الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التنوير .. في فهم أدوات العلمانية

عبدالعزيز عبدالله القناعي

2020 / 6 / 4
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


استمر المجال الفكري والسياسي والديني والاجتماعي، منذ عصر النهضة العربية الأولى (بين أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين)، الي حاضرنا الآني، بالتعاطي مع الحداثة الغربية ومنتجاتها السياسية والاقتصادية والعلمية والفكرية، بطرق مختلفة ومتفاوتة ومتباينة، وكان مرجعية هذا التذبذب، هو الخوف مما قامت به الحداثة الغربية من تجاوزات تاريخية ضخمة لا يزال العقل العربي المسلم غير قادر على نقاشها أو الانتهاء منها أو إحداث القطيعة المناسبة معها، وخصوصا فيما يتعلق بالتاريخ الاسلامي ومصطلحاته وقيمه ورموزه، كما فعل عصر التنوير الاوروبي مع التاريخ المسيحي، الذي دشن النهضة الصناعية وما تبعها من ابداع علمي وعلوم نقدية وإنسانيات أخلاقية وسياسات ديمقراطية شكلت هيكل وقوام الدول الغربية بشكلها الحديث المعاصر، بعد أن انتهى من تهذيب المسيحية ونقدها وتفكيكها ثم وضعها في شكل وعلاقة مجتمعية خاصة.
ولعل ما يتبادر الي الذهن العربي، حين يتم استجلاب مفاهيم الحداثة وتداعياتها الفكرية والعقلية، هو ما ينسب اليها من حسن الادارة، ومتانة الاقتصاد، ودمقرطة الدول، والرفاه الاقتصادي، وهامش ضخم وكبير من التعاطي الايجابي الحقوقي المتعلق بالحريات والاستقلالية والمرأة والتعليم والقوة العسكرية. فكيف تقدمت مثل هذه الدول الغربية، التي لا تزال في المخيال العربي الاسلامي - جله وسواده الأعظم – دول منحلة وكافرة وبعيدة عن الله والإسلام وشريعة النبي محمد؟. لا شك انه سؤال جوهري وعميق وتاريخي حتى. فالذهنية العربية، ولا أستثني مقاربة الذهنية الغربية عندما كانت تعيش في العصور الوسطى البدائية، لا تزال تعتقد وتؤمن بأن التقدم والتطور هو نتاج الايمان والتقرب الي الله، وتطبيق تعاليم الاديان بحذافيرها، وإلا سوف تواجه الشعوب والدول انهيارات شتى وتراجعات جمة وانحلالات فاسقة اذا ما رفضت تطبيق الدين وتفويض السلطة الكهنوتية بكل ماله علاقة وشأن بالحياة.
لا شك بإنها اشكالية ومعضلة، تعيش وتنمو داخل الذهنية العربية وحتى الاسلامية فيما قلناه، حول كيف تقدمت مثل هذه المجتمعات الغربية؟. وكيف استطاعت الهيمنة على العالم بصناعاتها وفنونها وقوتها؟.. هل هو الدين المسيحي الحل؟. أم تمسكهم بيسوع واتباع تعاليمه حرفيا دون نقصان؟. أم باتباع الديانة اليهودية وحفظ ونشر الوصايا العشر وتعاليم داود وسلمان؟.. ولكن كيف يمكن لهم التفوق، والحديث للذهنية العربية، كيف يتقدمون ببراعة ونحن نملك أفضل دين، ونبينا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وشريعتنا الاسلامية كاملة بلا نقصان، وصالحة لكل زمان ومكان، كما قال لنا رجال الدين والفقهاء، وكما رددوا علينا في الاعلام والمساجد والحسينيات والمناهج التعليمية؟.. هنا، لم يحاول العقل العربي المسلم، الولوج الي عمق الاشكالية بقدر ما عكسها جهلا وتغييبا، بزيادة الجرعات الدينية وببناء الكثير من دور العبادة وبنشر تعاليم الاسلام اكثر واكثر حتى ضاقت