الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المتمرد: صادق جلال العظم

محمد شيخ أحمد

2020 / 6 / 8
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني




المتمرد: صادق جلال العظم
الجانب المضيء من مسيرة مفكر إشكالي، (محطات من ذاكرة وطن)



ما بين القاع الاجتماعي المهمش في التاريخ السوري، بكل أبعاده المادية والفكرية (بالمعنى الواسع)، والارستقراطية المدينية العريقة، التي انبثق منها صادق جلال العظم، ثمة رابط وحّد بين عالمينا، رابط اتسم بالتمرد على كل ما هو موروث، من إرث بطريركي تسلطي وقروسطي، يغلف الفضاء المجتمعي بصور شتى، تبدأ من لحظة الولادة. تنسل من خلال العرف التقليدي في التربية التي تكرس الخنوع والضحالة والإيمان الأعمى البصيرة والمخدرة للعقل، والتسليم لأولي الأمر والنهي، المتجسدين بقمة الهرم المجتمعي في السياسة والدين.
وكما تكرس في لاوعي العظم ما يرمز إليه بيت العائلة العريق في الجسر الأبيض، من خلال ما عناه لوالدته من قمع وقهر وقيد، كذلك عاش في مناخ مدرسة كمال أتاتورك السياسية التي كان أبوه وعمه من أنصارها الفاعلين، حيث ساد جو من التسامح والانفتاح والليبرالية، وذلك لأن التدين في الوسط الارستقراطي وحسب العظم ينحو لأن يكون عملياً لما تتطلبه موازين السلطة والقوة والعلاقة بينهما، وعليه لا بد أن يتسم بالمرونة للمحافظة على المصالح المتبادلة..! وإن وجد تعصباً فهو لتوكيد البطريركية المسيطرة، كما لجسر الرابط مع العامة عن طريق رجال الدين لترسيخ السيادة والتسلط ليس إلا. وهو على النقيض من التدين الشعبي الذي يجد فيه ملاذه الأخير..!. وهذا ما غاب عن الدكتور صادق جلال العظم عند حديثه عن (العلوية السياسية)، في سياق حديثه عن (الثورة السورية)، وهو ما يحتاج لبحث آخر مجاله ليس هنا.
النافذة التي أشرعها صادق
يمثل العظم الجيل الثالث من رواد التنوير العربي، إلى جانب (لويس عوض والجابري وجمال حمدان وأركون ومهدي عامل وحسين مروة..إلخ). هذا الجيل الذي أُثقل كاهله بأزمة وجودية بكل أبعادها الحضارية، عقب هزيمة حزيران 1967.
تعرفت عليه بداية عن طريق كتابه "نقد الفكر الديني" ، الذي حسم موقفي في دراسة الفلسفة لاحقاً، ليس لأني وجدت فيه ملاذاً لهواجسي، أو مسوغاً لتمردي المبكر على المؤسسات كافة بدءاً من الأسرية والتربوية والمجتمع والفقر..، وحتى السلطة السياسية (وإن كان بشكل عفوي)، وإنما لأني وجدت فيه حينذاك ذاتي ، ما كنت أهجس به خلال صدامي اليومي مع البنى المؤسسة لتركيبة المجتمع السوري، والبيئة المجتمعية التي ولدت فيها وترعرعت.


عرفني على الدكتور صادق جلال العظم فيما بعد رفيق في (حزب العمل الشيوعي) في سهرة في المخيم. كان كواحد منّا، ليس ذاك الأكاديمي صاحب الطريقة والمنهج، وما حوله مريدين وطلاب، وليس ذاك الأب الذي عليك الاستماع لنصائحه وتعليماته، وليس تلك الأيقونة التي عليك اللهج بحِكَمها التي لا يطالها النقد، وليس ذاك الذي يقدم لك اليقين في كل ما تتساءل عنه، وباختصار أيضاً ليس ذاك الموسوعي، صاحب جراب الحاوي.
كان مفكراً إشكالياً وسجالياً من الطراز الرفيع، وصاحب عقلية نقدية وعلمية جدالية، همها تفكيك التابوات، والولوج للأعماق المظلمة في الفكر والمجتمع الإنسانيين، لاستجلاء مكوناتهما، ورفع الحصانة عنهما. كان موضوعياً في نقده ورؤاه قدر الإمكان.! حيث لا مكان للذات الباحثة عن المعنى والفعل في إسقاط تصورات مسبقة. حيادياً تجاه الظاهرة المجتمعية التي يحللها، إلى حدّ ما، لأنه لا مجال للعواطف في تعرية الظواهر المجتمعية وتفكيكها. مشاكساً ومستفزاً ومبتكر أفكار، سواء للذات الباحثة والنهمة للحقيقة والمعرفة، أو للمستنقعة في مطلقاتها ويقينياتها على السواء، كان (نكّاش دبابير) بالمصطلح العامي، فأينما وجد لا بدّ أن يحرّض (الأموات- مجازياً ) على الخروج من القبور المصطنعة بمقاس الإيديولوجيات الشمولية آنذاك، والممهورة بخواتم القداسة والمحرمات، ولا بد أن يُثوّر المستنقعات أو يصيبها بالاضطراب أو الهيجان، حيث لا مكان للسكون، في عالم الحركة والتغير الدائمين.

