؤدي الى ظهور بعض المشكلات في المجتمع . وعندنا في العراق ثلاث انواع من التناشزات التي يعاني منها الفرد والمجتمع على حد سواء , وهى التناشز الاجتماعي والسياسي والمعرفي , وكلها وفدت مع رياح التغيير الحضاري في القرن العشرين التي توافقت مع الاحتلال البريطاني للبلاد وتاسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921 . بمعنى ان معاناة العراقيين من التناشز في العهد العثماني كانت قليلة جدا – ان لم تكن منعدمة – لانه كان يعيش على وتيرة واحدة من التخلف والثبات في القيم الاجتماعية والنفسية والسياسية , الا انه ظهر مع مراحل التطور السياسي والثقافي والاجتماعي في البلاد . ويمكن عرض هذه التناشزات وتطورها المعرفي بحسب الترتيب الاتي :
اولا : التناشز الاجتماعي : استعار الدكتور الوردي مفهوم (التناشز الاجتماعي) من العالم الامريكي وليم اوغبرن , واعتبره احدى الفرضيات الثلاث التي تفسر الشخصية والمجتمع العراقي مع (صراع البداوة والحضارة) و(ازدواجية الشخصية) وذكر هذا المفهوم عام 1965 في كتابه (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي) . مؤكد (ان هذه الفرضيات الثلاث ليست من بنات افكاري وانما اقتبستها من بعض علماء الاجتماع بعد تطويرها لكي تلائم المجتمع العراقي) .
ذكر الدكتور الوردي (إن التناشز الاجتماعي يرادف كل تغير يقع في المجتمع , وكلما كان التغيير اكبر و أسرع كان التناشز الاجتماعي اشد و أكثر تنوعاً . وسبب التناشز إن عناصر التراث الاجتماعي لا تتغير كلها على وتيرة واحدة أو بسرعة واحدة ,فمنها ما يتغير بسرعة وعلى درجات متفاوتة , ومنها مايتميز بالبطء الشديد , وهذا يؤدي إلى ظهور بعض المشاكل الاجتماعية). مؤكدا ايضا (ان من طبيعة التغيير السريع انه لا يؤثر في جميع أجزاء الكيان الاجتماعي بدرجة واحدة فكثيراً ما يكون هناك جزءان مترابطان ثم يحدث التغيير في احدهما دون الأخر فيؤدي ذلك الى صراع أو توتر أو تناقض بينهما). واعتبر الوردي هذا التناشز (من اخطر المظاهر التي لحقت بالمجتمع العراقي بسبب دخول الحضارة الغربية حيث ان التناشز يبدا مع الاصطدام بقيم الحضارة الغربية وبين ما (اعتدناه) عبر عهود الانحطاط والتخلف من انماط فكرية وسلوكية تعارض هذه القيم الدخيلة والجديدة) . ويشرح الوردي مفهوم (التناشز الاجتماعي ) ويقارنه بما يحصل في اوربا بقوله : (يجب ان لا ننسى ان الحضارة هي عادات ونظم اجتماعية ، قبل ان تكون افكارا ومحفوظات ، فالفرد في البلاد الراقية حضاريا ينشأ في حياته البيتية على عادات تلائم الحضارة التي يعيش فيها ، فلهذا فهو اذا كبر لا يجد فرقاً كبيراً بين حياته الاولى في طفولته وبين حياته الثانية في كبره ، اما الفرد عندنا فهو قد ينشأ في بيئة محلية مفعمة بقيم العصبية ، حتى اذا كبر تعلم افكارا مناقضة لتلك القيم ، وهو بذلك قد يجد نفسه مضطراً ان يجاري هذه تارةً وتلك تارةً اخرى) . كما بين الوردي (ان هذه الفرضية اقتبسها من (اوكبرن) وكان الاحرى ان اسميها (التناشز الثقافي) ولكن الذي منعني ان مصطلح (الثقافة) في اللغة العربية مازال موضع اخذ ورد ولم تتفق عليه الاراء بعد .فالمجمع اللغوي المصري قرر ان تكون (الثقافة) ترجمة للمصطلح العلمي الشائع Culture ولكن بعض كتابنا ومؤلفينا يصرون على ترجمة هذا المصطلح العلمي الى (حضارة) بينما هناك اخرون يصرون على ان الحضارة تعني المدنية) . وقد عرض الوردي العديد من الأمثلة في المجتمع العراقي حول ظاهرة التناشز منها :
1 . الاب وعلاقته مع ابنته : ( ان الاب يسمح لابنته ان تدخل المدرسة ثم تتعين في وظيفة خارج البيت , ولكنه في الوقت نفسه يريد منها ان تكون مثل أمها لا تعرف من دنياها سوى الطاعة والخضوع على طريقة (خايب يا گلبي) و اذا علم ان ابنته وقعت في الغرام انتفض غاضباً يريد ان يغسل عن نفسه و أسرته العار الذي لحق به) .