الارض بما رحبت من تزايد اعداد الدعاة والفقهاء والمساجد وكليات الشريعة والفقه، ونقصان عدد المدارس والجامعات والمكتبات ومراكز العلم والفلسفة والفنون، في مفارقة ساخرة وعماء نفسي قبل أن يكون عقلي في رؤية النتائج بدون البحث ومواجهة الأسباب. هنا أيضا، لم يتخلص التاريخ الاسلامي من الهيمنة اللاهوتية، كما تخلص التاريخ الغربي من الهيمنة اللاهوتية، بعد أن أسس الايطالي جون باتيستا، أول كتابة للتاريخ بشكل علمي، بعيدا عن السيطرة اللاهوتية على مناهج التاريخ.
بينما، وعلى الضفة الأخرى، في عالم الغرب بمعظمه، وفي الشرق الأدنى أيضا ببعض دوله ومجتمعاته، كاليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة، نرى تلك الدول بأديانها المختلفة وعرقياتها المتعددة وهوياتها المتنافرة والمتناثرة، قد استطاعت توحيد الأمة، وتحقيق السلم والأمان المجتمعي، وتحقيق الرفاه الاقتصادي والديمقراطية الليبرالية والضمان الاجتماعي والعدالة والمساواة وتخفيض نسب الفقر والبطالة. فمن أين جاء كل هذا؟. ومتى تحقق؟. وماهي العمليات والخطوات والإجراءات والآليات السياسية والاجتماعية التي أدت الي الوصول لمثل هذه النتائج المبهرة؟.. بالتأكيد، ولا يخفى على كل مطلع وقارئ وباحث، أن النقطة الفاصلة، والحدث الجلل، والعبور من نفق الظلام والعبودية وسلطان الكهنوت، كان وبدأ، حينما انتصر الانسان لذاته، وعقله، وإرادته، وحريته. حين وقف بكل قوة ومواجهة وصمود أمام الاستبداد السياسي والوصاية والهيمنة والاقطاعية والعبودية. حين رفض بشكل قاطع انتظار الجنة الموعودة، وبدأ في خلق وصناعة جنة الإنسان على الارض. حين بدأ يفكر، وينتقد، ويشك، ويتساءل، ويحلم، ويكتب، ويقرأ، ويغني، ويرقص، ويخرج من قصوره المعرفي. حين صرخ ورمى أول حجر في المياه الراكدة. وحين طالب بشنق آخر ملك بأمعاء آخر رجل دين.
لم يكن التحول من الجهل والاستبداد، الي التقدم والاخلاق. من البدائية الفكرية، الي العقل النقدي، عملا سحريا ولا بفعل عصا موسى. بل هو تحول بدأ مع تفكير الإنسان حوله، مع مشاهدته ومعاصرته لكل التحولات والتراكمات البشرية في مسار القمع والوصاية وتهديد الإنسان، مع مواجهته للطبيعة وفهمها ومحاولة هزيمتها أو التكيف معها، مع اسقاط فكرة القداسة عن الأديان ونقدها ومحاولة موائمتها مع الواقع. بدأ حين توصل فلاسفة الأنوار، روسو وهوبز وجون لوك، الي فكرة ومفهوم التعاقد الاجتماعي، الذي لعب دورا حاسما في التحول من النظرة الدينية حول المجتمع والسلطة، الي فعل تعاقد بين الناس، يقوم على العقل والديمقراطية والاختلاف، باعتبار ارادة الافراد في المجتمع هي أساس وأصل الإرادة الجماعية نفسها. بدأ مع الفكر الحداثي الذي أعاد ترتيب الواقع الوجودي في الحياة، باعتبار الإنسان، كائنا مركزيا وفاعلا أساسيا في التاريخ والمعرفة والابداع. بدأ مع عمليات التنوير وفصل الدين عن الدولة. بدأ مع ميشيل فوكو حين وضع أسس المنهج الآركيولوجي للحفر في النصوص القديمة. ذلك الحدث، والفصل، والتنوير، والقطع الفكري والعلمي والتاريخي مع كل ماهو قديم ووصائي ومقدس، خلق العلمانية التي استطاعت، وفق أدواتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، أن