الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في توظيف الشباب: محاولة للفهم.

علي الظاهري

2020 / 6 / 10
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


1- مدخل: المقاربة والتوظيف
تُحاول هذه المقاربة أن تستفيد من العلم، علوم التربية والنفس، وبخاصّة علم الاجتماع، بحثا في غائية التوظيف الذي يقع على الشباب العربي، أساسا، وليس الشباب في حدّ ذاته كفئة عمرية. لن نخوض في تعريفات الشباب باعتبارها معلومة في مختلف أدبيات العلوم الإنسانية، وهي ليست محلّ إجماع، فللسنّ مراحله ودلالاته، التي ترتبط بخصائص نفسية-اجتماعية وفيزيولوجية، وللخبرة – أيضا- والتجربة والتنشئة دلالات إضافية، يتحوّلُ معها هذا الأخير إلى كيان اجتماعي أو نتاج مجتمعي.
وبهذا المعنى يصبح الشباب، في المفرد والجمع، تعبيرا عن خصائص وسلوكيات مُميّزة ومُتمايزة في آن معا، تنضوي تحت مواقع ومشاغل ورغبات وقدرات... وهو لم يعد "كتعريف" سوى كلمة كما يقول بورديو.
التوظيف، في اللغة العربية، إسم مُشتق من فعل رباعي وظّف، يوظِّف ، توظيفًا، فهو مُوظِّف والمفعول به مُوظَّف. اصطلاحا، يتضمّن "التوظيف" في جلّ المعاجم العربية، إجماعا على معاني النفعية: كتوظيف المال واستثماره، أو إسداء خدمة لفرد لأداء دور أو مُهمّة وظيفيّة، تعود بالنفع عليه وعلى مُوظِّفيه. والتوظيف – في هذا الإطار- ألمفهومي، يعنى الإسناد والدعم، وتثمين القدرات والمهارات، كما تُقرّرها مختلف أدبيات الحقول التي تتعامل مع الشباب، ومنها "الحقل التربوي –الاجتماعي، الشبابي والثقافي، والرياضي، وغيرها... هذا التوظيف، من حيث المعنى المجرد، فلننظر فيه في واقع الممارسة العمليّة.
2- التوظيف، توظيفات.
كثيرا ما يقترن التوظيف الشبابي أو توظيف الشباب بالحقل السياسي، ويُفهم ذلك –سلبا- من أجل منفعة أو مصلحة أو غاية تنتهي بانتهاء التوظيف. خلافا لذلك، للتوظيف معان كثيرة، اقتصادية واجتماعية وثقافية وتربوية أيضا...
للتوظيف، خطاب ولغة وأنساق، تترجم عبر"هبيوتوسات" فاعلين،أي عبر طبائع وممارسات ومواقع وراساميل واستعدادات مبنيّة، وهي ليست ببريئة خاصّة، عندما ترتبط بحقل السلطة: حقل المهيمنين والمهيمن عليهم.
التوظيف بهذا المعنى، لم يعد توظيفا من أجل أهداف مُعلنة ونبيلة، بل من أجل المُهيمنِين، فيخون الدال مدلوله، عندما يقترن بفعل الممارسة، في أفعال مُكرّرة بحكم العادة، يغيب في معظمها الوعي الهادف عن قصد، فيصبح الخطاب حول – توظيف الشباب- ممجوجا ولا يحيل عليه. التوظيف حينئذ، توظيفات، يمكن أن يكشف عنها واقع الممارسة، كما يكشف عنها واقع الفاعلين: المُهيمنين والمهيمن عليهم. السياسي يُوظّف الشباب بمعنى الاستخدام لإغراض لعلّها في معظمها من أجل اعتلاء السلطة أو المحافظة عليها، لكن التربوي أو الثقافي أو الإعلامي، أو من يضطلع بمهمة التنشئة الاجتماعية، يتحوّل هو الآخر إلى أداة للهيمنة على الشباب، بدل تحريره من الهيمنة، وهو لا يقلّ خطورة عن الفاعل السياسي.
كل هذه التوظيفات في علاقة وثيقة براساميل، نراها في واقع الممارسة في حالة صراع واضطراب، وهي تزداد حدّة وعنفا رمزيا، كلّما ضعف المناخ الديمقراطي في بلداننا العربية، وهي محلّ تفاوت حسب أنظمة الحكم فيها، ولكن في الأخير هي نتاج ثقافة شمولية أبوية، غير ديمقراطية، وإن إدّعت ذلك، وهذا ما سنحاول توضيحه في أغلب الحقول المعنية بالدرس.
