الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في مفهوم التنمية من منظور علم الاجتماع

محمد الهادي حاجي
باحث متحصل على شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع

(Hajy Mohamed Hedi)

2020 / 6 / 10
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


- مفهوم التنمية :لمحة سوسيولوجية.
تعددت تعريفات ومفاهيم التنمية باختلاف وتعدّد المدارس والمقاربات. وتباينت التصورات انطلاقا من المفهوم والممارسة فهي قضية معقدة وشائكة في نفس الوقت. ويختلف هذا المفهوم من إطار نظري إلى آخر ومن تخصّص إلى آخر على اعتبار تعدّد التخصصات العلمية المهتمة بالتنمية.
ويمكن القول في هذا السياق إن نشأة المفهوم ترجع أساسا إلى عمق الفجوة بين الدول الغربية المستعمِرة والدول النامية المستعمَرة، فقد تبلور هذا المفهوم بأكثر وضوح عند حصول بعض الدول على استقلالها ووقوفها على مشاكلها المتراكمة الناتجة عن الاستعمار ولذلك نشأ مفهوم التخلف للتدليل على الانحطاط والركود، وهو المقابل لمفهوم التنمية الذي يدل على الحركية والتطور والتقدم والنهوض والنمو... لذلك شاعت التقسيمات بين عالمين "المتقدم" "و المتخلف" أو كما يسميها سمير أمين في نظرية "التطور اللامتكافئ" أو "التبعية" بالمركز والأطراف وجدلية التفاعل بينهما. ومن هذا المنطلق فإن التنمية كانت ولا زالت الهدف الأساسي والرئيسي لكل المجتمعات التي مازالت ترضخ تحت خط الفقر.
ويمكن تحديد تعريف التنمية من خلال تقرير هيئة الأمم المتحدة للتنمية في 1955 حين تعتبرها "العملية المرسومة لتقدم المجتمع جميعه اقتصاديا واجتماعيا اعتمادا على إشراك المجتمع المحلي" . فهي تخطيط يقوم على استيعاب الإمكانيات المحلية واستقطاب الموارد البشرية والفنية واستغلالها في البرامج والمشاريع التنموية لخلق ممهدات النهوض الاقتصادي والاجتماعي وذلك بالاعتماد قدر الإمكان على جهود الأهالي ومشاركتهم ومساعدتهم في تحقيق الاندماج في المجتمع والمساهمة في تقدمه. فالتنمية لها بعد اجتماعي على اعتبار مبدإ التشارك والتعاون بين جميع فئات المجتمع ومؤسساته العامة والخاصة وهياكله المدنية. ومن هذا المنطلق فإن العملية التنموية تتحدد من خلال مجموعة من الوسائل والطرق أو المسالك التي تستعمل لتوجيه جهود وإرادات الأهالي مع السلطات العامة قصد تحسين وتجويد مستوى الحياة من الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في المجتمعات المحلية وإخراج هذه المجتمعات من عزلتها وتقوقعها و انغلاقها لتساهم إيجابيا في الحياة العامة ، فالمشروع التنموي لا يجب أن يكون خارجا عن خطة وطنية شاملة تأخذ في الاعتبار البعد التكاملي في ضرورة التنسيق بين جميع فعاليات المجتمع لتحقيق التنمية الشاملة، وهو مشروع ربط الفئات الاجتماعية والمجتمع الشامل، من جهة وبين مشروع التنمية والخطة الشاملة من جهة ثانية، لذا فهي عملية منظمة ومخططة مسبقا تستوجب توحد كل الإمكانيات المادية والبشرية بهدف التغير في أبعاده التنظيمية والاقتصادية والاجتماعية من أجل الرفاه الاجتماعي، فهي عملية تحوّل كمّي وكيفي في البنى الاجتماعية، وهو تغير متواصل وشامل لا يقبل التجزئة والانقطاع.
