الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


آللهُ يهلكنا!؟

سعد كموني
كاتب وباحث

(Saad Kammouni)

2020 / 6 / 6
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


‏1.‏ تمهيد
ما هذا الذي أحدثته الجائحةُ ؟ حتى باتت الأسئلةُ تتفاقم وتزدحم في داخلي!‏
هل الله هو الذي يهلك البشر؟ وما الذي اقترفوه حتى يستحقوا هذا الهلاك؟ ‏
لم أعدْ أفهم، لماذا خلقهم، ولماذا يهلكهم، ولماذا يهيّء لهم ظروفاً تودي بهم إلى التهلكة؟ ‏ولماذا هيّأ للبعض أن يكونوا في منجاةٍ من الهلاك، ولم يجعل ذلك لآخرين؟ ‏
هل نفهم الكونَين فهماً مغلوطاً، كونَ الله وكوننا، والعلاقة بينهما؟
قد لا تكون هذه الأسئلة جديدة، بل ربما تكون عريقة، وتلحّ أكثر ما تلح في النكبات التي ‏يبدو فيها المرء عاجزاً بإزائها، ولكنها مع عراقتها، أراها مسؤولةً عن توجيه التفكير من جديد في ‏هذا الكون، وفي هذه الحياة. وأن نشحنَ عقولنا بطاقةٍ من خارج المتاح لها في أصل تكوينها؛ لا ‏أظنّه ينفعنا بشيء، فعقولنا تشكلت عبر آلاف السنين، بنظُمٍ تجعلنا دائما في حال خصومةٍ مع ‏الكون، في الوقت الذي نكون فيه في حال رضىً وطمأنينةٍ مع العُلا؛ فالعُلا مصدر الغيث في ‏كل الأحوال، نتقرب منها بالدعاء والابتهال والصلاة، كما ننقم على أنفسنا ونتهمها بالقصور في ‏التقرّب عندما لا نرى العلا تتجاوب مع حاجاتنا.‏
لا أعتقد أن الوجهةَ التي تنهي الاضطراب المستحكمَ في عقولنا من هذه الجائحة، يمكن ‏أن تكون خارج إطار النُّظم التي شكلتها. لذا؛ سأنطلقُ في التعامل مع هذه الأسئلة وغيرها على ‏قاعدةٍ ثابتة راسخة مفادها الإيمان بالله الخالق، ولكنني منزعجٌ من كونه مُهلكاً لخلقه، سأحاول ‏تفكيك هذه المسألة لعلّي أجدُ ما يُطمئن. ‏
سأعمد إلى الآيات القرآنية ذات الصلة، وأتعامل معها بوصفها شبكاتٍ علاميّةً تمَّ إنتاجُها ‏وِفاق أنظمةِ إنتاج المعنى في اللغة العربيّة، مع مراعاة أساليب القول في هذه اللغة زمن التنزّل. ‏
طبعاً؛ لن أفتري على الآيات القرآنية التي تنطوي على إسناد فعل الإهلاك إلى الله، فأزيد ‏أو أنقص منها، ولكنني سأتجاهل ما قاله المفسرون بإزائها، لكونهم تعاملوا معها تحت تأثير أسئلةٍ ‏أخرى مغايرة لأسئلتي.‏
هل خلقَ الله الكون والإنسانَ ليخلقوا أنظمة بقائهم و استمرارِهم، أم أنه خلق لهم تلك ‏الأنظمة؟ وأيّ اختلال في النظام، هو ما سيؤدي حتماً إلى كارثة على البقاء والاستمرار؟؟؟ ‏ويتحمّلُ المخلوقُ مسؤوليةَ ذلك؟؟
ما نلحظه، أن الكون له أنظمته ليبقى ويستمر، ولا أعتقدُ أن هذا الكون هو الذي أنتجَ ‏أنظمتَه، وكذلك الإنسان كان وله نظامه الدوريّ، والخلوي، والجيني، والنووي، لم يخلق الإنسانُ ‏شيئاً من هذا، ولا حجّةَ في ذلك لمن يقولُ إنّ الزمن المتمادي، بوصفه حاملاً للأحداث، ‏سيوصلنا إلى إنسان ينتجه إنسانٌ في المختبر، فلا تعود هناك حاجةٌ لنظام الحمل والولادة ‏المعهود مذ كان الإنسان، أو أيُّ مخلوق؛ أقول: لا حجةَ لمن يقول هذا، لأنّ العلماء لم يخلقوا ‏شيئاً ولن، ولا ينبغي لهم، بل كل ما يجري إنما هو اكتشاف، وهذا ليس بالأمر البسيط، بل هو ‏بالغ التعقيد. ما يكتشفونه قد يكون خطراً على الأنظمة وقد لا يكون، وهنا تبدأ مسؤولية الإنسان ‏في أن يعرف وزن ما يكتشف أي قيمتَه، فالله يقول في سورة الحِجر ﴿ وَأَنۢبَتۡنَا فِیهَا مِن كُلِّ شَیۡءࣲ ‏مَّوۡزُونࣲ﴾ والذي يمنح الشيءَ وزنه، هو نوعه، وثقلُه النوعي، ووظيفته. فكل شيءٍ له وزنه يعني ‏له اسمه ووظيفته. صحيحٌ أننا نحن الذي نسميه، إلا أنّ الصحيحَ أيضاً هو أنّ هذه التسمية تابعة ‏لمعرفتنا بالوظيفة، وربما نكون قد عرفنا الوظيفةَ خطأً، أو أننا أردنا له وظيفةً أخرى. ‏
أن يزودنا العلمُ بمعلوماتٍ مفادها أنّ الإنسان هو غبرة من الغبار الذرّي؛ سيجعلنا نعيد ‏النظرَ في فهمنا للمركّب الماديّ، ولكن المسألةَ ــــ هنا ــــ لا يغلب فيها النظر بالمكوّنات الماديّة، ‏بل تتعلّق بالنظرِ إلى الإنسانِ بوصفه كائناً يعي موقعه في هذا الكون وهو الذي يسمي أجزاءه ‏تأسيساً على فهمه لها، وهذا الفهم يتأتّى من رؤيته الخاصّة بوصفه كائناً فرداً، أو بوصفه كائنا ‏اجتماعياً، وتحكم هذه الرؤيةَ ثنائيّةٌ ضدّية حادّة، طرفاها الخوف والطمأنينة اللذان يشكّلان مظهراً ‏ماديّاً أو معنوياً للمواجهة الأزليّة مع الموت الذي لولاه ما كان من ضرورةٍ لأي تفكير أو حلم أو ‏ندم. وكلما تَغيّرَت الفهوم تتغيّرُ طرائقُ النظر لتصبح إمكانية تلافي الموت أكبر؛ وهذا ما يحتّم ‏اكتشاف وزنه، وكلِّ شيءٍ موزون. ‏