أ-الشباب في التوظيف السياسي
الشباب فاعل، يريد ويفعل ما يريد، الشباب طاقة حيويّة، الشباب مصدر التغيير، مجتمعاتنا العربية مجتمعات شابة، الشباب يستعد لمستقبل واعد، الشباب عنوان الفرحة والسعادة. هذه مقدمة لشعارات مُكّررة كما ذكرنا سابقا، لا تحمل من حقيقتها سوى ما يُردّده الفاعل السياسي زيفا. الشباب في واقع الممارسة، ليس سوى خزان للتعبئة. ولكن ليست هذه كلّ الحقيقة، فعندما ننظر في الجغرافيا الاجتماعية للشباب، نجدها تحيل على تمايزات وامتيازات لشباب دون آخر. الذين تمكنوا من بلوغ مراتب سياسية مُهمّة من الشباب، هم في الواقع من المحظوظين اقتصاديا وماليا. هذا ينطبق على كثير من واقعنا العربي، ففي تونس مثلا، أبناء النافذين سياسيا وإقتصاديا، هم من ينعمون بخيرات السياسة وتبعاتها. هذا ينطبق على الجغرافيا الاجتماعية التونسية في علاقة – أيضا- بالوسط والمنحدر الاجتماعي والبيئة والمناخ...
ب- الشباب في التوظيف التربوي - الاجتماعي والثقافي
إننا في وحدة مُجتمعية، نتقاسم خيرات البلد وموارده، تبدو فيها مغالطة كبيرة، ليس بالمعنى الاقتصادي والسياسي فحسب، إنما منظورا إلى ذلك في الواقع التربوي أيضا. الواقع الذي تسنده مؤسسات الإحاطة والرعاية والتربية والتعليم، من مدارس وجامعات ودور للشباب والثقافة ونواد للطفولة، ومراكز للمسن والكفيف وذوي الإعاقة. هو واقع مُهيمن عليه ويمارس هيمنة في آن معا. مُهيمن عليه لأنّه ببساطة لم يتحرر من سلطة السياسي أو الحاكم بأمره. هذا ما نلمسه في كثير من المُقررات الدراسية مثلا، أو الموازية لها في مؤسسات التربية الاجتماعية، فغالبا ما يتحوّل المربي أو الإطار التربوي، عموما، إلى أداة للهيمنة السياسية، بوعي منه أو دون وعي. الفاعل التربوي، كما نعتقد، أخطر بكثير من الفاعل السياسي، لماذا؟ عندما يدرك أنّ كلّ ما يُخطّط له، ليس هو المعيار الحقيقي للممارسة الهادفة. هو بهذا المعنى، لا يملك شرعية ذاتية مُستقلة، وهي تُمنح له زورا وبهتانا من المُهيمن عليه في حقل السياسة الملغوم. نلاحظ في الخطاب المتعالي للمربي، في كثير من جوانبه، لا واع، كأن يمنح الشباب المحورية، في خطاب متكرر دون أرضية سانحة لفعل تربوي هادف، يغيب فيه الاختيار، والمبادرة الحقيقية، وتغيب معها تقدير الذات وتثمينها. خطاب معلن، بدقة وبأدبيات محكمة، لكنها للأسف غير وظيفيّة، ولا تُحيل على واقعها، واقع الشباب تحديدا، الذي يختلف كما بينا سابقا في جغرافيته الاجتماعية، وفي معيشه اليومي وثقافته أيضا، التي تظهر متمرّدة رافضة. هي ثقافة متمايزة أيضا، تريد أن تتحرّر من شرعية الثقافة الرسمية التي كبّلتها ببرامج وأنشطة، ليست عادلة في توزيعها. الأمثلة في واقع العمليات التربوية والتنشيطية كثيرة، ولا يمكن حصرها، إنّها تُعبّر عن تمايزات وتفرقة وإقصاء وتهميش، لمن هم في مواقع دونية من التراتب الاجتماعي. الكثير من الأحلام الطفولية والشبابية تقبر وتنتهي، عندما تصطدم بواقع الممارسة، الذي لا يدلّ على واقع الخطاب. يعود هذا إلى فرص الترقي العلمي والتمتع بالرفاه، ولفرص التشغيل لكثير من الشباب، ولانعدامه لدى أغلبية شابة تطمح لأبسط مقومات العيش حفاظا على حياتها.
ج- التوظيف الاقتصادي للشباب