2 . العلاقة بين الرجل والمراة : ان الرجل العربي في تعامله مع المرأة قد يتقمص شخصيتين مختلفتين احداهما حديثة والاخرى قديمة . فهو يتحدث الى المرأة ويغازلها على نحو ما يفعل الرجل الأوربي مع المرأة . وهذا السلوك تاثر به من الافلام الاجنبية والعربية التي تروج للحب والغرام , ولكنه عندما يريد الزواج تنتفض القيم القديمة في اعماقه ويحاول البحث عن امرأة لا تعرف الغزل والغرام. وقال (اني وصفت الرجل العراقي في مناسبة سابقة بأنه (دون جوان) تارة و (حاج عليوي) تارة اخرى) .
3 . عدم مجاراة رجال الدين للتغير الفكري الذي حصل في العصر الحديث : فالشيوخ ورجال الدين والخطباء يعرضون مفاهيم وتصورات مثالية عن الحياة والمجتمع . فيما ان الواقع الذي يعيشه الانسان - والذي يضطر للتعامل معه يوميا - يختلف كليا عن تلك التصورات المثالية , فيعيش الانسان بسبب ذلك الازدواجية والتناشز باجلى مظاهرها .
4 . التناشز الذي يحصل بين مهنة الاباء وبين الوظائف الحديثة : فقد اكد الوردي ان الفرد في العهد العثماني كان يمتهن مهنة والده , الا ان تطلعات الشباب نحو الوظائف الحكومية (والرغبة بنيل المعالي والرقي) جعلهم يرتادون المدارس الرسمية , ولما كانت اعداد الخريجين تفوق امكانية الدولة في استيعابهم , بسبب وجود الفائض والاعداد الكبيرة منهم , فواجهوا صعوبة في العودة لمهنة الاباء والابتعاد عن طموح الوظيفة .
لقد اكد الوردي ان سبب التناشز الاجتماعي في العراق هو ان الحضارة الحديثة جاءت الينا بافكار ومفاهيم ومبادىء المساواة والعدالة والحرية والديمقراطية والوطنية , فيما هى تختلف عن القيم الاجتماعية البدوية وتتناقض مع العادات الاجتماعية التي نشانا عليها في محلاتنا ومدننا مثل الدخالة وحق الزاد والملح والثار والنهوة والنخوة والضيافة وغسل العار والواسطة وغيرها . وان هذه الافكار الحديثة جاءت الينا من المدارس والصحف والاذاعات والاحزاب والكتب , وحفظناها بسرعة لانها تلائم مانشعر به من طموح او نتحسس به من معاناة , ولكن حين فعلنا ذلك لم نستطع ان نغير عاداتنا الاجتماعية التي نشانا عليها بمثل السرعة التي غيرنا بها افكارنا .