إذن؛ الله الخالق، ﴿ وضع الميزان﴾‏ ؛ مِفْعال الوزن دلالةً على الآلة المستعملة في إنجازه، ‏وإذا فهمنا أنّه رمز للعدل فلا يجوز أن يكون العدل فقط في البيع والشراء، إنما هو في كلّ شيء، ‏والآلةُ الموضوعةُ لهذا الأمر هي العقل الذي يُلزَم الإنسانُ باعتماده في تعيين الحق لكل ذي حق ‏في الوجود جماداً كان أو حيوانا، فالمطلوب أن لا يطغى الإنسان في الميزان فالإنسان ملزمٌ ‏طالما أنه موزونٌ، وهذا يحتّم عليه أن يعرف نظام كلّ شيءٍ. الله خلق الكون وخلق الإنسان ‏ووضع الميزان، فكيف يكون أنّ الله يهلك الإنسان ولا يختلّ الميزان؟ وما الذي يؤدي إلى اختلال ‏الميزان بوصفه آلةً للوزن، والله يقول: ﴿وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ﴾‏ ؟

‏2.‏ رؤية معطلة اقتضت التأنيب ‏
‏﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي ‏الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِم ‏مِّدْرَارًا ‏وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ ‏وَأَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ﴾‏ ‏. ‏
عندما تُستهل الآيةُ بالتأنيب "ألَمْ يروا"؛ فهذا يعني أنّ مخالفةً ما، قد ارتُكبت بسلوكٍ يتنافى ‏مع ما تقتضيه الرؤية. فما هو المشهد المرئيّ الذي يستدعي تأنيب الجماعةِ التي أسند إليها فعلُ ‏الرؤية "يروا" معطّلاً بالنفي "لم"؟ ‏
الرؤية مرتبطة بالعين، وعندما يقع التأنيب لتعطيل الرؤية" ألم يروا"؛ فهذا يعني أنه يؤنبهم ‏لعدم أخذِ العبرةِ من "المرئيّ" الإهلاك الحاصل "من قبلهم"، ولا يمكن أن يؤنبهم على مشهدٍ لا ‏يعلمونه، وأنّه عدَل عن أيّ فعل آخر إلى فعل مرتبطٍ بالعين لكونها علامةً على ترجيح اليقين؛ ‏فهذا يعني أنه خبرٌ معلوم لديهم ويتداولونه، وهو من السرديّةِ التي تشكلُ مرجعاً ثقافياً لهم.‏
ما هو المرئيّ المعطَّل؟ إنه " كم أهلكنا" أرجّحُ إخباريةَ "كم"، مع أن الاستفهام فيه إمعانٌ ‏بالتأنيب لما يثيره في المخاطب من التفاتٍ وعودةٍ إلى ثقافته؛ إلا أنّ الاستفهام بالألف في مستهلّ ‏الآية كافٍ لهذه الفائدة، و"كم" هنا، تنصرف دلالتها إلى التجميع من كيمياء "الكاف" و"الميم"، ‏وذاك لتصلح مفعولاً به له حق الصدارة فتَقدّمَ المفعولُ على الفعل "أهلكنا"، ليكون مَن يُكنّى عنهم ‏بـ"كم" لهم الأولوية في اهتمامات المخاطبين، وإليهم ينبغي أن ينصرف التفكير الرؤيوي، لا إلى ‏فعل "الإهلاك". ولا يكونُ الفعل مدار الكلام إلا بوصفه واقعاً على عدد كبيرٍ مبهمٍ من الخلق. ‏
أما "من قبلكم" فهي مركّب شبيهٌ بالجملة، متعلّقٌ بالفعل "أهلكنا" ليؤكد قبْليّةَ الإهلاكِ، ‏والذي يقتضي التأكيد بـ"مِن" الابتدائية، حذفُها الذي ينحو بالمعنى نحواً آخر لا يريده النص ‏للمخاطب، فلو أنه قال، ــــ ولم يقل ــــ :"أهلكنا قبلَهم" ؛ لانصرفت الدلالةُ إلى التهديد، ما يعني أنه ‏أهلكنا قبلهم أعداداً كثيرة وهم هالكون مثلَهم، أما وأنه لم يقل، فهذا يعني أنه باعتمادهم الرؤية، ‏وبامتثالهم للتأنيب يمكنهم أن يستثنوا أنفسهم من هذا المصير بسلوكٍ مغاير، أو بتفكيرٍ مختلف ‏عمّا هو عليه. غير أنّ "مِنْ" أكدت القبْليّة، وإن كانت لا تلغي احتمال وقوع الفعل على ‏المخاطَبين ما لم يتغيّروا.‏
‏3.‏ المهلَكون والزمن
أمّا قوله "من قرنٍ" فـ"من" بيانيّة؛ وهي لتمييز "كم" الخبرية المبهمة. ويستوقفنا على ‏المستوى المعجميّ هذا اللفظ "قرن" للدلالة على "الأمّةِ من الناس"‏ ‏ "الأمة تأتي بعد الأمّة"‏ ‏ أو ‏‏"الوقت، أو المدة"‏ ‏:"القوم المُقْتَرِنُونَ في زمن واحد"‏ ، أو "الحبل الذي يقرن به البعيران"‏ ‏. ولا أعتقد ‏أن اعتماد هذا اللفظ للدلالةِ على المُهلَكين من قبلُ جاء اعتباطاً، بل هو للدلالة على ما كان ‏لهؤلاء من مكانةٍ فطبعوا المُدد التي عاشوها بطابعهم، فصار القول أهلكنا قرنا، إذا احتسبناه من ‏باب المجاز المرسل فهو يعني أهل قرن، أراد أمّةً أو أمماً كان لهم تأثيرٌ بالغٌ في الزمن فحذف ‏الناس وأطلق زمانهم، فلو أنه قال "زمن" ــــ وهو قليل الوقت وكثيره ــــ بدلَ "قرن" ما كانت لتدلَّ ‏على المستوى الحضاري، بل كانت ستدلّ أنهم أهل ذلك الزمن وحسب، وكلُّ أهل زمن هالكون لا ‏محالة، إذن؛ لا يؤنبهم لعدم رؤيتهم هلاكَ الأقوام بل يؤنبهم لعدم رؤية الحضارات التي انهارت، ‏وأنه عدَل عن ذكر الناس إلى ذكرِ زمانهم استثماراً لهذا الأسلوب في القول العربي؛ فإنما هذا ‏العدول لوظيفة دلاليّة نفهمها من السياق الثقافيّ العربيّ، وينزلُ النصُّ الزمنَ الخاص بقوم ‏تعاضدوا واقترنوا فيه، فطبعوه بطابعهم الحضاريّ الخاصّ بهم، منزلةَ الحبل الذي يقرن به ‏البعيران، فتكون حركتهما رهينة مَن بيده طرف الحبل، كذلك أهل زمن ما، ارتبطوا بذاك الزمن ‏بأفعالهم، فمضَوا إلى المقصد التاريخي.‏