و يمكن الإشارة في هذا السياق إلى أن مفهوم التنمية لم يكن منفصلا عن مفاهيم أخرى كمفاهيم التخلف والتقدم والتحديث والتغير.. وهي كلها مفاهيم نشأت وترعرعت في ظل المقارنات بين المجتمعات المتقدمة و"السائرة في طريق النمو" إضافة إلى التحديات والرهانات المعلنة من قبل الفاعل السياسي أو الفاعل التنموي ضمن استراتيجية تنمية المجتمع تنمية شاملة الذي يتخبط في أوضاع متدنية على جميع الأصعدة.
كما يمكن الإشارة إلى أن جذور المفهوم تحيلنا للفكر الخلدوني الذي كان سبّاقا في وضع معالم نظرية العمران، وهي نظرية تُقدِّم تطور المجتمعات إلى مرحلة الحضارة والترف على أنه بداية الانهيار والأفول والسقوط وهي ليست غاية التنمية التي تتناقض أو تتعارض مع التطور المادي المفرط الذي لا يضمن الاستقرار دون المحافظة على الطبيعة البشريةالحقيقية التي تستمد جوهرها من الأخلاق والدين والعيش على الضروريات والتأقلم مع البيئة بفعل التضامن الاجتماعي أو ما يسميه دوركايم "بالتضامن الآلي". فهي تنمية تقوم على البعد النوعي الكيفي دون أن تنفي البعد المادي الضروري. وهذه الرؤية لتطور المجتمعات لا نجدها لدى علماء الاجتماع الغربيين إذ تقوم التنمية على الاستغلال الأمثل للموارد لتحقيق الأهداف المرسومة، فبلوغ التكنولوجيا الحديثة والتقنية المتطورة والنمو السريع للتحضر وهيمنة وسائل الاتصال والمواصلات والتحكم في المجال وبروز ما يسمى بالمجتمع "مابعد الصناعي" وما يصحبه من حراك كل ذلك بُغية تحقيق الرّفاه الاجتماعي مع الحفاظ على خصوصية المجتمع الذاتية، فالتنمية في هذا السياق تستوجب التغير والتصنيع والقوة والوحدة ومن هذا المنطلق فإن مفهوم التنمية في الفكر الرأسمالي يتحدد من خلال التغييرات الجوهرية في مجال الاقتصاد والرفع من الإنتاج والجودة وتطور وسائل الإنتاج والرفع من مستوى الدخل للتخفيف من حدة الفقر لدى الطبقة العاملة، وهذا التوجه لا يمكن فصله عن إطاره التاريخي والاجتماعي الأوروبي الرأسمالي الذي يعطي للبعد الاقتصادي الأهمية القصوى لتحقيق التقدم الصناعي والتطور التكنولوجي، ومن وراء ذلك الرفاه الاجتماعي عكس ما يراه كارل ماركس في تحليلاته لتطور المجتمعات استنادا للمادية التاريخية وصراع الطبقات...
فالتنمية حسب ماركس لا تنفصل عن الوعي الطبقي الثوري الذي يؤدي إلى تغييرات جذرية في البنى التحتية والفوقية وما التقدم المادي في المجتمع الصناعي إلا عائق تنموي.
و تجد هذه القراءة تواصلها لدى مفكري المدرسة الماركسية التي ترى بأن التنمية هي تغير اجتماعي بنائي يهدف إلى هدم مكونات المجتمع التقليدية "المتخلفة" والارتقاء بها بما يمكّن من تغيير العلاقات الاجتماعية المراد الوصول إليه، لأن هذا البناء التقليدي هو نتاج التبعية متعددة الجوانب بين مجتمعات "متخلفة" وأخرى "متقدمة". لذلك يرى سمير أمين في كتابه التطور اللامتكافئ، أن الوعي بمسألة التبعية ومن ثم إنجاز التغيير ثوريا هو الحلّ للتحرّر من الهيمنة بكل فروعها لتحقيق التنمية الحقيقية.
من هذا المنطلق يمكن القول بأن العملية التنموية هي عملية حضارية وإنسانية شاملة ومتكاملة لا تقبل التجزئة ولا التوقف، فهي حركة محورها الإنسان وهدفها الإنسان في البناء والتطوير بما يضمن إشباعه المادي والمعنوي ويحقق له التوازن خاصة إذا كان فاعلا في العملية التنموية ومشاركا فيها ومتفاعلا معها ومتماهيا مع اختيارات الفاعل التنموي أو الفاعل السياسي ضمن مقاربة تشاركية لا تقوم على الإسقاط والتهميش، ولا يكون هذا إلا إذا تخلصت التنمية من سياسة التنمية الجاهزة وأضحَت فعلا تنمويا ، وهذا ما يمكننا من الإشارة إلى أن التنمية عملية معقدة تتشابه فيها استراتيجيات الفاعليْن السياسي والاجتماعي، وهي استراتيجيات كثيرا ما تكون خفية ضمن حقول متعددة تبدأ بالاقتصادي وتنتهي بالثقافي الموسع ولا تخلو من الصراعات والرهانات.