والمفارقة ان الدكتور الوردي اكد ان للتناشز الاجتماعي في العراق جذور ترجع حتى للعهد العثماني , وهى التناقض بين القيم البدوية والسلوكيات الريفية . فقد اكد ان القيم البدوية السائدة في الصحراء تلائم حياة البداوة والترحال , غير انها لاتلائم حياة الزراعة والاستقرار . ومشكلة القبائل البدوية انها بعد استقرارها في السهل الرسوبي في جنوب العراق واحترافها الزراعة , تبقى محافظة على قيمها البدوية بالرغم من تغير ظروفها , وهذا سبب ظهور التناشز الاجتماعي فيها .
ثانيا : التناشز السياسي : المفارقة ان اول من اشار الى مفهوم التناشز السياسي في العراق هو الدكتور علي الوردي نفسه دون الاشارة الى المصطلح . ويبدو انه اعتبر هذه السلوكيات المتناشزة عند العراقيين هى من سمات الحقل الاجتماعي - او على الاقل انعكاس للواقع الاجتماعي المضطرب عند العراقيين - وليس ضمن الحقل السياسي وقد اشار الوردي الى هذا المفهوم مرات عدة منها :
1 . اكد الوردي ان عقول الناس قد تغيرت اسرع مما تغيرت به طبيعة الحكام بعد مجىء الحكومة الوطنية , فاصبح المواطن لايكتفي بانتقاد الحكومة على اعمالها الخاصة , بل يرى ان لها يدا في الكوارث الطبيعية .
2 . انتقد الوردي العهد الملكي بالقول (ان الحكومة تفرض التجنيد الاجباري على رعيتها ثم لاتسمح لهم بالانتخاب المباشر . فهى تريد ان تدرب الفرد العراقي ان يكون جنديا رغم انفه , ولاتريد ان تدربه على ان يكون موطنا صالحا وعضوا فاعلا في بناء اجهزة الدولة . ومما لاشك فيه ان الانتخاب المباشر هو من اهم العوامل التي تساعد على تقليص الثغرة بين الشعب والحكومة . والواقع ان الضمير لم يتوحد في اية امة من امم هذا العصر , الا بعد ان احس الشعب احساسا لا التباس فيه بانه ينتخب رجال حكومته بنفسه انتخابا . ولاريب بان شر ماتبتلي به امة من الامم ان يكون لها ضميران : ضمير لحكامها وضمير لافراد شعبها) .
3 . من صور التناشز السياسي ايضا ماذكره الوردي ان الوعي السياسي عند العراقيين متقدم عن وعيه الاجتماعي . فهو يطالب الحكومة بالحقوق المثالية والعادلة دون القيام باي من الواجبات الملقاة عليه , مؤكدا ان العراقي يريد من حكومته ان تكون مثل حكومة السويد بخدماتها ورقيها , ولكنه يتصرف مع الدولة مثلما كان يتصرف والده مع الدولة العثمانية , فيقع التناشز بين المطلوب من الحكومة والسلوك العام للفرد .
اما اول من تناول التناشز السياسي كموضوع مستقل في دراسة خاصة فهو الكاتب الدكتور سليم الوردي الذي نشره في جريدة الصباح عام 2007 بعنوان (الدولة العراقية .. زيجة متناشزة) , استعرض فيه مظاهر التناشز في مشروع الدولة العراقية الحديثة ضمن عمرها الاول (1921 – 2003) ضمن المحطات الاتية :
1 . التناشز بين اول دستور عراقي خلال العهد الملكي عام 1925 - والمستوحي من الدساتير الغربية الليبرالية من جانب - وحاضنته الاجتماعية التي لم تكن مؤهلة تاريخيا لرعايته وتلبية متطلبات مضامينه المدنية من جانب اخر .
2 . في الوقت الذي كان لايتجاوز نسبة اعداد ابناء المدن في العراق حتى عام 1930 مايقارب 25% مقابل 75% من ابناء الريف (العشائر والبدو) , جاء الدستور العراقي وفق مقاسات ربع المجتمع العراقي انذاك , والدليل على ذلك ان القطاع الاعظم من العراقيين يخضع في حل منازعاته لاحكام قانون دعاوى العشائر المدنية والجزائية لسنة 1918 والذي الغى بعد ثورة تموز 1958 .
