الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التنمية والعولمة

محمد الهادي حاجي
باحث متحصل على شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع

(Hajy Mohamed Hedi)

2020 / 6 / 22
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


التنمية والعولمة:




لا يمكن لدارس التنمية أن يتجاهل مسألة العولمة، فهي فاعل ثالث في الفعل التنموي إلى جانب الفاعل الاجتماعي والفاعل السياسي، فهي الفاعل التنموي الدّولي الذي يؤثر بشكل مماثل في التنمية، وهو ما يجعلنا نتحدث عن التنمية المحلية، وتبدو ظاهرة المحلي في هذا السياق أكثر تحديا في حقل علم الاجتماع. ويحيلنا المجتمع المحلي إلى الريف والمدينة والقرية أي التحديث الجغرافي، وهي مصطلحات لفضاءات جغرافية لها معنى المحلّي، ويعرّف حسين أحمد رشوان المجتمع المحلي بكونه "مجموعة من الناس يعيشون في حيّز ما يجعلهم في اتصال مستمر ولهم خبرات متصلة وعدد من المؤسسات والنظم تعمل متعاونة على تنشيط الحياة بالمجتمع وتضمن تماسكه ووحدته" ، هذه الظاهرة التي رافقتها ثورة معلوماتية أحدثت تغييرا شاملا لدى أفراد المجتمع ، وجعلت التحولات متسارعة في مستوى المفاهيم فيما بين الثقافات والحضارات، وهي التي نقلت العالم من مرحلة الحداثة إلى مرحلة ما بعد الحداثة، وبالتالي إلى عصر العولمة. إن هذه التغيّرات كان لها دور في تغيّر المجتمعات، ذلك أن ثورة التكنولوجيا والاتصال، قد أثرت في حياة الأفراد والمجموعات. عبر ما تطرحه هذه المسألة من تحويل لهذه المجتمعات إلى نمط جديد من المجتمعات يختلف عن النمط التقليدي. وهي بذلك تقف تحديا أمام المجتمعات التقليدية التي أصبحت مجتمعات استهلاكية، غير قادرة على الإنتاج والتغيير، أمام تحطم قدرات الإنسان ومؤهلاته، وهي تتناقض والمبادئ المعلنة بأن العولمة تطمح لصيانة ثقافة كونية شاملة تغطي مختلف مستويات الحياة الإنسانية، وتركز على الحرية والتعددية الفكرية والسياسية والثقافية واحترام حقوق الإنسان وتقبل الآخر، وزيادة التفاعل الثقافي على مستوى العالم بفضل وسائل الاتصال الحديثة إلا أن مسألة العولمة لها استتباعات ظاهرة وخفية، وتبدو قضية تطرح نفسها بقوة يوما بعد يوم، خاصة في علاقتها بالمحلّي والتنمية المحلية، فالمعطى التنموي لا يختزل الجانب الاقتصادي فقط، بل هو شاملٌ، وهو ما يجعل الجانب الاقتصادي والثقافي وما يطرحه من نتائج خطيرة تؤثر في البنى الاجتماعية، في إطار هذا النظام المعولم فهل أصبح الرّهان التنموي رهان الفاعل الاجتماعي المحلّي أم أن التنمية أصبحت رهانا عالميا، أي ازداد بعدا عن تصوراته واستراتيجياته؟
فقد ارتبط تعريف العولمة كظاهرة تتصل بمجموعة من التطورات في المجالات الفكرية والتكنولوجية والاقتصادية، أدّت إلى تقارب العالم وضيق أفقه، ممّا أدّى إلى زيادة الوعي بما يحدث من حركة تتجه نحو تكوين عالم بلا حدود، أين تقاربت المسافات الجغرافية والموضوعية وتلاشت، وترابطت المجتمعات وزالت فكرة العزلة والانغلاق والتقوقع وهي موضوع عولج في الدراسات الاجتماعية على اعتبارها عاملا من عوامل التغيّر، وهو ما يوحي بعلاقات اجتماعية واقتصادية تستبعد كل المفاهيم ذات العلاقة بالانتماءات العرقية والعائلية والدينية. ومن ذلك انتشار التقنية وعولمة الانتاج والتبادل والتحديثويمكن اعتبار العولمة ظاهرة تتداخل فيها المستويات الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية والسلوكية، ويكون الانتماء فيها للعالم كله عبر الحدود السياسية للدول وتحدث فيها تحولات على مختلف المجالات، تؤثر في حياة الفرد والمجموعة، وتساهم في صنع هذه التحولات المنظمات الاقتصادية الدولية والشركات المتعددة الجنسيات.