هذا بالإضافة إلى شمولية هذا المفهوم إذ لا يمكن حصره في الجانب المادي الكمي أي الاقتصادي البحت فهو يتعدى ذلك إلى الأبعاد الاجتماعية على مستوى السلوك والقيم والعلاقات بمختلف أوجهها اقتصادية وسياسية وثقافية وتلك المفاهيم إذا تعلقت بالإنسان تتداخل وتتشابك وتؤكد خصوصية النوع البشري، ويمكننا في هذا الإطار أيضا التأكيد على مرونة مفهوم التنمية لأنه لا يقبل التعريفات الجامدة والنهائية ولا يمكن للباحث في هذا الموضوع إطلاق تعريف محدد، فهو مفهوم متغير يقبل التعديل والإضافة حسب السياقات الجغرافية والتاريخية للمجتمعات وهو ما يجعل هذا المفهوم في تحَدٍّ مستمر وقادر على استيعاب التفريعات ذات العلاقة بالتنمية سواء على مستوى المواضيع أي المضمون أو الأبعاد والأشكال فهو مفهوم معقد وشامل ومنفتح.
يعدهذا المفهوم من أهم المفاهيم في القرن الواحد و العشرين، حيث أطلق على عملية تأسيس النظم الاقتصادية والسياسية المتماسكة ويشير المفهوم إلى هذا التحوّل بعد ستينيات القرن العشرين في عديد الدول النامية، ومما يزيد في أهمية هذا المفهوم هو تعدّد أبعاده ومستوياته وتشابكه أو تداخله مع مفاهيم أخرى كالتقدم والتحديث والتخطيط والنمو والتطور.
وقد برز هذا المفهوم بصورة جلية منذ الحرب العالمية الثانية، إذ لم يستعمل هذا المفهوم منذ ظهوره في عصر الاقتصادي البريطاني "آدم سميث" في الربع الأخير من القرن الثامن عشر وحتى الحرب العالمية الثانية إلا على سبيل الاستثناء، فقد استعمل مصطلحان للدلالة على التطور وهما "التقدم المادي" أو "التقدم الاقتصادي"، وحتى عند الحديث عن مسألة تطوير الاقتصاد في القرن التاسع عشر كانت الاستعمالات المستخدمة هي التحديث أو التصنيع .
ومن هذا المنطلق فإن مفهوم التنمية ارتبط بعلم الاقتصاد حيث يدل على إحداث جملة من التغييرات الجذرية في مجتمع معين، بهدف إكساب ذلك المجتمع قدرة على التطور الذاتي المستمر بمعدل يضمن التحسين المتواصل في نوعية الحياة الفردية، وزيادة القدرة على تلبية الحاجيات الأساسيةالمتزايدة، بطريقة تكفل زيادة درجات الإشباع لتلك الحاجيات عن طريق الاستغلال المحكم للموارد الاقتصادية المتاحة وحسن توزيع الثروة.
ويجدر القول بأن التنمية عملية شمولية لا تقبل التجزئة، فهي إما أن تكون شاملة وكلية وإما أن لا تكون. وتتلخص أهدافها في خلق الشروط والظروف المساعدة على مواجهة مشاكل السكان من خلال إيجاد التوازن بين الموارد والسكان، ومساعدتهم على التحكم أكثر في وسطهم الطبيعي، وذلك بهدف الرفع من مستوى عيشهم ماديا ومعنويا ، فهي عملية واعدة طويلة الأمد، شاملة ومتكاملة في أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والتكنولوجية والبيئية، فبالإضافة إلى كونها عملية مرسومة لتقدم المجتمع في مختلف المجالات، فهي تعتمد بشكل كبير على مشاركة جميع أفراد المجتمع فيها ، لتكون فعلا اجتماعيا ديناميكيا يساعد المجتمع ككل بمعطياته ومؤسساته على اكتساب قدرات معرفية جديدة تيسّر له قدرات إنتاجية متزايدة تمكن كل المواطنين من تحسين ظروف عيشهم ووسائل اندماجهم داخل المجتمع. لذلك كانت عملية مركبة ومعقدة يصعب الفصل بين مكوناتها المتفاعلةالتي تسهم بشكل متفاوت في تحقيق وإنجاح البرامج المخططة في عملية التنمية، أي أنها مجموع العمليات التي يتم من خلالها توجيه جهود أفراد المجتمع، لخلق الظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية الملائمة لانتقال المجتمع من وضع "متخلف" إلى وضع أفضل على جميع الأصعدة.