3 . تهدف المضامين الليبرالية للدستور العراقي الملكي دفع العراقيين الى شاطىء المجتمع المدني , فيما كانت عوامل التشظي الموروثة عن العهد العثماني تجره الى قاع العصبوية تحت تاثير ثقافة العشيرة والطائفة والمحلة .
4 . الطائفية السياسية في العراق احدى اهم سمات التناشز في الدولة العراقية مع دستورها المدني , علما ان سليم الوردي يرفض مصطلح الطائفية , ويشير بدلا عنها الى مفهوم (العصبوية) - اي العصبة - التي تحكم ضمن مرحلة معينة وفترة زمنية محددة سواء اكانت قبلية او مناطقية او عسكرية او مذهبية .
فيما يعد الكاتب اياد الزهيري اول من ذكر مصطلح التناشز السياسي في مقال نشره في موقع الحوار المتمدن عام 2017 بعنوان (التناشز السياسي في المجتمع العراقي) ذكر فيه : ان الفكرة المثالية لحكم الامام علي خلقت نوعا من التناشز السياسي عند اتباعه .... ... وان انضمام الكثير من اهل الجنوب للحزب الشيوعي هو بسبب رؤيتهم للتناقض بين الواقع المزري والمثال الاعلى الذي يشكله الامام علي وخاصة في مدينة النجف الاشرف . كما اعتبر حكم البعث الاستبدادي في العراق قد ساهم في استعار نار التناشز السياسي والاجتماعي في الساحة العراقية . وقد ختم الزهيري مقاله بالقول (عندما يكون الجو السياسي مفعم باالتناقضات , سيكون جوآ مثاليآ لتولد تناشزات جديده تربك الشارع العراقي و تجعله على حافة الهاويه , وهذا ما يجعل التفكير بتقليص حدة التناشز السياسي أمرآ حتميآ , يكون فيه للجمهور بالأنظمه الديمقراطيه الثقل الأكبر بنزع هذا الفتيل , بأبعاد كل شخصيه يشم منها رائحة الطائفيه عبر صناديق الأقتراع . كما يجب تبني كل المشاريع التي توحد الروئ في كل ما يتعرض له البلد من أزمات) .
وقد ادرجت في دراستي (الدوافع الايديولوجية والسياسية والذاتية في الهجوم على الدكتور علي الوردي (القسم الرابع والاخير) المنشورة في موقع الحوار المتمدن عام 2018 التناشز الاجتماعي والسياسي في الدولة العراقية بالقول : (والمفارقة ان الدولة العراقية الحديثة التي تاسست عام 1921 قد عانت من نوعين من (التناشز) :
الاول : ويبدا من تاسيس الدولة عام 1921 وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 . اذ كان (التناشز) منحصرا بين الدولة ومؤسساتها السياسية والدستورية والادارية المتقدمة , والمجتمع كان يعاني من التخلف والتاخر الحضاري بسبب السيطرة العثمانية الطويلة اولا , وهيمنة القيم البدوية والريفية على المجتمع ثانيا . واعتقد ان اول من اشار الى هذه الظاهرة المستر (ليوبيل سميث) مفتش المعارف العام في العراق في مقدمة مذكرته المرسلة الى رئيس الديوان الملكي عام 1924 بقوله (ان العراق المعاصر يواجه امرين رئيسين : فهو بلد متخلف اقتصاديا واجتماعيا , ولكن من جهة اخرى حكومته عصرية نيابية) . واشار الى هذه الظاهرة تفصيلا الدكتور سليم الوردي في دراساته في جريدة الصباح البغدادية عام 2007 بعنوان (الدولة العراقية .. زيجة متناشزة). ويبدو ان هذا المعنى قريب لما ذكره الشاعر الرصافي تهكما وسخرية (ان ولادة الدولة العراقية الجديدة كانت من ام عثمانية , عجوز ومريضة . واما القابلة فكانت بريطانية , التي لايربطها بالوليد شي غير تربيته بالشكل الذي يجعله خادما او عبدا) .