‏4.‏ التمكين في الأرض
ما الذي جعلهم بهذه الفاعلية في الزمن؟
يصفهم النصّ بقوله:" مكّناهم في الأرض"، إذن، التمكّن في الأرض هو الوصف الملائمُ ‏للقوم الذين طبعوا الزمن بطابعهم، أخذوا اسمه أو أخذ اسمهم، فما هو التمكن؟ ‏
التمكّنُ لغةً هو" رسوخ الشيء متجمعًا (من دقاق) في باطن يلتئم عليه. كبيض الضِباب ‏والجراد في باطنهما. ومنه‎ "‎المَكِنَة‎- ‎كفَرِحة،‎ ‎التمكُّن، رسوخٌ في باطن. مكّنه من الشيء، ومكّن ‏له: جعل له عليه سلطانا"‏ ،‎ ‎‏"التمكين من الشيء ما يصح به الفعل من الآلات والقُوَى، وهو أتمُّ ‏من الإقدار، لأن الإقدار إعطاء القدرة خاصة والقادر على الشيء قد يتعذر عليه الفعل لعدم ‏الآلة"‏ ‏. وهذا معنى كل "مكّن".‏‎ ‎
استناداً إلى اللغة نفهم أن التمكين هو الترسيخ والتثبيت بوسيلة. وقبل أن نتساءل عن نوع ‏الوسيلة، نرى أنّ الحاجة إلى هذا التمكين تقتضيها الحاجةُ إلى السلطان على المكان لتأمين ‏الاستقرار والرقيّ، وهذا بلا شك غير ممكن من دونِ توافر المعرفة الضروريّةِ لذلك، فالمعرفةُ لا ‏يمكن أن تكون شاملة ونهائية لأنّ الحاجة هي التي ترسم مسارها. وهذه الحاجةُ ستختلف من زمنٍ ‏إلى زمن، ومن أرضٍ إلى أرض. وفي كلّ مرّةٍ تكونُ الآلات والقوى مختلفة نوعاً وكمّاً. أما ‏الوسائل التي اقتضاها تمكين الذين من قَبلِ المخاطبين فهي مذكورةٌ في الجزئيّة التالية من الآية ‏نفسها. ولكن قبل الانصراف إلى جلائها كما هي، نقف عند قوله عزّ وجل: ﴿ مَّكَّنَّاهُمْ فِي ‏‏الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ ﴾‏ ‏.‏
في هذه الآية أمران يستوقفان الباحث :‏
• الالتفات إلى المخاطبين"لكم" بعد أن كان مستهلُّ الآية في الغيبة"ألم يروا".‏
• في الكلام على المُهلَكين ورَد "مكناهم" بينما في الكلام مع المخاطَبين "نمكنّ لكم" ‏
لا يمكن أن يكون نقل الكلام من أسلوبٍ إلى آخر اعتباطاً أو لمجرّدِ التفنن في القول، بل ‏لا بد من أن ينطوي على دلالةٍ لا يمكن الوقوف عليها إلا بهذا الانتقال، فالتأنيبُ بـ" ألم يروا" ‏يقتضي وجودَ طرفٍ يشكو تبرُّمَ قومه بإزاء دعوةٍ، أو يعتدّون بقوتهم ورسوخهم في الأرض؛ فكان ‏هذا الأسلوبُ مناسباً لدحضِ مزاعمهم، ومزاعمِ أيِّ جماعةٍ لا تعرف حقيقةَ وزنها، أو أي إنسانٍ ‏يتربّصُ به الغرورُ فيهوي به في سوء أعماله، لذا يكون الكلام بأسلوب التأنيب شاملاً كل أصناف ‏الأقوام التي لا تعرف حقيقةَ التحديات التي تودي بالأمم أياً تكن مستويات رسوخهم في الأرض، ‏ويكون ضمير الغائب هو المسند إليه الأكثر ملاءمةً في هذا السياق.‏
أما الانتقالُ إلى أسلوبِ المخاطب في "لكم"، فذاك أنّه فرغَ من وصف المهلَكين بهذه ‏الجملة الفعليّةِ التي يحيل فعلُها "مكّناهم" على التفكير بالأسباب المادية الطبيعية للاستقرار والرقيّ، ‏وبخاصةٍ أنّ "في الأرض" قد تعلّق بهذا الفعل. وهذه الأسباب المادية الطبيعية، قصورُها واضحٌ ‏عندَ قوم محمدٍ (ص) الذي كان يشكو انصراف قومه عنه، وشكواه اقتضت التأنيب بـ "ألم يروا"، ‏ليروا؛ الأمر الذي اقتضى أن ينصرف الكلام من الغيبةِ الشاملةِ كلَّ الأقوامِ بعامة، إلى مخاطبةِ ‏قومِ المشتكي بخاصة لكونهم المتبرّمين بإزاء دعوته بمقتضى جهلهم مكانتَهم الحقيقيّة في الميزان ‏الحضاريّ الماديّ.‏
إذن، الالتفات من الغائب إلى المخاطب، إنما هو بموجب الانطلاق من قاعدةٍ عامّة ‏تحضّ كل الأقوام على الالتزام بها، إلى قاعدة خاصّة بهؤلاء الذين لا يرون أسباب الانهيارات ‏الحضارية ولا يعرفون إمكاناتهم وقدراتهم الحقيقية، وهم قومُ محمّد(ص). ‏
أما الثانية وهي في وقوع فعل التمكين المسند إلى المتكلم مباشرةً على مفعوله " مكّناهم" ‏عندما كان الكلام على الأمم المُهْلكَة، بينما الكلامُ على الأمةِ المنذَرة المؤنّبة، وصل أثرُ فعل ‏التمكين فيها إلى مفعوله بواسطةِ اللام " نمكّن لكم".‏
ما فائدة هذه "اللام" وما الذي اقتضاها في هذا السياق؟ ‏
عندما يكون العامل في المفعول ضعيفاً يمكن تقويته، سواءً كان فعلاً، أو مصدراً، أو ‏اسماً مشتقاً يعمل عمل فعِله، وقد أشار النحاةُ إلى شواهد من القرآن الكريم حسَبوا فيها العامل ‏ضعيفاً، منها: ﴿الذين هم لِربِّهم يَرْهبون﴾ و ﴿إنْ كنتم لِلرؤيا تَعْبُرون﴾ وعللوا ضعف العامل هنا ‏بتقدّم المفعول على الفعل. كما أشاروا إلى علةٍ أخرى تجعل العامل ضعيفاً وهي في كونه اسماً ‏مشتقّاً يعمل عمل الفعل، وقد استشهدوا لتثبيت ذلك بقوله تعالى: ﴿مُصدِّقاً لِما معهم﴾، و ﴿فعّالٌ ‏لِما يريد﴾.‏