ولا تقتصر ظاهرة الانفتاح الاقتصادي على التجارة والاستثمار والتدفقات المالية، بل تتعدى إلى نقل الخدمات والتقنية والمعلومات عبر حدود الدول القطرية، واعتمادا على وسائل متعددة كالشركات العملاقة المتعددة الجنسيات كقوة ضاربة، عن طريق ما تملكه من إمكانيات هامة وما تملكه من رؤوس أموال هائلة، تستطيع من خلالها التعبئة في أسواق المال العالمية، هذا إضافة إلى ما لديها من نفوذ وسيطرة على حكومات الدول الرأسمالية "المتقدمة"، واعتمادا على قدراتها على ممارسة الضغوط على البلدان النامية، واستعمال أدوات مثل المنظمات الاقتصادية والمالية الدولية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية. وتعد البرامج التي تضعها هذه المؤسسات المالية والاتفاقيات كتحرير التجارة الخارجية وتحرير الخدمات المالية والمعرفية، وحماية الحقوق الفكرية التي تستعملها منظمة التجارة الدولية، والهدف الأساسي من وراء هذه البرامج بمختلف قطاعتها هو خلق الظروف المناسبة من اقتصاد ومال وتشريع داخل البلدان النامية لتمكين هذه الشركات من إحكام تدخلها وبسط نفوذها داخل هذه البلدان، وجرّها إلى الاندماج في الاقتصاد الرأسمالي العالمي، وبالتالي تقسيم العمل العالمي، الذي يسعى إلى استغلال البلدان النامية ، وتعرض الاقتصاد المحلي إلى هزات كبيرة نظرا لحرص منظمة التجارة العالمية على تحرير الخدمات التجارية والمالية، وهو ما يؤثر خاصة على قطاع الخدمات.
وهو ما مهد لنهاية الدّولة الاجتماعية وظهور فاعل تنموي جديد أمام إملاءات وتوصيات المؤسسات العالمية والتي تقدس اقتصاد السوّق، وتحرير كل القوى الاقتصادية والاجتماعية، وخاصة الأفراد في الاضطلاع بمهمة إنجاز التنمية، التي أصبحت رهان فاعل فردي مطالب بالاستثمار وتوفير الحاجيات بعد ما كانت الدولة تشرف على ذلك. فلم تبق هناك حدود للسوق ولم يعد للفاعل المحلّي أيّ دور وإمكانية السلطّة على مجاله المحلي في مستوى التنمية وإنجازها لأنه غير قادر على منافسة أو مبارزة هذا الفاعل المعولم. فلا مجال للمقارنة بين الفاعلين من حيث الإمكانيات والنفوذ والتأثير في الفعل التنموي. فتختل موازين القوى ويصبح الفاعل الدولي المعولم أكثر تدخلا في العملية التنموية المحلية دون مراعاة للخصوصيات، ورهانات واستراتيجيات الفاعل الاجتماعي المحلّي، الذي يصبح تابعا ومهيمنا عليه، لأن الاستراتيجيات لا تلتقي بل تتعارض وتتباعد طالما يقع تمويل المشاريع التنموية المحلية من طرف الهياكل المعولمة، التي تُفقد المجتمع المحلي الإرادة في ضبط وتصور وتنفيذ سياسته التنموية الخاصة به، وهذا بعد استصدَار القرار من الإطار المحلّي أو الوطني إلى أطر مكرو-اقتصادية أكبر كمنظمة التجارة العالمية أو صندوق النقد الدّولي، وهو ما يهدد كل جوانب الخصوصية والتميّز والتفرّد داخل هذا المجتمع المحلّي. وهذا له من الأثر البالغ على حقول الحياة الاجتماعية بتشعب عناصرها وتداخلها.