الثاني : (وهو التناشز الذي ذكره الوردي) . ويبدا من نهاية الحرب العالمية الثانية وتوافد الايديولوجيات الثورية والنضالية وحتى الان من عام 2018 . اذ حصل تحول في (التناشز) ليس بين الدولة والمجتمع - كما هو السائد سابقا - وانما بين الوعي السياسي الذي تقدم كثيرا بعد الحرب العالمية الثانية عند الانتلجنسيا العراقية وبين قيمه الاجتماعية التي مازالت تعيش البدائية والتاخر بصورة كبيرة جدا . وقد اكدها الوردي بالقول في كتابه (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي) (يمكن القول بوجه عام ان العراقيين في مرحلتهم الراهنة قد تعلموا افكارا هى ارفع جدا من مستوى ظروفهم وقيمهم الاجتماعية . اذ طفروا بافكارهم طفرة واسعة الى الامام مع العلم ان المجتمع الذي يعيشون فيه لايستطيع ان يسايرهم في طفرتهم . فالتطور الاجتماعي بطبيعته بطىء متدرج) . اي ان المجتمع العراقي ونخبه الثقافية والسياسية والحزبية اخذت تطالب الدولة بتقليد ارقى الانظمة الاوربية المتقدمة وتطبيق ارقى الخدمات والحقوق والسلوكيات العصرية واعلى درجات الشفافية والنزاهة والعدالة , فيما انه من جانب اخر يعيش اسوء درجات التخلف والفساد والاستئثار والتسيب والاستحواذ والرشوة والمحسوبية , وهيمنة الانماط القبلية والعائلية والطائفية والعنصرية والمناطقية وادراجها في نسيج الدولة والحكومة . وقد فضحهم الدكتور الوردي بقوله (انهم جميعا ينادون بمبادىء العدالة والمساواة واحترام القانون , ولكنهم ينادون بها في الخطب والهتافات وفي مجال الانتقاد والمعارضة فقط . اما حين تكون لهم حاجة في دوائر الدولة فانهم ينسون تلك المبادىء وياخذون بتمجيد قيم الشهامة والمروءة . انهم يشجبون الواسطة حين يرون من قد استفاد منها , وهم يمدحونها حين تكون حاجتهم قائمة عليها . انهم مزدوجون , ولايخفى ان صاحب المنصب الذي يلجأون اليه في وساطاتهم مضطر ان يكون مزدوجا مثلهم) . ان ابلغ دليل على صحة اراء الوردي بشان التناشز الاجتماعي والسياسي هو هيمنة البنى البدائية والتقليدية على الدولة والمجتمع وتحكمها في المشهد السياسي العراق منذ تاسيس الدولة العراقية عام 1921 وحتى سقوطها عام 2003 , فالاستئثار والقبلية والمناطقية والاقطاعية هى البنى الفاعلة في العهد الملكي (1921- 1958) فيما يكون الاستبداد والطائفية والعنصرية هى الركائز الاساسية في العهد الجمهوري (1958-2003) (انتهى) .