وما لم يذكره النحاةُ هو أنّ العامل المتعدّي قد يضعف عن التعدية مع أن مفعوله لم ‏يتقدّمْه، و هو ليس بمصدرٍ أو اسمٍ مشتق عامل، مثل فعل التمكين الواقع على المخاطبين في ‏هذه الآية الكريمة: ﴿ما لم نمكّن لكم﴾، وعلّةُ ضعفه كامنةٌ في كونه مضارعاً يعني أن وظيفته ‏الوصف وليس بالضرورةِ دالاً على الحدث، والعلةُ الثانية في كونه معطّلاً بــ"لم" أقوى أدوات ‏الجزم. فالأمم المهلَكة قد حصل تمكينها وحصل إهلاكها، لذا كانت صيغةُ الماضي آكدَ في ‏الدلالةِ على ذلك، وبذاك يكون فعل التمكين قد حصل حقيقةً. وأنّ الآيةَ تتوخى أن يعودَ ‏المخاطبونَ إلى أنفسهم، وتحرّضُ عقولهم عليهم، تركَت إمكانَ التمكين وارداً، بتقوية الفعل العامل ‏بواسطة "اللام"، ذلك أنها، إضافةً إلى كونها للتقوية؛ فهي للتمليك أيضاً أو لما يشبه التمليك في ‏الاستحقاق. فلا ييأس القوم المعنيون بالخطاب القرآني من إمكان التمكين، فيكون التقدير لم نمكّن ‏لكم ولكنْ حقُّكُم التمكين الذي حصل للسابقين المُهْلَكين، أو شيءٌ منه، وقيمة اللام هنا بالغةُ ‏الدلالة، فلو تمّ الإسناد والفضلة من دونها، وقيل لم نمكّنكم، لكان المعنى لم نمكّنكم ولن نمكنكم، ‏لأنّ قوةَ "لم" في كونها للقطع والقلب، بينما دخول "اللام" خفف من هذه القوّة. والدليل على أنّ ‏اللامَ أضعفت قطعيةَ "لم" أنها في سياق المقارنة، فالمعيار المعتمدُ للتمكين هو ما حازه ‏المهلكون، أما أنتم فقد قصّرَ ما حزتموه، لذا كان التعبير صلةَ موصولٍ لا محلّ له في الإعراب ‏‏﴿ مَّكَّنَّاهُمْ فِي ‏الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ ﴾‏ فـ "ما" اسم موصولٌ بمعنى "الذي" وهي نائب مفعول ‏مطلق لأنها وصفٌ له نابَتْ عنه، والتقدير: " مكّناهم في الأرض التمكين الذي لم نمكّنه لكم".‏
‏5.‏ أسباب التمكين
ما هي العناصر التي يجب توافرها حتى يكون التمكين على هذا المستوى أو ذاك؟
طبعاً، لا بدّ من أن تكون الأرض قابلةً للسكنى، بأن تكون معالجتها ممكنة. وتختلف ‏أرضٌ عن أرضٍ بمقدار قابليتها لذلك. وأن تكون مؤاتيةً للاستظهار بأسباب الدنيا، فيكون ‏بالإمكان حفر بئر، أو تثليم حقل، أو رعي الأنعام، أو تشييد مساكن وقلاع وحصون. وأكثر من ‏هذا ينبغي أن يكون المُناخُ مؤاتياً، وفي هذا تتفاضل الأقوام.... ‏
أمّا القوة الأساسيّة التي ترسّخُ قومًا في مكان ما، فهي قوة المورد الرئيسيّ الذي من دونه ‏يستحيل البقاء والاستمرار في المكان. ويعيّنه النص بعد الكلام على التمكين الذي كان للمُهلَكين ‏والمعنيين بهذا الخطاب بـ ﴿ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِم مِّدْرَارًا ‏وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ﴾. ‏فالإرسال هو الإطلاق نقيض الإمساك، ويحيل على التتابع والمواصلة، وقد وقع هذا الفعل مسنداً ‏إلى الله مكنىً عنه بضمير الجمع المتكلّم " نا"، على السماء، وإرسال السماء جرياً على لغةِ العرب ‏لا يعني كشط هذه الزرقة وابتعاثها عليهم، بل أراد المطر وعدَل عن ذكره إلى ذكرِ مصدره كنايةً ‏عن غزارته، وهذا ما يسمى المجاز المرسل أي المطلق، نريد أمراً فنذكر ما يجاوره من باب ‏المبالغة أو لعلّةٍ أخرى، كأن نقول :"شربت فنجاناً ساخناً"، وفي الحقيقةِ لم يُشرب الفنجان إنما ‏شُرب محتواه، فعزفنا عن ذكر المحتوى وذكرنا الحاوي لغرض بلاغيّ. وكذلك لم يرسل اللهُ السماءَ ‏بل أرسل مطراً من السماء، ولم يذكرِ المطرَ بل ذكرَ مصدرَهُ العيانيّ لغرضٍ بلاغيّ. فما هو هذا ‏الغرض غير الإحالة على تكثير ما أُرسل.‏
أما السؤال في ما يقتضي اعتماد الفعل "أرسل" دون "أنزل" فذاك أنّ النزول" انحدارٌ أو ‏انفصال وخلوص إلى مقر أو حيّز يوجد فيه بقوة"‏ ، بينما الإرسال هو" تسيّبٌ من المقر أو ‏الحيّز مع امتدادٍ وتميّز....."‏ ‏ وفي هذا السياق يبدو الإرسالُ أكثر ملاءمة من الإنزال، فهو لا ‏يشير إلى الكثرة فحسب، فهبوط المطر باعتبار منتهاه يعبّرُ عن حصوله بالنزول، وباعتبار ‏مصدره يعبّرُ عنه بالإرسال. وأن يكون الحدثُ "إرسالاً" فهذا يستدعي النظر في مصدره لترى ‏عظمة المرسَل، باعتبار السماء أبعد وأوسع وأكثر من الأرض. وهذا يلائم التمكين الذي يراد ‏للمخاطبين المعنيين أن يرَوه. ويكون التأنيب منتجاً ومفيدا.‏
وما يعلل ملاءَمةَ الإرسال للمطر في هذا السياق، كون الفضلة "السماء عليهم"، وليس ‏‏"عليهم السماء"، فالأولى تدلّ أن إرسال السماء شملهم من فوقهم ولا ينفي أن يشمل غيرهم أيضا، ‏أما الثانية فهي تخصّصهم بالإرسال فلا يشمل سواهم، لذا كان الإرسال أكثر ملاءمة، فلو أنه لا ‏يشمل سواهم لكانت "أنزل" أكثر ملاءمة مثل قوله عز وجل في سورة الأنفال: ﴿وَیُنَزِّلُ عَلَیۡكُم مِّنَ ‏ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءࣰ لِّیُطَهِّرَكُم بِهِۦ ﴾‏ ‏ فهو ماء خاص بتلك الجماعة لذا قدّم "عليكم" على "السماء" ‏واعتمد الفعل "ينزّل" ملاءمة لذاك التخصيص.‏
