الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رحلة حول العالم: النمسا: صعود وسقوط آل هابسبورغ

كلكامش نبيل

2020 / 6 / 4
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


في رحلة استكشاف تاريخ النمسا، اخترتُ فيلم وثائقي من ثلاثة أجزاء بعنوان "إمبراطورية هابسبورغ" من انتاج العام 2009. يتطرق الفيلم لجوانب مهمة من حياة الأسرة المالكة السويسرية الأصل وأثرها في تاريخ النمسا وأوروبا والعالم. شاهدت جزئين من الفيلم فقط.

النسر مزدوج الرأس

يتناول الجزء الأول من الفيلم بعنوان "تحت النسر مزدوج الرأس" بدايات أسرة هابسبورغ وشعارهم "النسر ثنائي الرأس" الذي بدأ مع الرومان فالبيزنطيين ومن ثم الإمبراطورية الرومانية المقدسة. يتحدث الفيلم عن الشرعية الدينية المسيحية التي حكمت من خلالها تلك الإمبراطورية والتاج الذي توارثه الملوك ومسمار يُقال أنه قد استخدم لتثبيت اليد اليمنى ليسوع المسيح على الصليب. يبين كل هذا الأسس الدينية لاكتساب الشرعية في العالم القديم، بل وحتى وقتٍ قريب من تاريخ العالم. يتطرق الفيلم للأصل السويسري للعائلة وصراعها مع الفلاحين السويسريين عند تأسيس البلاد في أواخر القرن الثالث عشر الميلادي واضطرار الأسرة مع نبلائها للانسحاب أمام الفلاحين والنزول بمحاذاة نهر الدانوب وصولاً إلى موقع فيينا الحالي وكيف كانت المدينة صغيرة ونائية على الحدود الشرقية للإمبراطورية الرومانية المقدسة وفي خطر دائم لهجمات الهنغار والعثمانيين.

يتحدث الفيلم عن شخصية الملك ماكسمليان الأول (1459-1519) وقصة زواجه بأميرة بورغوندي ماري، من بلجيكا أو فلاندرز في وقتها. يتم الزفاف الملكي لتوطيد العلاقات بين آل هابسبورغ وبورغوندي في عام 1477 بعد مقتل والد الأميرة في معركة. في بروكسل، يتعلم الملك اللغة الفلمنكية والفرنسية ويروق اتقانه للغات للشعب ويتعرف على موسيقى البوليفونيك – المستمدة من الكورال الكنسي – ويساهم في نقلها إلى النمسا فيما بعد. يتحدث الفيلم عن اعتباره التجار مواطنين أحرار مقابل الأموال التي يمنحونها للدولة ولكنه قام برفع الضرائب لتمويل حروبه ضد فرنسا لاستعادة أراضي كانت خاضعة لأسرة بورغوندي سيطرت عليها فرنسا. يخسر الملك زوجته الحبيبة بعد خمسة أعوام وتحرّض فرنسا الشعب المنزعج من الضرائب على الثورة ويتم حبس ماكسمليان في منزل تاجر ثري لكن دعم والده يصل من فيينا ليحرره ويستعيد البلاد وتصبح رسميا جزء من أراضي هابسبورغ.

يتطرق الفيلم بعد ذلك لاستغلال ديون تايرول ووقف الحرب هناك واجراء اصلاحات مقابل أن يحكمها وكيف أنشأ شرفة بسقف مغطى بالذهب ليصبح رمزًا للمدينة. يتزوج ماكسمليان من الأميرة بيانكا كزوجة ثانية ليضم ميلانو إلى أراضي الأسرة. في عهد ماكسمليان، انتعش الفن وكان هناك رسامين في بلاطه من هولندا والتشيك "بوهيميا" والنمسا وبلجيكا وإسبانيا وغيرها. استخدم الملك تقنيات كل الشعوب التي حكمها لتطوير الدروع ولكنه حافظ على تنوع البلاد اللغوي وأتقن الكثير من تلك اللغات، ولهذا السبب يتطرق الفيلم لقصة برج بابل في العهد القديم التي تحاول تفسير سبب تنوّع اللغات في العالم. كان ماكسمليان كثير السفر – وقام باستعادة فيينا من الهنغاريين – وكان يصطحب المغنيين معه طوال رحلاته ليعزفوا له في الطريق. استمد الملك شرعيته من فكرة كونه حامي الكاثوليكية وكان ملوك الأسرة يتوّجون من قبل البابا.