ثالثا : التناشز المعرفي (Cognitive dissonance) : هو احدى المصطلحات النفسية والاجتماعية الغربية الوافدة للعراق , واول من ذكره هو عالم الاجتماع الامريكي ليون فستنغر (Leon Festinger)(1919-1989) في كتابه (نظرية التنافر المعرفي),وقد ترجمه الاغلبية من المختصين العرب بصيغة (التنافر المعرفي) وليس التناشز - وخاصة في الوكيبيديا - ويبدو ان الدكتور عبد الغفار القيسي الاستاذ في كلية الاداب – جامعة بغداد هو من ترجم التنافر بمعنى التناشز تقليدا لمصطلح التناشز الشهير عند الدكتور علي الوردي , وذلك في بحثه الخاص (التناشز المعرفي) المنشور في الانترنت عام 2019 . وقصد (فستنغر) بالتنافر او التناشز المعرفي بان (الإنسان عندما يقع تحت تأثير أفكار متنافرة، فإنه يتولد داخله نوع من التوتر من شأنه إحداث تغيير لإزالة هذا التنافر والعودة بالشخص مرة أخرى إلى حالة التوازن والتآلف المعرفي .وهذا التغيير يعبر عن نفسه في صورة تعديل في افكار الشخص أو حتى في سلوكه أو في عنصر أو أكثر من عناصره المعرفية التي يحملها، وقد يلجأ الشخص إلى التقليل من أهمية الأفكار المتضاربة في نظر نفسه، كل هذا لإزالة حالة التوتر أو التقليل منها ). اي ان التناشز او التنافر المعرفي هى (حالة التوتر او الاجهاد العقلي وعدم الراحة التي يعاني منها الفرد الذي يتبنى اثنين او اكثر من المعتقدات او الافكار او القيم المتناقضة في نفس الوقت . او يقوم بسلوك يتناقض ومعتقداته وافكاره وقيمه او يواجه معلومات جديدة تتعارض مع المعتقدات والافكار والقيم الموجودة لديه) .
والتناشز المعرفي عند العراقيين هو ان البناء المعرفي والفكري عند الانتلجنسيا العراقية لم يكن على وتيرة واحدة من الوعي والادراك والسلوك . فنجد ان هناك تقدما في بعض المفاهيم والتصورات والمقولات المعرفية وهناك تاخر واختلال كبير في موضع اخر . وهذا الامر نجده بصورة ظاهرة عند الاكاديميين الجامعيين والمثقفين والادباء والكتاب الذين يختصون بمجال معين من الثقافة والعلوم والادب , حيث المعرفة الدقيقة بمجال الاختصاص والابداع فيه والتماهي معه , فيما تجد الاختلالات الظاهرة والنواقص والسذاجة والبساطة والشعبوية والعصابية والخطابية في مجال اخر . وقد اكتشفنا هذه الظاهرة من خلال مواقع التواصل الاجتماعي بالفيس بوك والانترنت والصحف والمجلات وغيرها , حيث وجدنا الالاف من الكتاب والاساتذة الجامعيين والادباء العراقيين البارعين في اختصاصهم والمتمرسين بمجالهم المعرفي وهم ينشرون او يعلقون او يكتبون او يدعمون اراء سطحية وشعبوية ومبسطة دون وعي وادراك . وهذا يرجع الى عدم الموسوعية بالثقافة عند اغلب النخب المثقفة والمتعلمة , والقصور في مجاراة الواقع الثقافي وعدم متابعة احدث المعلومات والمناهج والمدارس الفكرية والمعرفية في العالم . فضلا عن ذلك ان البنية النفسية والاجتماعية التقليدية عند اغلب هؤلاء المثقفون تجلعهم ينساقون دون وعي وادراك للتصورات الشعبوية والسوقية والخطابية والمثالية , فتجد مثلا بروفيسور في التاريخ او الجغرافية وهو يشارك منشورا شعبويا وكاذبا لمراهق بعمر حفيده دون تحقيق من صحته او تبعاته الاجتماعية والسياسية .
ولايمكن حصر جميع موارد التناشز المعرفي عند الانتلجنسيا العراقية لان ذلك يحتاج الى دراسة اكاديمية مستقلة , ولكن يمكن ادراج اهمها :
1 . التناشز بين الذات والموضوع : فاغلب المثقفين والمتعلمين والادباء والكتاب في العراق لانجد عندهم ذلك التماهي او الترابط الحقيقي بين ذاته وبين الموضوع الذي ينادي به . فهو مع الدولة والنظام والديمقراطية والتعددية , ولكنه يكتب او ينشر الضد من ذلك , قد تكون لاغراض سياسية وشخصية , ولكن الغالب هو السلوك اللاشعوري .
2 . التناشز في المناهج المعرفية : فالعراقي قد يعرف احدث المناهج الفكرية والجدلية (الديالكتيكية) الهيغلية او اخر الصرعات الابستمولوجية لما بعد الحداثة واعلامها ورموزها وخطابها النظري , الا انه عند الكتابة والتحليل تجده ينزع لاشعوريا نحو التقييم والحكم الثنائي الارسطي التقليدي او البياني والظاهري .