ويأتي الحال مِدراراً بهذه الصيغة "مِفعال" ليبين الكثرةَ والوفرة، فالصيغة الصرفيةُ "مِفعال" ‏من صيغ المبالغة، وهي للمبالغة على وزن اسم الآلة ليكون الوصف كما لو أنّه آلة الحدث، ‏الأمر الذي يمنحه فاعليّة أكفأ من كونه على وزن آخر من غير صيغ المبالغة، مفتاح أكفأ في ‏الفاعليّة من فاتح، والمِعطاء أكفأ من المعطي، كذلك المدرار أكفأ من المُدِرّ. أضف إلى ذلك ‏تكرار "الراء" الممدودة في "مدرارا" وهي حرف تكرار تفيد اتساع الأمد في الإرسال.‏
وإذا كان لما سبق من دلالةٍ فهي في كونها علامةً على العنصر الأهم من عناصر ‏التمكين في الأرض، فالماء من السماء بما يعنيه من حياةٍ للأرض؛ يستحيل البقاء والاستقرار ‏والاستمرار من دونه. ﴿ وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَاۤءِ كُلَّ شَیۡءٍ حَیٍّۚ﴾‏
‏6.‏ التمكين على نحو مخصوص
وعطَف النصُ على الفعل "أرسلنا" الفعلَ "جعلنا" واقعاً على الأنهار، وذاك إمعانٌ في ‏التمكين. فالجَعلُ في اللغةِ للتحويل والتهيئة، وفي القرآن الكريم هي للتحويل أو الخلق الذي يعني ‏التهيئة أيضاً بمثابة مخطط توجيهي للإيجاد.‏
‏﴿‏وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ﴾ أي تصيير الأنهار في وظيفةٍ خاصةٍ بهم، بزروعهم ‏وضروعهم واجتماعهم، وأمنهم الاجتماعي والاقتصادي. والجريان هو حركةٌ خفيفةٌ متتابعة. فإذا ‏كان إرسال السماء قد منحته الحالُ "مدرارا" بعداً تمكينيّاً إضافيّا واضحاً، فكذلك فعل "الجعل" قد ‏منحه وقوعُه على الأنهار البعدَ نفسه، فمدة مكوث المطر على الأرض محدودة لا تكفي للإقامة ‏والاستقرار بطمأنينةٍ ما لم يتمَّ تحويل الأنهار إلى الجريان من تحتهم؛ وذاك أن الأمطار من دون ‏هذا التحويل ستذهب هدراً، فإن لم يكن جميعُه فنسبة كبيرةٌ منه بسبب التبخّر، أو الانسياح في ‏الأرض، أو الغور فيها، أو جميعها.... لذلك سيكون هذا الجَعل ضرورةً، من كونه يعضدُ ‏الإرسال في توفير التمكين.‏
أمّا من تحتهم، فهي للتأكيد، فـ"تحت" لا يخلو كونُها ظرفاً للجريان، من إضفاء قوةٍ دلاليّة ‏أكبر للتمكين، فالأنهار بوصفها عنصراً أساسيّاً في توفير الأمن الاقتصاديّ والاجتماعيّ بعامّة، ‏عندما تكون فضلةً في جملةٍ فعليّة ليرسم سيرورتَها فعلُ الجريان الواقع عليها، تجعل فرص ‏الاستقرار والحياة على نحوٍ عمرانيّ ممكنة، وعندما يكون الجريان مظروفاً لظرفٍ مكاني له ‏خصوصيته الدلالية "تحت"؛ تتجاوزُ فرصُ العمران مرحلةَ الإمكان إلى مرحلةِ التحقق، لما يتميّز ‏به الظرف من ثبوت، وعندما يضاف هذا الظرفُ إلى ضمير يعود إلى جماعةِ المهلَكين، فذاك ‏يؤكد حيازتهم السلطة عليه، فالجريان "تحت" ما يعني أنهم"فوق" والذي يكون "فوق" له السلطةُ ‏على ما هو "تحت".‏
ويأتي حرف الجر "من" بوصفه حرفاً لابتداء الغاية، ليضفي على المشهد جمال الابتداء ‏الذي يقدّم انطلاق الأنهار في جريانها من تحت أولئك الأقوام، وفي ذاك دلالةٌ على نعيمهم ‏الوافر، فالأنهار أقل نعيميّة لو أنها بدأت عند غيرهم وكان مرورُها تحت سلطتهم، أما وأنها تبدأ ‏من تحتهم، سيكون في ذلك زيادة في القوةِ والتمكّن، الأمر الذي يدفع الأقوام للاتفاق معهم ‏بوصفهم متمكنين.‏
‏7.‏ أسباب الإهلاك
اجتمعت لهؤلاء الأقوام أسباب الاستقرار جميعها. ومع ذلك يرتّبُ النص بعد ذكر هذه ‏الأسباب، الفعلَ "أهلكناهم" معطوفاً على "مكّناهم"، و"أرسلنا"، و"جعلنا" بحرف الترتيب والتعقيب ‏‏"الفاء". وبالنظر إلى هذه الأفعال، نجدها أفعال الحياة في مواجهة فعل الموت، ومع أنّ فعل ‏الموت واحد، وأفعال الحياة ثلاثة نجد الانتصار النهائي لفعل الموت، ما يعني أنّه حتميٌ، إلا أنّه ‏في هذا السياق من كونه واقعاً على أقوام خصصوا بتلك الأفعال الحياتيّة، فقد احتاج تعليلاً " ‏بذنوبهم" ما يسمح لنا بإعادة فهم فاعليّة "التمكين"، و"الإرسال"، و"الجعل"، و"الإهلاك". فهذه ‏الأفعال كلها مسندةٌ إلى فاعل واحد هو "الله"، وهو عند المؤمنين لا جدال في فاعليته، "إنه على ‏كل شيءٍ قدير" ولا غرابة في ذلك، إن لم يكن كذلك لماذا هو "الله"؟ ولكن الجدال هو حول هذا ‏التخصيص لجماعةٍ دون أخرى، فإذا تساءلنا بإزاء ذلك لا يعني أننا نتساءل بإزاء قدرة "الله" جل ‏وعلا؟
في الحقيقة، هذا ليس تخصيصاً بالعطاء وإن كان تخصيصاً في الإهلاك، فالنصّ يبيّن ‏لنا أنه يتناول هؤلاء الأقوامَ الذين أُهلكوا، مع أنهم أوتوا من أسباب التمكين ما أوتوا، وكما تبيّن لنا ‏سابقاً أن إرسال السماء عليهم لم يكن لينفي إرسالها على آخرين، والأنهار تجري من تحتهم إلى ‏آخرين، ما يعني أنّ هذه الأفعالَ تشيرُ إلى نظام من أنظمة الحركة الكونية، ولا تشيرُ إلى ‏تخصيص هؤلاء بهذا الفعل الحركيّ أو سواه.‏