أ-الإشكالي المحرض
لم يتدرع العظم برداء الأكاديمي التقليدي أوالسلحفاتي، بل ارتقى بمفهومه وانتقل إن قلنا تجاوزاً، من فضاء الأكاديمي إلى الفضاءات الأخرى. منذ الستينات عقب عودته من الولايات المتحدة الأمريكية، وتعيينه كمدرساً مساعداً في الجامعة الأمريكية ببيروت، وبدتا (المدينة والجامعة) أكثر تألقاً وتوهجاً وحيويةً، سواء في محاضراته العامة التي كان يقدمها في النادي الثقافي العربي، ومن بينها محاضرتين نشرتا فيما بعد في كتابه "نقد الفكر الديني" وهما "الثقافة العلمية وبؤس الفكر الديني" و"مأساة إبليس"، وتوّجهما بمراجعة نقدية لمؤتمر أقامه شارل مالك في الجامعة الأمريكية تحت عنوان: "الله والإنسان في الفكر الإسلامي المعاصر"، ونشرها في جريدة النهار في شباط/ فبراير 1967، تحت عنوان: "الله والإنسان في الجامعة الأمريكية"، و(القشة التي قصمت ظهر البعير)، كانت بنشر كتابه "النقد الذاتي بعد الهزيمة"، والذي كتبه في حرم الجامعة الأمريكية، فصدر قرار الجامعة بإعفائه من مهامه وعمله في الجامعة، وإثر ذلك قامت تظاهرات طلابية، أدت لتعطيل التدريس ثلاثة أيام في كليات الجامعة كلها بما فيها كلية الطب، وهذا يعتبر سابقة في حينه، كما أنه يعبر عن مدى التصاق الأستاذ الجامعي بالطلاب، ومدى قربه من فضاءاتهم بشكل خاص، وليس الأكاديمي فحسب.



ب-بين دمشق وبيروت
هذا المشهد لن نشهده في جامعة دمشق ، ليس لأن الدكتور العظم لم يخترق فضاءات الطلاب، ويغوص في تجاربهم، ويكون جزءاً منها، أو ترك مسافة أمان بين الأستاذ وبين الطلاب، أو أبقى جدار الهيبة الأكاديمية حائطاً فاصلاً، أو مصطبة مرتفعة ومسورة، وإنما فضائي المدينتين مختلفين ببساطة.!
على مستوى المكان والزمان:
لكل من المدينتين بصمتها الخاصة، التي لا تمحى في حياة ومسيرة وفكر صادق جلال العظم، وإن اعتبر نفسه دمشقياً شامياً بامتياز، إلا أن الفترة الزمنية التي عاش فيها في بيروت أكبر من تلك التي عاشها في دمشق. إضافة إلى أن المرحلة مابين الخمسينات وبداية السبعينات، كانت مرحلة انتقالية استثنائية، من حيث الظرف الحضاري والسياسي للمنطقة، بدءاً من النزوع للتخلص من الإرث الاستعماري وذيوله المشرّشة في القاع الاجتماعي والسياسي، إلى صعود المد القومي والفكر الراديكالي والمقاومة الفلسطينية، التي طغى فضاءها على ما عداه، بغض النظر عن سياقاته وتأثيراتها على الشارع العربي وأنظمته (لأن مجالها ليس هنا). كما كان لهزيمة 1967، وقعها المزلزل على كافة المستويات المجتمعية، من سياسية واقتصادية وفكرية وإيديولوجية..، حيث تعرت وتساقطت شعارات البطولة الدون كيشوتية والشعبوية. واتجه اهتمام صادق جلال العظم كالعديد من المثقفين في تلك المرحلة- كـ سعد الله ونوس "حفلة سمر من أجل 5 حزيران"، ونزار قباني "هوامش على دفتر النكسة"..إلخ- إلى نزع ورقة التوت الأخيرة عن نظام عربي منخور من القاع، وتجلى ذلك في كتابه " النقد الذاتي بعد الهزيمة". ومن ثم انتقاله للعمل ضمن أطر المقامة الفلسطينية، حيث ساهم في مركز الأبحاث التابع لها في بيروت، مع مجموعة من المثقفين، والتي حاولوا فيها كسر جدار الوهم والغموض الذي بنته الأنظمة وإيديولوجياتها عن إسرائيل، والقيام بحركة تنويرية هدفت لمعرفة الأسباب الحقيقية الواقعية التي أدت للهزيمة. إذ أن السياسات الرسمية العربية، تلك السياسات التي اتسمت بحالة مرضية نكوصية تجاه إسرائيل، من خلال منع وتحريم أي مقاربة أو دراسة أو ذكر لكل ما يتعلق بهذا الكيان، والتي استمرت إرهاصاتها حتى ما بعد التسعينات..!