يظهر الفيلم قبر الملك الرخامي – الذي يحمل قصته منقوشة عليه – في إنزبروك. القبر فخم ومحاط بتماثيل أبرز الشخصيات في حياته ويعلوه تمثال للملك نفسه مصليّا إلى الرب.

الدانوب الأزرق الجميل

يتناول الجزء الثالث من الفيلم بعنوان "الدانوب الأزرق الجميل" – على اسم فالس شهير ليوهان شتراوس نبذة سريعة عن تاريخ الأسرة الحاكمة بدءًا بتوسع الإمبراطورية في عهد ماكسمليان الأول (1459-1519) وكيف وصفت الإمبراطورية في حينها بالإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس بسيطرتها على إسبانيا وأجزاء أخرى بعيدة (مع أن الوصف غير دقيق في نظري) ومن ثم فترة حكم الإمبراطورية ماري تريزا في القرن الثامن عشر وابنتها ماري أنطوانيت ملكة فرنسا وزوجة لويس السادس عشر والتي انتهت حياتها بالإعدام في باريس عام 1793 في أعقاب الثورة الفرنسية. تتأثر الإمبراطورية بعد ذلك بتوسع نابليون وتخسر الكثير من الأراضي وتواجه مشاكل تصاعد المشاعر القومية في أرجاء الإمبراطورية.

يركز الفيلم على فترة حكم فرانز جوزيف حين كانت الامبراطورية محاطة بدول قوية ومتوسعة مثل فرنسا وبروسيا والامبراطورية الروسية ودول ناشئة مثل صربيا التي نالت إستقلالها عن العثمانيين، فضلاً عن مشاكل قومية داخلية أبرزها الثورة الهنغارية عام 1848 ونقمة الهنغار على الإمبراطور ومحاولة اغتياله من قبل ناشط قومي هنغاري. لهذا السبب لم يضع الهنغار – المعتزين بتيجان ملوكهم منذ أكثر من 1000 عام على وصول المجريين من آسيا – تمثال لفرانز جوزيف في البرلمان الهنغاري مع وجود تمثال للإمبراطورة ماري تيريزا. في الوقت ذاته، كانت المشاعر القومية تتعاظم في بودابست وميلانو وبراغ، وجميعها خاضعة للإمبراطورية في وقتها.

يتطرق الفيلم لحياة فرانز جوزيف وزوجته إليزابيث – التي كانت تعيش بعيدة عنه في الغالب – وحبه للصيد وفيلته الفخمة التي تضم قرون 1500 غزال قام بصيدها، وروتينه الذي لا يتبدل ونومه في غرفة بسيطة نوعًا ما رغم بذخ قصوره. يتطرق الفيلم لإنجازات الإمبراطور العمرانية وتوسعة فيينا وبناء الكثير من المباني على الطرز الكلاسيكية الجديدة والقوطية والباروكية، مثل دار الأوبرا الذي اكتمل عام 1869 ومبنى البرلمان بطرازه الكلاسيكي وغيرها من معالم غيرت وجه فيينا. يتطرق الفيلم لدور الصيارفة اليهود في تمويل كل تلك المشاريع فضلاً عن دور الفنان البوهيمي اليهودي غوستاف كليمت في تزيين أغلب تلك الأعمال بلوحاته الرائعة.

أصبحت فيينا في عهد فرانز جوزيف منارة للفنون والموسيقى، وبرز في عهده يوهان شتراوس – المعروف باسم ملك الفالس – وهو الموسيقار المفضل لديّ، وانتشرت حرية الصحافة التي عززت التنوع ببروز صحف تشيكية وهنغارية وبولندية وصربية وغيرها، ومنح اليهود حق امتلاك الأراضي والانخراط في الحياة العامة، وبذلك برزت نخب مثقفة ترتاد مقاهي العاصمة، وكان أغلبهم من اليهود من أمثال عالم النفس سيغموند فرويد والكاتب التشيكي كافكا والموسيقار الشهير غوستاف مالر – المتحول إلى المسيحية - والفنان غوستاف كليمت.

في التعامل مع الأجزاء الإيطالية من الإمبراطورية، عيّن فرانز جوزيف شقيقه ماكسمليان ليحكم تلك الأجزاء ومدّ أول سكة حديد عبر جبال الألب – السكة الآن على قائمة اليونسكو للتراث – لربط النمسا بإيطاليا. لكن ماكسمليان اقترح على شقيقه منح الإيطاليين استقلالهم بالتزامن مع جهود سردينيا لتوحيد إيطاليا. لم يوافق فرانز على ذلك ولهذا السبب لم يضع شقيقه اسمه على شجرة العائلة التي تصور كل ملوك آل هابسبورغ في قصره في إيطاليا. بعد ذلك، ولعراقة العائلة، تقترح فرنسا استغلال اسم العائلة ومكانتها المرموقة لتحقيق الاستقرار في المكسيك بتنصيب ماكسمليان إمبراطورًا هناك، وهذا ما يحظى بموافقة فرانز جوزيف لكن الأمر ينتهي بكارثة تقود لإعدام ماكسمليان عام 1876.