أما فعل الإهلاك إنما هو بذنوبٍ اقترفوها مع هذا النظام الذي كان من شأنه توفير ‏تمكينهم في الأرض، ﴿ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ ﴾ فما هي هذه الذنوب؟
‏"ذَنَبُ الدّابة وغيرها معروف، ويعبّر به عن المتأخّر والرّذل... والذَّنْبُ في الأصل: الأخذ ‏بذنَب الشيء، يقال: ذَنَبْتُهُ: أصبت ذنَبَه، ويستعمل في كلّ فعل يستوخم عقباه اعتبارا بذنَب ‏الشيء، ولهذا يسمّى الذَّنْبُ تبعة، اعتبارا لما يحصل من عاقبته"‏ ‏. "وهو كل معصيةٍ صغيرة ‏كانت أو كبيرة"‏ ‏ " الذَنْب ‏‎-‎بالفتح: الإِثم والجُرْم والمعصية "فهو يؤخذ من دلالة التركيب على ‏التأخر والتخلف وهبوط الرتبة (السفول) -كما في موقع الذيل"‏ ‏.‏
بالنظر إلى ما قدمته المعاجم حول مفردة "ذنب" يمكن أن نفهمها على أنها سلوك ‏شخصي أو جمعي، يصيب أسباب تمكين الإنسان في الأرض، سواء كان هذا السلوك مع النفس ‏أو مع الآخر، أو مع البيئة أو مع المجتمع، فهو معصيةٌ للنظام، يجرّ فساداً مؤذياً يتراكم حتى ‏يؤدي إلى الهلاك المحتم. فإذا كانت مقاصد الشريعة تنص على حفظ النفس وحفظ الدين وحفظ ‏العقل وحفظ المال وحفظ النسل ، فهذا يعني أنها تنص على الضروريّ من مصالح العباد في ‏الاستقرار والاستمرار والعمران. إن خولفت فلا يعني أنّ النص قد خولف، بل يعني أنّ أسباب ‏التمكين قد خولفت، وعليه يكون الهلاك بالذنوب ليس أمراً إلهياً انتقاميا، بل هو أمرٌ طبيعيٌّ ‏تلقائيّ يقتضيه الإضرارُ بأيٍ من مصالح العباد بشكلٍ أو بآخر، لكونهم من هذه الطبيعة، وينبغي ‏أن يلتزموا بنظمها حتى لا يسحقهم الفساد في الأرض؛ وفقاً للنظام أو الأنظمة التي خلق الله ‏الكون وفاقَها. ‏
‏8.‏ إنشاء قوم آخرين
وإذا قيل إنّ النصَّ يسندُ أفعالَ التمكين والإرسال والجعل والإهلاك، إلى الله، وليس إلى ‏هذه الأنظمة، فنرى أنّ هذا الإسناد إنما هو إلى القوة القديرة على خلق هذا الأنظمة، وقد طالبَنا ‏في غير موضعٍ في القرآن الكريمِ أن نفهم هذه الأنظمة لنحسن استثمارها، سواء كانت أنظمة ‏الطبيعة أو أنظمة التكاثر والاجتماع والتعامل مع الكون وما وراء الكون.‏
إذن، أهلكوا بذنوبهم، أي مخالفتهم الأنظمة. وكذلك من هذه الأنظمة أن ينشأ آخرون.‏
‏﴿‏وَأَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ﴾‏ ‏. والنشوء "حدوث الشيء من جنسه مبتدَأ صغيرًا آخذًا ‏في الاستغلاظ. ....فالنُشُوء يشمل الوجود ومرحلة النمو إلى قرب تمام القُوَى"‏ ، جيء بفعل ‏الإنشاء مسنداً إلى الله جلّ وعلا، لما ينطوي عليه من إشارات تحيل على الإيجاد وفاقاً لأنظمة ‏الإيجاد الواعدة، فلو قال "أوجدنا" لما أحال على الوعد بالنموّ والربوّ، وهذا ما لا يتناسب مع كونِ ‏الذين أنشأهم، أنشأهم على نحو تاريخيّ ينبغي أن يؤدّوه، ليطبعوا الزمان بنشاطهم الذهنيّ ‏والسلوكي، وليعمروا الأرض وفاق رؤاهم الخاصة للمكان والزمان والإنسان، تلك الرؤى التي تتشكلُ ‏عادة بالتفاعل والتراكم والتطور والنموّ، حتى يستحقوا لفظة "قرن"، وذلك لا يتأتّى إلا بالتدريج ‏والاجتهاد. لذا تكون مفردةُ "أنشأ" الناقل الأمين لهذه المقاصد.‏
أما علة جرّ الظرف "بعد" بــ"من" فذاك انسجاما مع مقاصد الخلق في إعمار الأرض، ‏فالمهلَكون كانوا عُمّاراً إلا أنهم خالفوا سنن الطبيعة فأهلكوا، أنشأ الله وفق نظام الإنشاء في ‏الأرض من يواصلون الإعمار مستفيدين من أخطاء السابقين. حرف الجر "من" يجعل الإنشاء ‏في أوّل الزمن "بعد"، ليؤكد حقيقةً تاريخيةً بالغةَ الأهمية وهي التواصل والتراكم الحضاريّ، فلو أنه ‏قال "وأنشأنا بعدهم" لكانت العبارةُ تعني نسف كل منجزات السابقين وطمسها، أضف إلى أنّ ‏البشر المظروفين في الظرف "بعد" من دون "من" يحتمل أن يكونوا بعد ألف سنة، أو أقل أو ‏أكثر. وهذا لا يؤدي الدلالة المرجوّة في الإشارة إلى التواصل الحضاري، انسجاما مع التأنيب الذي ‏استُهلت به الآية الكريمة.‏
‏9.‏ الله بين المفرد والجمع ‏
وهناك في هذه الآية كما في آياتٍ كثيرة من القرآن الكريم، نلاحظ أنّ النصّ يقدّم الله في ‏صيغة المفرد في مواضع، وفي صيغة الجمع في مواضع أخرى. كأنْ يقول‎ :‎‏﴿إِنِّیۤ أَنَا ٱللَّهُ رَبُّ ‏ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾‏ ، و﴿إِنَّا لَا نُضِیعُ أَجۡرَ ٱلۡمُصۡلِحِینَ﴾‏ ؛ فهل لذلك من دلالةٍ يستفاد منها في هذا ‏السياق؟