مرحلة طغى عليها هموم الهزيمة والمقاومة الفلسطينية وحرب الاستنزاف، أمضاها صادق في التنقل ما بين بيروت وعمان ودمشق، حيث كان النشاط السياسي والفكري مهيمناً، راهناً جلّ طاقاته للمقاومة الفلسطينية، شأنه شأن العديد من المثقفين، وإن رافقه عملاً أكاديمياً خجولاً.
ففي منتصف 1968، دّرس في الجامعة الأردنية لعدة أشهر، كانت كافية بالنسبة للسلطات الأردنية لوضعه على لائحة الممنوعين من دخول البلد بعد ترحيله على طائرة مسافرة إلى بيروت. وفي نهاية العام 1969، انفجرت إشكالية كتابه "نقد الفكر الديني"، على خلفية تناوله وطرحه للعديد من القضايا المحرم تناولها، أو وضعها على بساط البحث سواء بما يتعلق بالمؤسسة الدينية أو السياسية بالتحديد، وخلخلة ما هو سائد في الفضاء الاجتماعي العام الذي يهيمن عليه كلا السياسي والديني بآن معاً. هذا من جانب ومن جانب آخر صدمة الهزيمة العسكرية لثلاثة جيوش عربية أمام الجيش الإسرائيلي..! الذي أسقط الأقنعة التي تتستر بها المؤسسات السلطوية من دينية وسياسية ومدنية وحتى القضائية. وعلى إثر ذلك طلب مفتي الجمهورية اللبنانية بإحالة المؤلف والناشر والكتاب إلى المحاكم، كما طالب بتوقيف العظم. وليسجل مفارقة غير مسبوقة في تاريخ لبنان وسورية- وإن كانت مألوفة في السياق الحضاري العربي الإسلامي- حيث فرّ من لبنان إلى سورية..! ومن ثم سلم نفسه للسلطات اللبنانية، بعد مفاوضات معها بشأن الكتاب، وأُوقف أسبوعاً على ذمة التحقيق.
ففي أواخر السبعينات صدر له كتابان في بيروت وهما: "سياسة كارتر ومنظرو الحقبة السعودية" و"زيارة السادات وبؤس السلام العادل". ومنع الكتابان في سورية..! ولفتا أنظار السلطات في سورية إليه، مما أدى لاعتكافه في بيته في بيروت، على الرغم من أنه كان يّدرس وقتها في كلية الآداب في جامعة دمشق.!

وفي منتصف تسعينات القرن الماضي وبمبادرة من عميد كلية الآداب حامد خليل، وصادق جلال العظم رئيس قسم الفلسفة بجامعة دمشق، أقيمت فعاليات الأسبوع الثقافي في الجامعة، والذي بدا حينها حدثاً استثنائياً على أكثر من صعيد في العاصمة دمشق المستنقعة بفعل الطوق الأمني في فضاءها العام- والتي أُرهقت على مدار عقدين من الزمن بالعديد من حملات الاعتقال التي طالت نشطاء العمل السياسي والفكري حينذاك- وعلى مستوى الجامعة، المغربلة برجالات المخابرات من سورها الخارجي حتى أعلى مكاتبها. ورواد الأسبوع الذين فاقوا كل التوقعات، ومن كل الشرائح الاجتماعية، والمتعطشين للحرية الفكرية- طلاباً ومثقفين وسياسيين، الذين أفرج عنهم النظام منذ بداية التسعينات، والذين وجدوا في طروحات صادق العظم وكتبه المتنفس والنافذة المشرعة لفضاء جديد من الحرية الذي طالما حلموا به، بعد حرمان مديد. ليجدوا في تلك الأسابيع نبضاً جديداً، ووهجاً لم يستطع النظام تحمله لأكثر من خمس سنوات، ليعفوا على إثرها حامد خليل وصادق جلال العظم من عمليهما في الجامعة، ليكون ذلك بمثابة رصاصة الرحمة على الأسبوع الثقافي. ولكن ليس دون بذرة ستنمو في ربيع دمشق بعد عدة أعوام، والتي وأدها نظام العهد الجديد في المهد مستنداً لإرث عريق في القمع وإسكات الصوت الآخر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القبض على شاب حاول إطلاق النار على قس أثناء بث مباشر بالكنيس


.. عمليات نوعية للمقاومة الإسلامية في لبنان ضد مواقع الاحتلال ر




.. مؤسسة حياة كريمة تشارك الكنائس القبطية بمحافظة الغربية الاحت


.. العائلات المسيحية الأرثوذكسية في غزة تحيي عيد الفصح وسط أجوا




.. مسيحيو مصر يحتفلون بعيد القيامة في أجواء عائلية ودينية