الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القديس يصعد إلي السماء

إلهامي الميرغني

2006 / 6 / 22
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية


قتلناكَ.. يا آخرَ الأنبياءْ
..قتلناكَ
ليسَ جديداً علينا
اغتيالُ الصحابةِ والأولياءْ
..فكم من رسولٍ قتلنا
..وكم من إمامٍ
ذبحناهُ وهوَ يصلّي صلاةَ العشاءْ
فتاريخُنا كلّهُ محنة
..وأيامنا كلُّها كربلاءْ

نزار قباني

رحل القديس وحلق في رحلته الأخيرة إلي السماء وتركنا لعجزنا ونحن نقتل بعضنا البعض اختلافاً في الجريون والنادي اليوناني ، حلق بجناحيه وابتسامته التي سنحرم منها وترك لنا الأرض والاختلاف والتشرزم والعجز. فقد مل القديس من النصيحة وعاش أعوامه محاولا ً أن يجمعنا ويوحدنا ولكن وصاياه ضاعت وسط فحيح الأفاعي ، ووسط أصوات الطبالين والزمارين والراقصين من أهل اليسار. غادرنا بطهره الذي كان يحمينا وصدقه الذي كان أفضل ما فينا ، وتركنا نواجه مصيرنا؟!!

قد يتساءل البعض لماذا سمي الأستاذ احمد نبيل الهلالي محامي الشعب بالقديس. ندر أن يوجد شخص يجمع كل الصفات التي وجدت في شخصية الأستاذ، وعندما فكرت في السؤال وجدت أكثر من سمة ميزته وجعلته أكثر من قديس:
ـ طابق الهلالي بين الباطن والظاهر ، بين النظرية والتطبيق وبين القول والعمل فكان إنسان كامل الأوصاف واضح وضوح الشمس.
ـ جمع الأستاذ عدة صفات في شخص واحد فكان الجاد المبتسم ، والرقيق مع رفاقه الصلب العنيد في دفاعه عن مبادئه ، الصادق الإنسان، ومزج كل هذه الصفات لنجد أنفسنا أمام قديس وهب حياته من اجل الفقراء فوهبوه حب لا ينضب.
ـ كان الأستاذ متصوفاً في حب الفقراء وزاهداً حقيقياً وليس كغطاء لأشياء أخري، فقد باع مُلك وثروة أسرته من اجل حب الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء ، ودافع عن الفقراء والمظلومين علي اختلاف انتمائتهم السياسية منذ تبني الماركسية وحتى غادرنا ، لم يملك سيارة ولا شقة فاخرة ولا هاتف محمول، ولم يترك ثروة مادية ولكنه ترك ثروة فكرية وعدد من المحبين المخلصين من مختلف الأعمار كما رأينا في جنازته وعزائه لأنه القديس.
ـ كان يجيد الإصغاء وسماع الآخرين والاستفادة من ارئهم ، لا يتكبر ولم يجعل نفسه فوق النقد ، وكان عندما يري أن رأيه كان خطأ يعلن ذلك بشجاعة الفرسان وطهر القديسين.
ـ كان يتميز بين أقرانه وبين أوساط اليسار بإصراره على تعريف نفسه بالمحامي الشيوعي ، لم يهزه انهيار الاتحاد السوفيتي ، ولم تهز قناعاته تراجع اليسار ، بل ازداد تمسكاً بخياره الفكري وظل ممسكاً بالراية الحمراء إلي أن صعد بها إلي عنان السماء.
ـ كان الشيوعي الوحيد الذي يملك القدرة الحقيقية علي تجميع اليسار فهو محل حب وتقدير واحترام الجميع، يختلف الجميع فيما بينهم ولكن حين يطرح أسمه تزول الخلافات ويتفق الجميع ، ولا اعرف كيف سنتفق بعد أن غادرنا؟!!! لقد كان الأستاذ وبحق كبير اليسار والمشكلة أن الساحة الآن ليس بها كبير ويحكمها الأقزام ولا يوجد بها قائد بقامة الهلالي يستطيع أن يوحد ويحترمه الجميع.
ـ كان يؤمن بالحرية والعدالة كقيم مطلقة فدافع عن الأخوان والجهاديين لأنهم جزء من قضيته التي تبناها طوال حياته والقيم التي حكمت تحركاته وهي قيم الحرية والعدالة التي عاش من اجلها.
ـ عمل كمحامي للعمال عندما افتقد العمال لمن يدافع عنهم ، وكان مكتبه محطة المضطهدين من مختلف محافظات مصر ، يأتون للأستاذ يشرحون مشاكلهم ويعرض الحلول وكثيراً ما كان يسدد عنهم الرسوم القضائية ، بل وفي بعض الأحيان كان يقتسم الجنيهات التي معه بينه وبين عامل مفصول لأن أسرته بلا مورد. لم تكن الشيوعية عند نبيل الهلالي مجرد حلم أو فكرة بل طبيعة حياة وممارسة كان يطبقها على نفسه قبل أن يطالب بتطبيقها على الآخرين، لقد كان المناضل المثال الذي قلما يوجد مثله.
ـ تمتع الأستاذ بخفة ظل رائعة وحضور مفعم بالحيوية وكان يجيد التفرقة بين لغة خطابه بين الكادر ولغة خطابه بين البسطاء ولكنه كان دائماً يأخذ قلب وعقل مستمعيه على اختلاف انتمائاتهم.
ـ رغم ضآلة جسد الأستاذ وضعف بنيته الجسمانية ، كان عندما يرتدي روب المحماة الأسود ويقف مدافعاً عن العدالة يتحول إلي أسد كاسر يجيد إلقاء الحبال حول الموضوع حتى يصل لما يريده وسط إعجاب القضاة قبل المتهمين.

