الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حقيقة الحقيقة (ردا على الأسئلة الوجودية الكبرى 1)

جميل النجار
كاتب وباحث وشاعر

(Gamil Alnaggar)

2020 / 6 / 20
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


حقائق علمية: تَقْييم القيمة منوطٌ بخبراء التثمين، والسعر والتسعيرُ محكومٌ بالعرض والطلب، كما أن الربح عِلةُ التجارة... الخ.
السؤال: أيهما الأغلى والأعلى في قيمته، الذهب أم التراب ؟
المطلوب: توجيه السؤال السابق لأحد رجال الاقتصاد وأحد المفكرين.
الإجابة المتوقعة: في الغالب، سيختار رجل الاقنصاد "الذهب"، وسيختار المفكر التراب.
النتيجة والحكم: كلاهما على صواب في حدود الإطار المعرفي لكلٍ منهما!
التفسير والبرهان: يتمحور تفسير النتيجة أو صحة اجابتيهما، رغم تباينها، حول المعايير العلمية والفكرية التي استند إليها كل منهما في الحكم على قيمة الأشياء، فقد استند رجل الاقتصاد على معيار واحد أو اثنين مرتبطين ببعضهما على الأكثر، وهو أن الذهب، باعتباره مالًاً عبر التاريخ، كان معياراً نسبيا لعملةٍ محددة مكافئة للمناطق التجارية أو الدول الاقتصادية، ومن الناحية الاقتصادية، يُعد ملاذاً آمنا أكثر فعالية بالمقارنة بأي معدن ثمين آخر، وإن كان يخضع - كأي سلعة- للمضاربات والتقلبات المحكومة بقانون العرض والطلب المرتبط بمدى وفرة هذا الشيء أو ذاك، والذي يعتبره، من وجهة نظره مجرد سلعة، تتحدد قيمتها حسب قوانين السوق الآنيّة بتشابكاتها، وله كل الحق وفق ما جادت به قريحته التخصصيه في علم الاقتصاد الهام جداً في حياتنا العصرية.
أما المفكر، فقد استند على عدة معايير بكل ما بينها من جملة علاقات متداخلة، والتي تتراوح في قوتها بين مدٍ وجزر، حيث يزن المفكر قيمة الأشياء؛ بقيمتها في حد ذاتها، وهذا أول المعايير، أما ثانيها فهو: مدى وفرتها، وثالثها: قوانين السوق ومنها العرض والطلب، ورابعها: نسبية الحاجة إلى هذا الشيء، وخامسها وهو الأهم: عموم الفائدة، فبالنسبة للمعيارين الأول والثاني، الذهب يفوز؛ لاعتبارات كثيرة منها بريقه الذي يخطف الأنفاس وتنطبق عليه خاصية" ما خف وزنه وغلى ثمنه"، والذي يقتصر طلبه على فئات معينة من البشر، هم في أغلبهم من الميسورين ماديّاً، وأخيراً؛ ندرته في الطبيعة، والتي جَرَّتْ معها المعيار الثالث، من بعض الوجوه، وكل هذه الأمور تتحكم فيها كلفة الإنتاج وآليات السوق في المقام الأول، أما بالنسبة للمعيار الرابع، وهو الأكثر عمقاً في رؤية المفكر، والذي جعله يختار التراب بدلا من الذهب، فهو مدى حاجة القطاعات الأعرض من البشر ومعها بقية الأحياء لهذا الشيء أو ذاك.
فالتراب، في أغلبه، يُشتقُ من التربة، التي ينمو فيها النبات، والتي اشتُقت بدورها من الصخور، التي تحوي في طياتها كافة المعادن، ومنها الذهب، ومصادر الطاقة، والصخور أيضا تُرد في نشأتها إلى السحب السديمية الغبارية التي نشأت من جراء الانفجار الكوني الكبير، والتراب، كأحد مشتقات هذه المواد، رغم وفرته وانتشاره قياسا بالذهب؛ الأمر الذي جعله أرخص منه في الأسواق، إلا أنه الأغلى في قيمته المعنوية قبل المادية؛ وذلك بسبب الحاجة الماسة إليه ولمادة أصله من جانب أغلب البشر، فالتراب بغباره ومعادنه؛ يُشتق من عدة تربات، رواسبها إما صحراوية المنشأ أو نهرية أو بُحَيرية أو من الركامات الجليدية... الخ؛ وبالتالي تتنوع بين رواسب السيلت (الطمي أو الغرين)، والطين أو الصلصال (حُبيباته أنعم وأدق من السيلت)، والطَفل (صخور