تجعل الدول، مجتمعات مدنية وشعوب متعايشة. أن تجعل من الاديان ومن كل المعتقدات مجرد خيارات شخصية وعلاقات خاصة لا شأن لها بالدولة وقوانينها وسياساتها. العلمانية التي يقول عن نشأتها وأصولها السيد ممدوح الشيخ في ملف اللائكية والإسلام، " تعود الجذور التاريخية للكلمة الي الفلسفة اليونانية القديمة، لفلاسفة يونانيين، امثال ابيقور. غير انها خرجت بمفهومها الحديث خلال عصر التنوير على يد عدد من المفكرين امثال فولتير، هوبز، لوك، سبينوزا الخ. ولا تعتبر اللائكية شيئا جامدا، بل هي قابلة للتكييف حسب ظروف الدول التي تتبناها. كما لا تعتبر العلمانية ذاتها ضد الدين، بل تقف على الحياد منه".
كانت العلمانية، هي المجال الفكري والسياسي والاجتماعي الذي سمح للدول المتقدمة وللشعوب نفسها، أن تفهم الحياة، وأن يفهم كل فرد دوره وحدوده وامكانياته. لكن وبنفس الوقت نقول، بأن العلمانية ليست الحل السحري ولا النهاية التاريخية المحتمة، كما قال فوكوياما في كتابه "نهاية التاريخ والإنسان الأخير"، حين أشار بأن التاريخ ليس، فترات وأزمنة ومراحل، بقدر ماهو وصول للنموذج الأمثل والقائد، والذي باعتقاده قد اكتمل تاريخيا مع الديمقراطية الليبرالية. بل العلمانية، حين تستوطن مجتمع ما، وحين تطالب بها شعوب ما، تحتاج الي وعي بها، وممارسة معها، واندماج فكري ومؤسسي وتعليمي وحتى مستقبلي. فالعلمانية ديمقراطية وحريات وحقوق انسان ومساواة ومواطنة وقبول للآخر المختلف، وكلها أدوات قانونية دستورية يجب أن تكون موجودة في قوانين ودستور الدولة. يجب أن تكون ثقافة وسلوك وذهنية جمعية، يجب أن تكون وتصبح، مناهج تعليم وإعلام دولة وعمق فكري وفلسفي لدى الاجيال.
إن تراجع وتخلف مجتمعاتنا العربية، لا علاقة له اليوم بالديمقراطية أو الليبرالية أو العلمانية. لا علاقة له بالحداثة والمساواة والمواطنة والحريات، فهذه نتائج وعي وتغيير وثورة وعقلانية. بينما مجتمعاتنا وغالبية شعوبنا، لا تزال ترزح تحت نير الوصاية والتقاليد والقمع والظلم. تراجع وتخلف مجتمعاتنا، لا يحتاج الي العلمانية أولا، بل يحتاج الي التنوير كخطوة أساسية وفكرية وحتى دينية في التخلص من قيود القداسة والوصاية والأبوية. فالعلمانية في المجتمعات الغربية لم تستوطن بسهولة، ولم تستوعبها الشعوب الغربية بقبول وانسجام، بل جاءت بعد محاولات كر وفر ورفض ونقد. بينما العقل العربي المسلم، إذا ما أراد التقدم والنهوض، عليه أن يثور أولا، كما ثارت العقول من قبله. أن يرفض ويحتج ويطالب ويفكر. بعدها، وحينها، ومع الوعي التاريخي المناسب، ستكون العلمانية في الدساتير العربية، ليس حلما ولا أملا ضعيفا، بل ستكون مجرد تحصيل حاصل لشعوب واعية هزمت كل ما يعوقها وانتصرت لنفسها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. يهود يتبرأون من حرب الاحتلال على غزة ويدعمون المظاهرات في أم


.. لم تصمد طويلا.. بعد 6 أيام من ولادتها -صابرين الروح- تفارق ا




.. كل سنة وأقباط مصر بخير.. انتشار سعف النخيل في الإسكندرية است


.. الـLBCI ترافقكم في قداس أحد الشعانين لدى المسيحيين الذين يتب




.. الفوضى التي نراها فعلا هي موجودة لأن حمل الفتوى أو حمل الإفت