لذلك كان القديس فينا ، وعندما يأس منا تركنا وصعد ، فحقت عليه كلمات سعدي يوسف:
كان الشيوعيّ الأخيرُ مؤرَّقاً في ليلةِ الأحدِ ، الصديقةُ غادرتْ ظُهراً
إلى باريسَ ، والمطرُ الخفيفُ يجيءُ أثقلَ ، لحظةً من بعدِ أخرى .
والنبيذُ الأستراليُّ الذي قد كان يكْـرَعُـهُ بأقداحٍ كبارٍ كادَ يصرعُـهُ !
وجاءته المصيبةُ عند بطّـاريّةِ السيّارةِ . الأشياءُ قد همدت ؛
فماذا يفعلُ الآنَ ؟
الشيوعيُّ الأخيرُ مضى ينقِّبُ في الرفوفِ العالياتِ … وثَـمَّ أتربةٌ على
الكتبِ العتيقةِ . ثَمَّ نسْجُ العنكبوتِ ، وما تبقّـى من جناحَي نحلةٍ .
لكنه استلَّ الكتابَ ، وراحَ يقرأُ :
أمرُنا عجبٌ !
مَلاكٌ جاءَ يصطحبُ الشيوعيَّ الأخيرَ إلى جِنانِ الـخُلْــدِ …
قالَ لهُ : لقد طوّفتُ في الآفاقِ ســبعاً ، كي أصادفَ طاهراً . كان
الذين رأيتُهم قوماً عجيبينَ … الصلاةُ وكلُّ شـيءٍ . غير أني كنتُ
أسألُ عن عقيقِ سَـجِـيّـتَينِ : الطُّهرِ والعدلِ . السماءُ تفتّحتْ …
فلننطلقْ ، لتكونَ في الفردوسِ بعد دقيقةٍ !
كان الشيوعيُّ الأخيرُ مكوَّماً فوقَ الأريكةِ
هاديءَ الأنفاسِ
مبتسماً …
كأنّ روائحَ الفردوسِ تُفْـعِمُ قصرَهُ الليليَّ حقّـاً !

لقد جمع الأستاذ الهلالي بين الفكر السياسي اليساري والتفكير الملتزم بالماركسية اللينينية ، وكان دفاعه القانوني في مختلف القضايا مرجع في حب الوطن ودراسة متعمقة للتاريخ الاقتصادي والاجتماعي في مواجهة مختلف المواقف .لذلك أتمنى علي رفاقي في حزب الشعب أن يقوموا بجمع تراث الأستاذ وإعادة نشره ليكون زاداً لنا وللأجيال القادمة .

لقد كان دفاعه عن التنظيمات الشيوعية في السبعينات والثمانينات ودفاعه عن الجهاديين والأخوان دروس في العدالة التي ظل طوال حياته يبحث عنها. وعندما حدث إضراب عمال السكك الحديدية في الثمانينات كان الأستاذ يقود الدفاع حتى نجح في انتزاع حكم تاريخي بمشروعية حق الإضراب ،وكان مع الرحل يوسف درويش يدافعون عن التعددية النقابية التي أصبحت المخرج من أزمة العمل النقابي في مصر رغم تجاهل الكثير من اليساريين لذلك.
واستمر في مسيرته من قضية منع السفن الأمريكية من المرور في قناة السويس خلال غزو العراق وقضية أحداث طابا وقضية الدفاع عن أموال التأمينات الاجتماعية ، ورغم أستاذيته وقدراته كان يفضل العمل ضمن فريق من المحاميين يقودهم ويوزع الأدوار بينهم ليثبت أنه القائد والمعلم بالممارسة وليس بالكلام.

لفت الصديق عبد المحسن شاشة نظري إلي نقطة هامة وهي أن الأستاذ رغم فصاحته وطلاقة لسانه كان حريص على الأ يرتجل وأن تكون كلماته دائماً مكتوبة ومدونة ، لأنه نموذجي في كل شئ كان يريد الحفاظ علي تسلسل أفكاره وأن يمسك بالخيط الرئيسي لكي لا يضيع منه في غمرة الحماسة بحيث يستطيع تحقيق تراكم الأفكار ليصل إلي ما يريده، هكذا كان الأستاذ.