3 . التناشز بين الاخلاق والثقافة : قد يكون من المفترض ان تنعكس الثقافة على سلوك المثقف واخلاقه واعتداله وسموه وترفعه عن الصغائر والكراهية والغل والحقد , الا انه في العراق نجد ربما العكس , فالكثير من المثقفين والكتاب والادباء هم رسل الحقد والموت والغل والسقوط الاخلاقي .
4 . انتقاد الايديولوجيات معرفيا والخضوع لها لاشعوريا : وهو من اهم التناشزات المعرفية الخطيرة في العراق التي تنم عن اختلال منهجي وثقافي كبير . وهو التبني لقيم الديمقراطية والتعددية والليبرالية وحقوق الانسان , فيما يكون الخضوع اللاشعوري لقيم الاشتراكية والمثالية والقومية (العربية والكوردية) والانسياق لخطابها العنصري والاقصائي والتخويني .
5 . عدم تطبيق المعرفة والمناهج الفلسفية والمعرفية الحديثة عمليا والاقتصار على التجريد والنظرية : وهو احدى مظاهر التناشز الفاعلية في العراق , فاغلبية الانتلجنسيا العصرية قد تعرف اخر الموضات الفكرية لما بعد الحداثة - او حتى الفلسفات الغربية الكلاسيكية - ولكن لاتعمل على دراستها وتطبيقها عمليا على الشان العراقي .
6 . عدم الاخذ بالواقع الذاتي والتاريخي والموضوعي : وهو اختلال وتناشز معرفي كبير عن النخب في العراق . فهو ينقد المظاهر ويقدم الحلول ويطرح المقترحات النظرية والمعالجات المثالية دون الاخذ بالواقع الذاتي والتاريخي والموضوعي لكل قضية او اشكالية , والسبب لان جميع افكارهم تخرج من الراس وليس من الواقع .
7 . تاثير الهوية اللاشعوري عليهم وتبعاتها الخطيرة : يتسامى اغلب المثقفين العراقيين عن الهويات المذهبية والاثنية والدينية , ويعتبرونها من عوامل الانقسام والتشظي والانقسام والاحتراب في المجتمع ويدعون الى فضاء الوطنية والكونية والقومية وغيرها , الا ان الاشكال ان الهوية تلقي عليهم تبعاتها اللاشعورية دون وعي او ادراك .
8 . الانبهار بالغرب والخضوع لعصاب الغرب : فالانتلجنسيا العراقية عندها انبهار واع بالغرب وقيمه وحضارته وحريته وازدهاره , ويتسابقون في اللجوء اليه - وخاصة الشيوعيون منهم الهاربون من النظام البعثي - ولكن هناك تناشزا لاشعوريا في الانسياق نحو عصاب الغرب والنيل منه والترويج لنظرية المؤامرة التقليدية عند النخب العراقية .
9 . ينقدون الطائفية وادراجها في الخطاب السياسي ويذكرونها في معرض النقد : وهو طبعا من اهم التناشزات المعرفية عند النخب العراقية . فهم ينقدون الطائفية السياسية وادراج المكونات في الخطاب الثقافي العام , ولكن عندما يصل الى الامر الى الطائفة الشيعية التي يرجع اليها اغلب العراقيين , يكون ذكرها وانتقادها علنا وبالاسم الصريح ودون حرج او تردد .وهذا الامر لايقتصر على المثقفين من اتباع المكونات الاخرى مثل السنة والكورد والمسيحيين , وانما يشمل حتى المثقفين الشيعة – وخاصة المخصيين منهم . وهذا يعني ان هناك تناشزا معرفيا ظاهرا فهم وطنيون في رؤيتهم الى جميع المكونات الاخرى في العراق , ولكن عندما يصل الامر الى الشيعة يتحول المثقفون السنة الى طائفيون والشيعة الى مخصيون .