فالتغيرات السياسية والاقتصادية الحاصلة على المستوى الدّولي طرحت تحديات جديدة على الثقافة المحلية، وأصبح من الصّعب جدا حماية أو تحصين هذه الثقافة أمام زحف القوى الثقافية العالمية التي تملك بدورها القدرة الاقتصادية والإعلامية والتكنولوجية والصناعية وتحاول بكل الوسائل فرض نفسها من خلال قيمها ونماذجها ومنتجاتها وتحويل المجتمعات إلى سوق استهلاكية.
و رغم ما يراه البعض من الدارسين حول الاستفادة والانفتاح والمنادين بالتحديث والتمتع بالتكنولوجيا في إطار تنمية المجتمع، إلاّ أنّ هذه التنمية ليست منعزلة أو منغلقة ، أو يقع استيرادها معلبة فهي في علاقة وطيدة بالجانب الثقافي والقيمي ولا يمكن فصلها، ومن هذا المنطلق يمكننا الحديث عن الاختراق والغزو وفقدان الثقافة المحلية شخصيتها وفرادتها ضمن مفارقة الكوني الشامل والمحلّي الخصوصي وهو ما يؤدّي إلى القول بأن الثقافة لم تعد من إنتاج المحلّي، فالعالم أصبح قرية صغيرة لحراك ثقافي هائل، يتجاوز في خصائصها المؤسسات التقليدية في إنتاج الثقافة، وتنزع إلى ثقافة عالمية واحدة، عبر شبكات الاتصال وتكنولوجيا المعلومة، وهو ما يجعل الحدود لا وجود لها. فأي دور اليوم للعائلة والمؤسسة التربوية والمؤسسة الدينية... أمام غزو وانتقال السلع والأفكار والرّموز. فالثقافة سلعة لا يمكن تناولها منفصلة عن بقية السلع، وعن بقية الجوانب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. فالجانب السياسي هو الأكثر حساسية للتغييرات التي فرضتها العولمة على اعتبار شدة ارتباطه بالجانب الاقتصادي والتنموي، خاصة مع دخول سياسة اقتصادية جديدة، ضمن منظومة الدول الرأسمالية، وتعقيدات العلاقات الدولية والسياسية والاقتصادية، من خلال تصنيفات دول اشتراكية وأخرى رأسمالية ودول عدم الانحياز... ويبدو أن القلق أصبح يطفو على مخيلة النخب السياسية في البلدان النامية حول مآل الدولة الوطنية، وهو ما يمكن من الحديث عن أزمة الدولة والنظام السياسي في دول العالم النامي، في ظل التحولات أو التغيرات الدولية والعالمية الجديدة، وعلى رأسها بلوغ العولمة كظاهرة كونية. فقد أصبحت حدود الدولة الوطنية مهددة. وهو ما جعلها تحيد عن وظائفها ودورها التقليدي، خاصة أمام سحب القرار من طرف الحكومات التي أصبحت تنفذ أحيانا سياسات خارجية لمؤسسات مالية تقدم البرامج وتفرض الشروط وتعطي المال والاستثمار وتصادر القرار السياسي، وكما يرى غسان سلامة فإن السيادة الوطنية تنتهك على أعتاب صندوق النقد الدولي ومؤسسات المالية العالمية.
ويطرح هذا الإشكال بأكثر تعقيدا في علاقته بالهوية، أمام التأثيرات التي تحدثها التكنولوجيا على مستوى الهوية، فأصبحنا نعيش تنازعا بين قوتين اثنتين من أجل تحوير العالم وحياتنا وهما، العولمة والهوية.


محمد الهادي حاجي – باحث في علم الاجتماع










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أكسيوس: الولايات المتحدة علّقت شحنة ذخيرة موجهة لإسرائيل


.. مواجهات بين قوات الاحتلال وشبان فلسطينيين أثناء اقتحامهم بيت




.. مراسل الجزيرة: قوات الاحتلال تقوم بتجريف البنية التحتية في م


.. إدارة جامعة تورنتو الكندية تبلغ المعتصمين بأن المخيم بحرم ال




.. بطول 140.53 مترًا.. خبازون فرنسيون يعدّون أطول رغيف خبز في ا