إذا وافقنا الذين قالوا بأن "نا" و"نحن" ضمائر العظمة، فإنّنا بذلك نتجاهل العظمة في ‏قوله: ﴿قَالَ كَذَ لِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَیَّ هَیِّنࣱ وَقَدۡ خَلَقۡتُكَ مِن قَبۡلُ وَلَمۡ تَكُ شَیۡـࣰٔا﴾‏ ، لماذا لم يقل ‏خلقناك؟؟؟؟ أم أنّ هناك ما يقتضي إظهار العظمة في آيات وفي آيات أخرى لا يوجد ما يقتضي ‏ذلك! بصراحة إنّ هذا الزعم غير مقنع، فالعظمةُ ملازمة لله في كلّ موضع، فـالخلق يدل على ‏عظمةِ الخالق سواء كان المخلوق فردا، أو جنساً فهو عظيم في قوله:﴿وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ مِن ‏سُلَـٰلَةࣲ مِّن طِینࣲ﴾‏ ، وكذلك عظيم في قوله: ﴿وَقَدۡ خَلَقۡتُكَ مِن قَبۡلُ وَلَمۡ تَكُ شَیۡـࣰٔا﴾‏ ‏. هنا يدلّ ‏إسنادُ فعل الخلق إلى الضمير "نا" على العظمة ، بينما يسند الفعل إلى التاء في قوله "خلقتك" ‏فلا يدلّ على العظمة!!!.‏
إذا استعرضنا الآيات التي انطوت على إفراد المسند إليه، سنلاحظُ أنّ مدار الكلام فيها ‏هو الألوهةُ والعبادة﴿ إِنَّنِي أَنَا اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي﴾‏ ‏ ﴿ وَمَا خَلَقْتُ ‏الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَ لِيَعْبُدُونِ﴾‏ ‏ أو ما يحصل بعد النهاية﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ﴾‏ ‏..﴿ إِنِّي ‏جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا﴾‏ ‏. أو ما قبل الخلق﴿‏‎ ‎وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ إِنِّی جَاعِلࣱ فِی ٱلۡأَرۡضِ ‏خَلِیفَةࣰۖ قَالُوۤا۟ أَتَجۡعَلُ فِیهَا مَن یُفۡسِدُ فِیهَا وَیَسۡفِكُ ٱلدِّمَاۤءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّیۤ ‏أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ﴾‏ ‏..﴿ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ﴾‏ ‏.﴿ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ ‏وَالأرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾‏ ‏. ﴿قَالَ كَذَ ⁠لِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَیَّ هَیِّنࣱ وَقَدۡ خَلَقۡتُكَ ‏مِن قَبۡلُ وَلَمۡ تَكُ شَیۡـࣰٔا﴾‏ ‏. كلها أفعالٌ لا تحتاج نظاماً أو أنظمة تحصل وفاقها، بل يتفرد الله بها ‏وهو ﴿فعالٌ لما يريد﴾‏ ‏.‏
أما التي انطوت على الجمع فمدار الكلام فيها أفعاله ـــــ جلّ وعلا ـــــ التي تقدّمُ قدراته في ‏الحياة الدنيا باختلافها، ومنها ما يتعلّقُ بالرسالات منه وعلاقته بها﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ ‏لَحَافِظُونَ﴾‏ ‏. ﴿ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾‏ ‏﴿ فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا ﴾‏ ‏.ومنها ما ‏يتعلقُ بالطبيعة ﴿ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ﴾‏ ‏. ﴿ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً﴾‏ ‏. ﴿ وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ ‏مَاۤءَۢ بِقَدَرࣲ فَأَسۡكَنَّـٰهُ فِی ٱلۡأَرۡضِۖ وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابِۭ بِهِۦ لَقَـٰدِرُونَ﴾‏ ‏. ومنها ما يتعلّق بخلق الإنسان ‏وتوجيهه وإفنائه أو فنائه﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ﴾‏ ‏. ﴿ ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً ‏آخَرِينَ﴾‏ ‏. ﴿كَذَّبُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذۡنَـٰهُمۡ أَخۡذَ عَزِیزࣲ مُّقۡتَدِرٍ﴾‏ ‏. ﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ ‏مَالٍ وَبَنِينَ﴾‏ ‏ ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى..﴾‏ ‏ ومنها ما يتعلّقُ ‏بالتحويل والتصيير﴿فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّیۡنَـٰهُ وَمَن مَّعَهُۥ فِی ٱلۡفُلۡكِ وَجَعَلۡنَـٰهُمۡ خَلَـٰۤىِٕفَ وَأَغۡرَقۡنَا ٱلَّذِینَ كَذَّبُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَاۖ ‏فَٱنظُرۡ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلۡمُنذَرِینَ﴾‏ ‏.‏
كل هذه الآيات إنما تشير إلى فعل الله في الطبيعة والاجتماع الإنسانيّ والعلاقات بين ‏الإنسان والطبيعة، فلا يغيّر في هذه الأنظمة ولا يعطّلها، بل هي مظهر قدرته التي تتجلى لبني ‏البشرِ آياتٍ ينبغي فهمها للتعامل معها. فالذنوب تكون في إساءة التعامل، والإحسان يكون في ‏حسن التعامل، وعليه يكون الاجتماع الإنسانيّ متخلفاً أو راقياً، ويبلغ المقصد التاريخيّ الذي ‏مضى في سبيله متوافقاً مع النظم أو عاصياً لضروراتها ومتطلباتها.‏