و قد رافق إعادة التفكير في مفهوم التنمية التقليدي ظهور مفاهيم جديدة كالتنمية المحلية والجهوية والريفية والحضرية وهي مفاهيم تعطي أكثر جدوى للتنمية الخصوصية في المجتمع المحلي، وتتجاوز الإسقاط الذي لم يعد مجديا ولا يتناسب مع الظروف الموضوعية للمجتمع، لتكون التنمية عبارة عن "عمليات كمية أو نوعية هادفة إلى تحسين مستديم للظروف المعيشية لسكان مقيمين في مجال محدد على الأصعدة المؤسساتية والجغرافية أو الثقافية.وبكلمة يمكن القول إننا بإزاء مسلسل تشاركي وديناميكي للتنمية الاجتماعية والاقتصادية الجماعية يعتمد على تعبئة ومسؤولية تجمع سكاني محلي منظم ومدعم من خلال عمليات قطاعية منسقة.
و يرى "ألان توران" في كتابه ماهي الديمقراطية؟، حكم الأكثرية أم ضمانات الأقلية،أن التنمية تستوجب ثلاثة شروط هامة لابد من توفرها وهي: تحديد الاختيار وضبط المتغيرات وانتشار المنتوجات الاقتصادية في كل أرجاء المجتمع و ضبط التغير الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والإداري، على صعيد البنى الاجتماعية المعنية بالتنمية.
ولقد بينت التجارب التنموية في أوروبا وفي غيرها من البلدان-وهي المرتكزة على التنمية الاقتصادية وتكديس الثورة- أن التنمية الأحادية الجانب التي تعتبر الاقتصاد محركا أساسيا لعملية "التقدم" و"التطور" هي السبب الرئيسي للصراعات الطبقية واحتكار الثروة والتوزيع غير العادل لها. ويعتبر الاهتمام بمدلول التنمية الشاملة أو المتكاملة، إثراء لمفهوم التنمية على أنها مجموعة من العناصر والعوامل تشمل التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية وخلاصة القول أن التنمية تهدف إلى إحداث التغيير المطلوب في المجتمع ممّا يساعد على النمو السليم وتجنب ما يكون فيه من مشكلات وتخلف اجتماعي أو اقتصادي، اعتمادا على ما يكون عند هذا المجتمع من قدرات مادية وبشرية. وحتى تكون عملية التنمية سليمة ومنظمة ولا ينتابها التعثر، لابدّ أن تكون مؤسسة على تخطيط محكم وخطط تنموية جيدة البناء والموضوعية، لتضحي في المحصلة عملية استغلال رشيد للموارد الطبيعية والبشرية تفترض وجود خصائص معينة كالدينامية والتغير والتصنيع والاستقلال وحريّ بنا هنا التذكير بأن التنمية تختلف بهذا المعنى عن التصنيع.فإذا كان هذا الأخير ينحصر في البعد المادي التكنولوجي، فالتنمية تعني عملية تحويل وتطوير العلاقات الإنسانية والإمكانيات الاقتصادية والسياسية و الثقافية بغض النظر عن المعطى الاقتصادي على أهميته.

باحث في علم الاجتماع -تونس








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اعتصامات الجامعات الأميركية وانعكاسها على الحملات الانتخابية


.. ترامب يكثف جهوده لتجاوز تحديات الانتخابات الرئاسية | #أميركا




.. دمار غزة بكاميرا موظفة في الا?ونروا


.. رئيس مجلس النواب الأمريكي يهدد بإسقاط التا?شيرة الا?مريكية ع




.. 9 شهداء بينهم 4 أطفال في قصف إسرائيلي على منزل في حي التنور