كما ذكر هذا الاصطلاح الكاتب فارس كمال نظمي في مقاله (سيكولوجية المنطقة الخضراء (تحليل لشخصية السياسي العراقي المُعَولَم) المنشور في موقع الحوار المتمدن عام 2009 بالقول ان ("التناشز المعرفي" Cogniotive Dissonance مفهوم شائع في علم النفس الاجتماعي المعرفي، جرى توظيفه على نطاق واسع لتفسير السلوك الاجتماعي. ويقصد به حالة من التوتر النفسي تنتاب الفرد عندما يجد نفسه مضطراً لتبني اعتقادين متناقضين (متناشزين) في وقت واحد، أو مرغماً على السلوك بإسلوب مخالف لمعتقداته أو قيمه أو مصالحه.) وقد اعتمد الكاتب نظمي تطبيق هذا الاصطلاح على الواقع العراقي بعد 2003 من خلال القول بالتناشز عند الاسلاميين والحكم الديمقراطي والتعددي (لقد تعرض السياسي العراقي ذو الايديولوجيا الدينية في الشهور الأولى من الاحتلال الى تناشز معرفي حاد بين منظومته القيمية التقليدية القائمة على رفض القيم الغربية الديمقراطية المؤمنة بتداول السلطة وعلى حتمية إن الحكم للشريعة الاسلامية وحدها، وبين سلوكه المتعطش للسلطة والمضطر لمجاراة الشعارات الديمقراطية التي سوّقها الاحتلال الأمريكي لتبرير حملته العسكرية الساعية ظاهرياً لأن تكون الحد الفاصل بين حكم مستبد تهاوى وبين نظام سياسي جديد يراد له أن يمسك بأذيال "الديمقراطية الليبرالية" بوصفها الفلسفة السياسية المحرّكة للدولة الامريكية) . في الواقع ان هذا النص يحوي ثلاث من الاختلالات وهى :
1 . ان التناشز في هذا السلوك عند السياسيين الاسلاميين العراقيين بعد السقوط عام 2003 يدخل في خانة التناشز السياسي وليس المعرفي , وهو قريب لما ذكره علي الوردي اولا وقريبه سليم الوردي ثانيا في نقدهما للدولة العراقية خلال العهد الملكي والتناشز الذي تعاني منه .
2 . اراد الكاتب الايحاء ان الحكام في العراق بعد السقوط عام 2003 هم الاسلاميين الشيعة فقط من خلال مثاله عن التناشز الذي ذكره , ولانعرف سبب تركه للامثلة عن الاخرين واهمهم السنة والكورد , وكلنا نعرف انهم اصحاب الدور الفاعل في الحكم وتاسيس النظام السياسي في البلاد وابعد الناس عن الديمقراطية والقيم الليبرالية .
3 . ان المثال الذي ذكره عن التناشز عند الاسلاميين بين خطابهم الديني والسياسي وبين خضوعهم للمارسة الديمقراطية في العراق بعد 2003 قد لايشكل في الاصل تناشزا حقيقيا , لان الاسلاميين في العقد الاخير من القرن العشرين قد تحول خطابهم من الحاكمية الاسلامية الى ولاية الامه على نفسها والدعوة لتطبيق الديمقراطية في البلاد كحل لاشكالية تعدد المكونات والطوائف والاثنيات في العراق اولا والرغبة بحيازة المقبولية الدولية والغربية التي جعلها شرطا للدعم في مواجهة الديكتاتورية البعثية واسقاطها ثانيا .
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. هل تخضع أوروبا للإملاءات الألمانية في ملف اللجوء؟| الأخبار
.. جرجس لشبكتنا عن إرسال -ثاد- لإسرائيل: إدارة بايدن تتوقع الأس
.. شاهد.. كوريا الشمالية تنسف طريقين رئيسيين يربطانها بجارتها ا
.. جيش الاحتلال الإسرائيلي يحاصر عشرات العائلات في شمال قطاع غز
.. لماذا فشلت إسرائيل برصد مسيرة حزب الله؟