تتزايد النزعات القومية في أوروبا وتنشب حرب بين بروسيا (ألمانيا) والنمسا لتخسر الأخيرة الكثير من أراضيها، لكن يوهان شتراوس يؤلف فالسه الشهير (الدانوب الأزرق الجميل) لإسعاد أهالي فيينا ليصبح ذلك الفالس رمزًا للمدينة.

تقضي الإمبراطورة إليزابيث وقتًا طويلاً في قصرها في هنغاريا وتحاول تعلم الهنغارية وتدعو الملك لزيارة ذلك الجزء من البلاد. يؤدي ذلك لمنح الهنغار حقوقهم بإقامة نظام ملكي ثنائي ضمن ذات الإمبراطورية. يتوّج الزوجان ملكان على البلاد ولكن الكاتدرائية الأشهر وسط بودابست تضم شرفة لإليزابيث ولا اسم لفرانز جوزيف حتى. يذكر الفيلم أن المجريين لم يكونوا الأغلبية في البلاد في وقتها – بوجود ألمان وصرب ورومانيين وأوكرانيين وروس وغيرهم – ولكنهم يتحالفون مع الكروات لتحقيق أغلبية برلمانية. يذكر الفيلم أيضا وجود الصرب في بلدات شمال بودابست بكنائس أرثوذكسية. ساهمت تلك الخطوة في تشجيع التشيكيين على مطالب مماثلة واقامة نظام ملكي ثلاثي وزاد ذلك من تشظي الإمبرطورية قوميّا.

بالتزامن مع بروز أفكار جديدة، برزت حركة فنية جديدة باسم الانفصال بزعامة كليمت وغيره وشمل ذلك بناء طرز معمارية بتصاميم جديدة وألوان غريبة، وبرز مبنى لوس هاوس بواجهته البسيطة، التي لم ترق للإمبراطور. يقول فرانز جوزيف أنه لم يفتح شباك النافذة بعد ذلك بسبب بشاعة المبنى، وأتفق معه في هذا بصراحة. يتطرق الوثائقي للحظات مؤلمة في حياة الإمبراطور منها انتحار ابنه الوحيد رودولف بعد أن قتل عشيقته في سن الثلاثين ومن ثم اغتيال زوجته الحبيبة إليزابيث على يد ناشط قومي إيطالي.

الغريب أن كل تلك الاغتيالات لم تؤدي لنشوب حروب كما هو الحال مع اغتيال الأرشيدوق فرانز فرديناند (ابن شقيق فرانز جوزيف) في سراييفو على يد طالب قومي صربي. أدى ذلك الحادث في حزيران عام 1914 لنشوب الحرب العالمية الأولى. في عام 1916، صلّى الإمبراطور على دكة صلاة صغيرة أمام الصليب من أجل السلام وقال أنه يرغب في القيام بأي شيء لوقف تلك الحرب، لكنه توفي في ذات العام بعد حياة زاخرة بالإنجازات والآلام في الوقت ذاته. بإنهزام الجيش الإمبراطوري النمساوي الهنغاري عام 1918 اضطر الإمبراطور الأخير كارل وعائلته لترك البلاد لتنتهي قصة عائلة امبراطورية حكمت مستمدة شرعيتها من المسيح وأنها بشعار النسر ذو الرأسين وريثة بيزنطة والامبراطورية الرومانية المقدسة.

الفيلم مهم للغاية من الناحية التاريخية والثقافية والسياسية، وهو يقدم كل المعلومات بطريقة شيّقة للغاية.

رابط الجزء الأول من الفيلم: https://www.youtube.com/watch?v=MwTi85Ni3a8
رابط الجزء الثالث من الفيلم: shorturl.at/gilxS








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 200 يوم على حرب غزة.. ماذا حققت إسرائيل وحماس؟


.. سمير جعجع لسكاي نيوز عربية: لم نتهم حزب الله بشأن مقتل باسكا




.. قطر: لا مبرر لإنهاء وجود مكتب حماس | #نيوز_بلس


.. بكين ترفض اتهامات ألمانية بالتجسس وتتهم برلين بمحاولة -تشويه




.. أطفال في غزة يستخدمون خط كهرباء معطل كأرجوحة