مات المسيح النبي
ويهوذا بالألوفات
مات الصديق الوفي
للخضرة في الغابات
مات
بس
فات للأمل
فوق الطريق علامات
تهدي الغريب سكته
وتقرب المسافات

جمع الأستاذ نبيل بين الدعاية الفكرية والسياسية والتحريض الجماهيري ، فكان قائد متكامل الصفات وزعيم بكل معني الكلمة. ورغم عمله بالمحاماة ومهامه الفكرية والسياسية كان يلبي أي نشاط عملي يدعي إليه سواء في اللجنة التنسيقية العمالية أو في لجنة المحاميين الديمقراطيين أوالمهندسين الديمقراطيين أو في أي مجال من مجالات العمل الديمقراطي اليساري.

عندما فكرت بعض القيادات الفلاحية في إيجاد شكل لتنسيق جهود الحركة المدافعة عن فلاحي الإصلاح الزراعي وتمت الدعوة لمؤتمر تأسيسي في كمشيش ، وجدنا الأستاذ الهلالي علي رأس الحضور ، وعندما اختلف البعض حول تسمية اللجنة تدخل الأستاذ بدبلوماسيته المعهودة واقترح حل وافق عليه الجميع، هذا هو القديس.

وعندما دعاه الدكتور شكري عازر للمشاركة في أعمال لجنة الدفاع عن المعاشات رغم مشاغله المتعددة كان علي رأس الحضور وقاد كتيبة من المحاميين لإعداد الدفاع في قضية رفض مبادلة الديون بأصول حكومية وهو ما دفع الحكومة لسحب هذا الاقتراح ، وكان يجهز في الأسابيع الأخيرة لقضية ضد ضم أموال التأمينات لوزارة المالية، هذا هو القديس . لذلك خسارتنا كبيرة وفجيعتنا ضخمة لفقده في وقت نحن أحوج ما نكون لروحه التجمعيه وابتسامته العذبة القادرة على إخماد لهيب الخلافات اليسارية وترطيب المناقشات الحادة.

بعد أن أصابته الأزمة الصحية الأخيرة وزرته في غرفة العناية المركزة، قابلنا مهللاً باسماً كما عودنا واخذ يسألنا عن أحوالنا وأخبارنا، وعندما رجوناه أن يقلل الكلام، قال " أنا صنعتي الكلام وأنا سعيد لأني أتكلم معكم " ، كان وجهه يتصبب عرقاً ، وكان مثبتاً لجهاز الغسيل الكلوي والأنابيب تخرج من عدة أجزاء من جسده النحيل، ولكنه أبا أن يشعرنا بشئ ، وتحامل على نفسه كما كان يفعل دائما من اجل الآخرين.وحدثني عن مقال كنت قد أرسلته إليه لأعرف رأيه واطلع على نصفه ولم يكمله، ووعدني باستكماله بعد عودته للمنزل، الذي لم يعود إليه!!!كان قادر على حضور اجتماع به مائة شخص وقادر على أن يجعل كل شخص منهم يشعر انه محل اهتمامه هذا هو الأستاذ نبيل الهلالي قديس الشيوعيين الإنسان الذي صعد إلي السماء.

إن رحيل القديس فاجعة لكل الشيوعيين المصريين ولرفاقنا في حزب الشعب الذي ترك بينهم الأستاذ فراغ كبيراً . ولكني علي ثقة من أن بين زملائه وتلاميذه عشرات المخلصين لميراثه الثوري، القادرين على قيادة المسيرة في نفس الاتجاه الذي كان يقود إليه الأستاذ.

ونداء ورجاء إلي كل اليساريين المتمسكين بالخيار اليساري ، أن أقل واجب يمكن أن نؤديه تجاه الراحل العظيم هو أن نحول دعوته الأخيرة لتحالف اليسار إلي حقيقة واقعة بتوحيد كل اليساريين المؤمنين بالسير على طريق الأستاذ أحمد نبيل الهلالي الزعيم والقديس والإنسان إلي واقع عملي لكي نكون جديرين بأننا ورثة الهلالي الجميل.وحقت عليه كلمات الصديق هشام السلاموني:
علمتنا يا " متر " درس يطــــهََّر الإنسان
عشان تحب البشر لازم تكـــــون إنسان
عارف عيوبك و عاشق ضعفك الإنســـان
و عشان ما تشبه لغاندي عندي تكون إنسان
وعشان ما تبقى " نبيل " صمم تكـون إنسان
ممكن تكون " الهلالي " و انت موش أبو زيد
ممكن تكـــون ما شئت لكّنّْ الأكــــيد
عشان تكون ماركسي الأول تكون إنســان

رحم الله الأستاذ وقدرنا وأعاننا على تحمل المسئولية.

إلهامي الميرغني
21/6/2006
[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شرطة نيويورك تقمع بالضرب متظاهرين داعمين لغزة


.. الشرطة الإسرائيلية تستخدم مضخات الماء لتفريق متظاهرين طالبوا




.. بريطانيا.. الحكومة الجديدة تعقد أول اجتماع لها عقب الانتصار


.. اللغة والشعرعند هايدجر - د. دعاء خليل علي.




.. مواجهات في تل أبيب بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهرين يطالبون