طينية متورقة بسيطا، تتألف من صلصال مختلط بالمرو أو الكوارتز "الرمل" والكالسيت" مادة غير عضوية متجانسة شفافة يتألف معدنها من كربونات الكالسيوم" والمارل (رواسب بُحيريّة كلسية تختلط بالطين أو الطمي) والجبس (كبريتات كالسيوم مائية) والملح (المعروف لدى الجميع) ... الخ، وتحمله العواصف الترابية من منطقة لأخرى حول العالم؛ ليساهم في تكوين تربات جديدة من أشهرها وأخصبها تربة اللُوِّسLoess التي تنتشر على مساحات واسعة من شرقي الصين حتى سهول البمباس بأمريكا الجنوبية، في عملية تدوير جيومورفولوجية بديعة، العامل المحرك الأول فيها هو الرياح التي تعمل على سفيى الأتربة عندما تهب وتراكمها عندما يضعف هبوبها، فضلا عن دور الأنوية الترابية في تشكيل أهم مظاهر الطقس، فجزيئات التراب؛ تعمل كنويَّات تتكاثف من حولها ذرات بخار الماء الذي يُكوِّن السحب الحُبلى بالأمطار، وامتصاصها لأشعة الشمس الواصلة إلى الغلاف الجوي الأرضي وتشتيتها، كما وتقلل من الكمية التي تصل سطح الأرض، واختصاصها أيضاً بامتصاص الأشعة الموجية الطويلة المرتدة من السطح وإعادة بثها في كافة الاتجاهات، والتربة بترابها، على وجه العموم، هي الوسط الذي تنبت فيه النباتات الطبيعية والتي ترعى عليها ملايين القطعان من الحيوانات البرية، التي لا يعنيها الذهب في شيء، وهي ذات التربة التي نزرع بها محاصيلنا الزراعية، التي تقي مليارات البشر من الجوع؛ الذي يُنسيك الذهب وكل المعادن الأغلى، وهذا هو الأهم.
وحتى مع تساوي المقادير بين السلعتين، فلو امتلك "س" من الناس قيراطاً مساحياً من الذهب وامتلك "ص" قيراطاً من التربة بترابها، الذي يبدو في ظاهره بخساً بالنسبة إلى الذهب؛ وحَلَّت المجاعة، فسيتمنى المالك للذهب لو افتداه المالك للتراب بوجبةٍ مما تُنبت الأرض مقابل كل ما يمتلكه. وهنا يفوز معيار "عموم الفائدة" لاستفادة عموم الكائنات الحية ومنها كل البشر، والنظر إلى الأشياء بمثل هذه الرؤية الأشمل والأعمق، هو من سمات المفكرين، فالمفكر يتميز عن غيره من ذوى العلم والمعرفة، بسِعة اطلاعه، التي تُمكنه من الغوص بتأمل في بواطن الأمور؛ شريطة الإلمام بكافة عناصرها وأبعادها وزواياها، وتحري العوامل المؤثرة نشأةً وتطورا، وبحثه الدائم عن أصل الأشياء.
فحقيقة الحقيقة: أن الحقيقة يقينية مطلقة، لا تقبل جدال، وجُملةٍ مُفيدة، منطقيَّة في نظرياتها وفروضها العلمية، تِقَنيَّة في واقعها التطبيقي الملموس، وفي الحالتين؛ أدَّتْ ما عليها. والمشكلة ليست في حقيقة الحقيقة؛ إنما في الناس الذين يرون الحقيقة مجرد حكاية، لكنها تظل حقيقة؛ وإن رُويَّت بألف طريقة!
وما زاد الطين بلَّة أن الفلاسفة القدامى وبعض المعاصرين– ومعهم أنصاف المتعلمين وأشباه المثقفين- قد أَلْبَسوا الحقيقةَ ثوب النسبية؛ لاختلاط الأمر عليهم؛ باختلاط واختلاف وجهات النظر حول الحقيقة الواحدة؛ فاستكانت الحقيقة ومالت - مُرغمةً- لأن تكون نسبية في أذهاننا نحن البشر طيلة العهود السابقة وحتى الآن مع الأسف؛ بتأثيرات من القصور العلمي والمعرفي الناتج عن عدم القدرة على الإلمام والإحاطة واختلاف زوايا التناول والتداول.
