الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اللجوء والزمن

علا شيب الدين

2020 / 6 / 11
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


كانت تمطر بغزارة في مدينة كولونيا؛ بينما كنتُ أنتظر القطار، وثمة امرأة “لاجئة” أيضاً كانت تنتظر وطفلتها مثلي، لكن على هيئة لعب، حيث كانتا تلعبان معاً لعبة يتمركز خلالها أحد طرفي اللعبة على مبعدة من الطرف الآخر قبل أن يقتربا من بعضهما بخطوات رتيبة مع تكرار لفظتَي “تيك.. تاك”، وهكذا إلى أن تعلن الخطوة الأخيرة فوز أحد الطرفين عبْر وضع القدم الفائزة فوق القدم الخاسرة.

تأملتُ اللعبة وخلتُها هي نفسها لعبة الزمن الاعتيادي اليومي، الذي تبرهن لنا ساعات اليد والهاتف الجوّال وجلّ أنواع الساعات، أنه يمرّ بشكل منتظم وجامد، لا “أكشن” فيه ولا حرارة أو روح: “تيك تاك”. تأملت اللعبة وخلتها هي نفسها لعبة زمن اللجوء الذي “نعيش” فيه ويعتصرنا ويصنّعنا: “تيك تاك”. زمن لا أدّعي أني أفهمه بشكل جيد، خصوصاً إذ يخيَّل إلي أننا قد خلونا من مشاعر من شأنها أن تبطىء الزمن تارة، وأن تسرّعه طوراً. أما فيما يخص الفرح العميق الخاطف، فيبدو الزمن كما لو أنه قد فُقِد!

يحيل زمن اللجوء في هذا المعنى، الأحداثَ إلى حكايات وذكريات قريبة وبعيدة مشوَّهة. كل شيء يمرّ بسرعة خاطفة كمِثل فخّ، وعلى اللاجىء في “زمنه” أن يحتفظ بعقله لنفسه تحت خيمة “الاندماج”. تلك التي من شأنها تحويل الكائن البشري إلى مادة خام صالحة للتشكيل والصناعة.

لم يكن قد مرَّ على “لجوئي” أكثر من شهرين، حين قالت لي “لاجئة” قديمة في ألمانيا: “غداً تصبح الشهور سنين، تمر سريعاً دونما حسّ”. ها قد صرتُ في سنة لجوء ثالثة و”لم أحس” فعلاً! يبدو أن زمن اللجوء هكذا، يمرُّ من دون إحساس، مع أني وسط معمعةِ مفارَقةٍ أحس فيها إحساساً مختلفاً عميقاً ومضاعَفاً. زمن اللجوء ربما يتقاطع وسلطة نجاحٍ تحدد البشر وتقسرهم على أن يكونوا مثل ملائكية خاوية. ولنا هنا أن نتأمل ملياً في قصة تحدثت عنها وسائل الإعلام بوصفها مثالاً ناجحاً للاندماج، كطبيب لا يفهم سوى بالمادة أما الروح فلا. إنها قصة لاجىء في ألمانيا نجح في أن يعملَ كحلاّق، قبل أن تعود وسائل الإعلام لتتحدث عن طعن اللاجىء نفسه ربَّ عمله بسكين. ربما يحق لنا هنا أن نفترض أن هذا “الناجح” كان يريد القول: “لستُ ناجحاً فحسب، بل أنا مقهور حتى الجريمة”. تلك الجريمة التي قد يقترفها أيضاً مواطن أصلي انتقاماً من سلطة النجاح المتسلطة المخادعة، فالجريمة ليست حكراً على جنس بعينه أو جنسية بعينها. هكذا يبدو زمن اللجوء كأنه لا يعرف نجاحاً.. لا يعرف إخفاقاً. هو فقط زمن رتيب.

صحيح أن الناس هم الناس دائماً، غير أن زمن اللجوء هذا ليس واحداً في كل الأصقاع. هو في لبنان مثلاً يشبه سعيراً في جحيم أرضيّ. الإحساس بزمن اللجوء هنا هو كمَن يحس بالأرض تميد من تحته. أما نحن القابعون في زمن اللجوء الآخر، نرقب في تقزز مرير وقلب كسير، يتكرس فينا شعورنا بأننا في عالم لا معنى له، تتسيّده قوى الخشونة والغلظة والنفوس الفاسدة، فتعترينا عزلة عجيبة.

لكن في عالم كهذا، مليء بالوحشية وبالصغار المفزعين، عالم كمثل سكّير شرير وأخرق، لا محيص من أن نبقى حالمين، رافضين متمردين، معاكسين سلطة الكثرة والسائد، معاندين، متبصرين في كل ما يجعل هذا العالم عالماً ممكناً العيش فيه، وأن ندرك أن الأشياء لا تكتمل إلا لتتحطم. فليكتمل الشر في هذا العالم إذن، لكي يتحطم ويزهر الخير والجمال والحق. وما اكتمال قبح العصابة الأسدية وأمثالها في ارتكاب الجريمة المنظمة سوى تحطمها ونهوض سوريا الحلم. “إنها سوريا العظيمة وليست سوريا الأسد”، كان هذا آخر ما كتبته من باريس الفنانة السورية الراحلة مي سكاف التي طالما رددت “هاي الثورة ثورتي لموت”.

زمن سوريا الحلم يخلخل استكانة زمن اللجوء إياه، وكالفكرة العظيمة الحاضرة دائماً، حاضرة هي سوريا في الأرواح الحرة. في عمق الصدع حاضرة، في الحنان الدافق والحنين المتوفز وفي كل ما ينمو ويكبر. في نظرات الغزل النهم وفي كل اضطراب يعتمل في الداخل. حاضرة هي سوريا في صيغة سؤال وجواب. سؤال طفل صغير عن متى ستنتهي الحرب؟ وجواب أمٍّ:”لا أعرف. لكني أحلم”.

بقهرٍ عاجز ترقب الروح الحرة في أصقاع اللجوء وأزمنته المختلفة دمارَ سوريا. تحنّ إلى الأشياء البعيدة، لكنها، وبشيء من التوجس والخفية، تترقب بشوق ولذة العودة إلى الأرض العميقة والبيوت العتيقة والتئام شمل الأسرة بالموسيقى، كل فرد يعزف فيها على آلة موسيقية خاصة.

تؤمن الروح الحرة في أننا لن نصل الى مرمانا في الحياة قبل أن نعاني الكثير من أوجه المأساة. وتؤمن أنه حين يختفي القطار عن الأبصار، ويشيع اعتقاد زائف في أن الأوان قد فات، يعود الأمل والتأمل كمن يضرب الأرض بأحد عقبيه وبغضب عارم يصرخ في وجه العالم: في سوريا ثمة ناس بسطاء عظماء من دون أن يتصور أحد أنهم كذلك. في سوريا ثمة أطفال أيتام يخلقون أنفسهم.

* كاتبة سوريّة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجيش الأميركي يستعد لإزالة الرصيف العائم بسبب سوء الأحوال ا


.. مسؤولون أميركيون: الضربات التي شنتها إسرائيل داخل لبنان قد ت




.. منتخب_ألمانيا يفتتح يورو2024 على أرضه بفوز كاسح على اسكلتندا


.. المستشفى العائم الإماراتي يجري أكثر من 600 عملية جراحية لمرض




.. مظاهرة في صنعاء تضامنا مع الفلسطينيين وقطاع غزة