الاقتصاد أو الرأسمال الاقتصادي رهان الجميع، لكنّه ليس متاحا إلاّ لمن هم في مقدمة الرأسمال الاقتصادي المنتعش. الكثير من الشعارات تُمرّر عبر الاستثمار في المشاريع بأنواعها التنموية، ولكنّها مُحبطة للكثرة، غانمة للقلة. التمايز في فرص الربح والاستثمار يصبح من باب المستحيل، حين يتقدم الضعيف أمام صاحب المال والأعمال. لا يمكن الحديث عن منوال تنموي في واقع غطرسة اقتصادية وإحتكار، يدان فيها "العيّاش" ويترك المتحيّل إلى سبيله، باسم الكفاءة والقدرة على التخطيط الجيّد. المنظومة الاقتصادية التي تسمح بفرص للجميع غير متاحة، وهي تبدأ من واقع المدرسة الذي يعيد إنتاج نفسه بلغة بورديو. وعندنا يبقى الفقير وابن الفقير في أدنى مستويات التراب الاقتصادي، إلا إستثناء لقلة يسعفهم الحظ، ويتخطون واقع الهيمنة ربّما في لحظة خاطفة...
3-الصراع من أجل الاعتراف
خارج كلّ هذه التوظيفات، يُحاول الشباب الثائر، أن يتموقع خارج هذه الدوائر المُهيمنة، فنراه يتشكّل في تنظيمات جديدة، خلاقة وفاعلة في سياقتاها الحركية. في تونس مثالا، وليس إستثناء، يشهد الفضاء العمومي حركية غير معتادة، يتوسع في الاحتجاج وطرقه، وفي أدواته وأشكاله، وهي مؤشرات تنبئُ بفعل قصدي للتغيير... الشباب الثائر، عقلا وروحا وفكرا ونقدا، ليس بالمعنى العمري الضيّق، فالكثير من الكهول والشيوخ المناضلة، تعاضد هذا الجهد وتنيره، ونلاحظ ذلك في الفضاءات بأنواعها، ومنها الفضاء المدرسي والجامعي والثقافي، والشعبي أيضا في كنف الثقافة الشعبية تجاه ثقافة تريد أن تمنح لنفسها الشرعية الدائمة، والصراع يبدو في أوجه وربما سيشهد تصاعدا...
الشباب العربي " في الربيع العربي" ورؤى المستقبل، يحتاج إلى كثير من الصراع، من أجل الاعتراف. أفصحت عن نفسها احتجاجات كثيرة، في تونس ومصر وسوريا واليمن وليبيا والمغرب والجزائر، وحتى في البلدان الأقل حراكا كالخليج العربي، ولكنّها لا تزال دون المأمول. نتابع عن كثب، الحراك الذي بدء من تونس منذ 2011، وتشكّل في تنسيقيات احتجاجية، وتعبيرات بالفن والقارافيتي والمسرح وفنون والشارع والسينما والموسيقى، ولكنها لم تتبلور في حركة إجتماعية، لأنها، كما نعتقد، في واقع هيمنة جديدة خارج الهيمنة السياسية التقليدية، هي تبحث لها عن طريق ورؤى، وهي تشعر بصراخ يعلو أحيانا ويخفت. الصراع ليس أمامه فاعل مادي واضح، بقدر ما هو منضوِ تحت فاعلين جدد متمترسين في رأسمال مُهيمن، بأشكال مختلفة وخفيّ، يكشف عن أنيابه من حين لآخر.
مع كلّ ذلك، يبقى الأمل –أولا- في النخب المثقفة ومن وراءها الجماهير المضطهدة، المؤمنة بالتغيير وبالثورة الثقافية لتغيير الذهنيات والعقليات، وتحرير النفوس من دائرة أوهام الايدولوجيا وأمراضها، ولا يزال الأمل قائما في مستقبل أفضل، مستقبل عدالة حقيقيّة بعيدا عن الغطرسة والتوظيف...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حماس وإسرائيل.. محادثات الفرصة الأخيرة | #غرفة_الأخبار


.. -نيويورك تايمز-: بايدن قد ينظر في تقييد بعض مبيعات الأسلحة ل




.. الاجتماع التشاوري العربي في الرياض يطالب بوقف فوري لإطلاق ال


.. منظومة -باتريوت- الأميركية.. لماذا كل هذا الإلحاح الأوكراني




.. ?وفد أمني عراقي يبدأ التحقيقات لكشف ملابسات الهجوم على حقل -