ولإيضاح ذلك؛ لو قمنا بتوزيع عدد 4 أربع أفراد على 4 أربع أضلاع أحد المنازل؛ وطلبنا منهم أن يصف كل واحدٍ منهم ما يراه؛ فلن يرى كل واحدٍ منهم سوى ما تُبديه واجهته هو دون الآخرين - ومن هنا جاء التعبير " اختلاف وجهات النظر"-، وسيقول الأول: أرى المدخل وبه الباب الرئيسي ونافذتان كبيرتان، ويقول الثاني: أرى جداراً عريضا ولا يوجد به سوى نافذة كبرى وأخرى صُغرى وهكذا الثالث والرابع؛ الأمر الذي يوضِحُ بجلاء نسبية التناول. وبالنسبة للقصور المعرفي؛ يمكن الجزم بأن الحقيقة النسبية سادت - كمفهوم في عقول الفلاسفة والمفكرين، من محدودي الفِكر- منذ أن كانت المعرفة حسية فقط، ومع دخول البشر عصر العقل، كان للاستدلال العلقلي الكلمة الفصل في تلميع الحقيقة وتنظيفها مما ران عليها من قصور معرفي.
ويُجزم الجميع بعدم وجود حقيقة مطلقة في العلوم الإنسانية والاجتماعية بعلاقاتها الإنسانية، مع أنها – كما العلوم الطبيعية- تحكمها، في أغلبــــها، القوانين الحتميـــــــة Determinisme roles التي تتضمنها الأشياء والرؤى بمعايير أحكامها التقديرية والتقيمية أو التقويميةValue judgement .
ويبدو لنا مما سبق أن النسبية ليست في الحقيقة بحد ذاتها، إنما النسبية في نسبية الرؤى؛ التي تنشأ عن اختلاف معايير أحكامها، والتي ترتبط، بدورها، بمدى حِذق الذهن ووفرة الأفكار النيرة وسعة الاطلاع لدى كل فرد منا، بمعنى أوضح، لم ولن تكون الحقيقة نسبية أبداً؛ لتظل الحقيقة حقيقة؛ وإذا التَبَسَ علينا الأمر حول حقيقة أمرٍ ما؛ فيمكن وصفها بالحقيقة الضبابية، التي تبلغ ذروة ضبابيتها حين تشيع الإشاعات وفي أوقات الأزمات، ويشتد أوارها في المجتمعات المتخلفة،خاصة بالأوساط الأُميَّة. ومثلها موضوع الحقيقة وعلاقتها بالوجود، فمع أن المنطق يؤكد على أن صحة أو خطأ أي فكرة، أو معتقد ما، أو مقولة ما؛ يتوقف فقط على مدى مطابقتها لواقع الأشياء (الحقيقية الفعلية للأشياء)، وعلى ما إذا كانت تصف العالم بدقة وتتوافق معه أم لا. إلا أن الماورائيين والموالين لهم من الفلاسفة العاشقين للسفسطة، استماتوا في محاولاتهم للتوفيق بين الواقعية والميتافيزيقا، وقد باءت كل محاولاتهم بالفشل، كما وفشل أتباع المذهب التصوري، المؤمنون بأن كل موجود هو: عبارة عن فكرة في رأس شخص ما في نهاية المطاف.
ودأبت هذه المحاولات البائسة لتوفيقها بين كل ما هو حقيقي وغير حقيقي، أو الحقيقة واليقين من جهة والبُهتان واللايقين من جهة أخرى، أو الوجود والعدم، أو ان شئت دقة ومباشرة؛ فقل: "الشيء واللاشئ"، على اتباع أساليب المُخاتلة والتدليس والتلبيس وليّ ذراع المنطق وكسر رقبة الحقيقة. فمثلاً؛ أثبتوا بكل الطرق المخادعة أن عوالم الغيب الخارقة (المجهولة) والتي يستحيل اثباتها والاستدلال عليها بأي وسيلة علمية تعارفنا عليها؛ ومعاملتها كحقيقة يقينية، معاملة رؤيتك لقطة تقبع على نافذة!
ثمة أخلاقيات ومُثل عليا كالصدق والأمانة العلمية تفرض علينا نوعًا من توخي الحذر والوعي أو الإدراك الفطِن والوصف أو السرد الأدق للأشياء الموجودة في العالم الحقيقي؛ إلى أن نثبت أن الوهم مجرد وهمٍ باطلٍ لا أقل ولا أكثر، وأن الحقيقة حقيقة، بين مكوناتها ترابط بنيويّ متماسك وضاء، تراه كل عيون المنطق.
فدعونا نُسمي الأشياء بأسمائها - بعدما اكتملت معارفنا- "يمكن أن يكون كل شيء نسبي إلا الحقيقة".
لنَخلُص مما سبق: بخطأ الاعتقاد بنسبية الحقيقة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غانتس يهدد بانسحاب حزبه من حكومة الائتلاف ما لم يصادق نتانيا


.. مراسلتنا: استهداف موقع الرمثا الإسرائيلي في مزارع شبعا |#الظ




.. السعودية تشترط مسارا واضحا نحو إقامة دولة فلسطينية مقابل الت


.. الجيش الإسرائيلي يواصل تصعيده ضد محافظات رفح والوسطى وغزة وا




.. إلى ماذا تؤشر عمليات المقاومة في رفح مستقبلا؟