وعندما يقول الله بصيغة الجمع "أهلكنا"، أو "صببنا الماء" إنما يكون المتكلمُ هو تلك ‏الأنظمة التي لا ينبغي لها أن تعصي أو تقبل. فالله خلق هذه الأنظمة وبرمجها لتهلك أو تصب، ‏وليس لها أن لا تفعل. فعندما يقول فعلنا ذاك أن الفاعل إنما هو تلك الأنظمة. ولا يعني ذلك ‏أنها شريكة الله في الفعل، بل يعني أنها مظاهر لبعض قدرات الله. فعندما يتكلم ويقول نحن يعني ‏قدراته التي تقول نحن. ‏
باختصار،الله، بيده ملكوت كل شيء، عندما ينشئ قوماً، إنما ينشئهم وفاق أنظمةِ الإنشاء ‏التي خلقها في الكون، أو أنّ أنظمة الإنشاء تقوم من تلقائها بإنشاء قومٍ آخرين، انسجاماً مع ‏وظائفها. وكذلك عندما تتمرّدُ أمّةٌ على أنظمةِ الطبيعة من دون علم؛ تهلكها أنظمةُ الطبيعةِ ‏تلقائيّاً، وليس انتقائياً؛ لأنّها هكذا تعمل.‏
الخلاصة
في خلاصة الأمر؛ هل توصلنا إلى إجابات مقنعةٍ عما كان يدور في خلدنا من أسئلة؟
إنّ الطريقة التي بها عِاينّا الآية الكريمة، ساعدتنا كثيراً للاقتراب مما نعتقده الصواب، ‏لجهة القول بصراحة ليس الله من يهلكنا، بل نحن بذنوبنا، وعدم التزامنا الأنظمة الواجب التزامها ‏في حفظ الظروف المؤاتية للبقاء والاستمرار. ‏
ربّ قائل، ما كان الأمر يحتاجُ كثيراً من التدقيق اللغوي، لإثبات ما هو مثبت في ظاهر ‏الآية بتوصيل أثر فعل الإهلاك المسند إلى الله، إلى ذنوبهم بواسطة باء التعليل. هذا صحيح، ‏ولكن الذي كان مثيراً، هو ضمير الجمع كنايةً عن الله الواحد الأحد؛ حاولنا فهم ذلك في هذا ‏العمل، لنتبيّنَ أن الله جلَّ وعلا عندما يقدّم لنا أفعاله في الدنيا إنما يتكلم باسمِ قواه اللازمة لذلك، ‏لا باسم صفاته، فتكون الصيغة الملائمة هي صيغةُ الجمع، وعندما يتكلم على ما قبل الخلق وما ‏بعد النهاية، في كونه الخاص جداً حيث لا يكون لهذه الأنظمة الكونية أي حضور، تكون صيغة ‏المفرد هي الصيغة الملائمة. ‏
وقد عددنا هذه القوى هي جملة الأنظمة التي وفاقها خلق الله الأكوان، وتبيّن لنا أيضاً أنها ‏مخلوقةٌ بطريقةٍ تهلك من يخطئ في التعامل معها تلقائيا، وتحيي من يفهمها ويتلافى مخاطر ‏أخطارها تلقائياً.‏
وخلصنا أيضاً في هذا العمل، إلى فهم الذنوب على أنها سلوك مخالف لإكراهات الأنظمة، ‏بما يتسبب بالهلاك. فلا الأدعية تدفع أخطارها ولا الصلوات، ويكون التقرب إلى الله فهما عميقاً ‏لقواه التي تشكّلُ انتظامات الوجود.‏
وتبيّن لنا في آخر الأمر أنّ مقاصد النص ينبغي أن تكون حاضرةً في المنظومة الثقافية ‏المرجعية عندما نعرض الآيةَ أو أيّ آية علينا، وذلك أنّها مستخلصةٌ من توجيهات النصّ ‏التأسيسيّ لتحريك أساسيات سلوك الناس اليومي، فرادى أو جماعات، بهدف تأمين مصالحهم في ‏هذه الحياة، في أمنٍ آمن للاجتماع البشري واقتصاده وموارده. ‏
إذن؛ ما يلزم في مواجهة هذه الجائحة، أو أي جائحة منتظرة، هو تغيير آليات عمل ‏أذهاننا بما يتناسب مع علومنا ومعارفنا، وباعتماد نصائح أهل الاختصاص، والجرأة على خرافاتنا ‏الموروثة أو المبتدعة، مهما كانت درجة قداستها زوراً وبهتانا.‏
والله من وراء القصد
‏ ----------‏
القرآن الكريم.‏
‏1.‏ ابن عاشور، محمد بن الطاهر، مقاصد الشريعة الإسلامية، دار الكتاب اللبناني، دار الكتاب ‏المصري، بيروت، القاهرة، 2011.‏
‏2.‏ ابن فارس، أحمد، مقاييس اللغة، تحقيق عبد السلام هارون، دار الفكر، بيروت، 1979.‏
‏3.‏ ابن منظور، محمد بن مكرم بن علي، لسان العرب، دار صادر، بيروت، 1414هـ
‏4.‏ الأندلسي، أبو حيان، محمد بن يوسف، تفسير البحر المحيط، تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد ‏الموجود والشيخ علي محمد معوض، دار الكتب العلمية بيروت، 1993. ‏
‏5.‏ جبل، محمد حسن، المعجم الاشتقاقي المؤصّل. مكتبة الآداب، القاهرة، 2010.‏
‏6.‏ السمين الحلبي، عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ،‎ ‎تحقيق:محمد باسل عيون السود، دار ‏الكتب العلمية، بيروت، 1996.‏
‏7.‏ محمد بن الفضل، الحسين،(الراغب الأصفهاني)، المفردات في غريب القرآن، تحقيق محمد ‏سيد الكيلاني.دار المعرفة، بيروت، لا.ت.‏








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تعقيب
على سالم ( 2020 / 6 / 7 - 02:41 )
مقالتك اكيد طويله وممله , انت تجيد التبرير والسفسطائيه والالتفاف والكذب , انت ايضا خبير فى تزويق وتجميل ايات القرأن البدويه الدمويه المتوحشه , يجب ان تكون صادق فى تبريراتك وشرحك العقيم

اخر الافلام

.. الناخبون العرب واليهود.. هل يغيرون نتيجة الانتخابات الآميركي


.. الرياض تستضيف اجتماعا لدعم حل الدولتين وتعلن عن قمة عربية إس




.. إقامة حفل تخريج لجنود الاحتلال عند حائط البراق بمحيط المسجد


.. 119-Al-Aanaam




.. تغطية خاصة | المقاومة الإسلامية في لبنان تكبح قدرات الاحتلال