الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تعليم الجهل وظروفه الحديثة ل - جان كلود ميشيا - *

محمد الطيب بدور

2020 / 6 / 24
التربية والتعليم والبحث العلمي


في عام 1979 ، وصف كريستوفر لاش ، أحد أكثر العقول اختراقًا في هذا القرن ، بهذه المصطلحات ، تراجع نظام التعليم الأمريكي :
التعليم الجماهيري ، الذي وعد بإضفاء الطابع الديمقراطي على الثقافة ، كان مخصصًا لصفوف المحظوظين ، انتهى به الأمر إلى استغباء المحظوظين أنفسهم. المجتمع الحديث الذي نجح في خلق مستوى غير مسبوق من التعليم الرسمي ، أنتج أيضًا أشكالًا جديدة من الجهل. أصبح من الصعب أكثر فأكثر على الناس استخدام لغتهم بسهولة وتذكر الحقائق الأساسية لتاريخ بلادهم بدقة ، و إجراء استنتاجات منطقية أو فهم نصوص مكتوبة .(1)
بعد ثلاثين عاما ، يجب أن نعترف بأن معظم هذه الانتقادات تنطبق أيضا على الوضع الحالي و هذه ليست مصادفة. إن أزمة المدرسة لا يمكن فصلها عن تلك التي تؤثر الآن على المجتمع الحديث في المجمل. من الواضح أنها جزء من نفس الحركة التاريخية التي فكّكت العائلات ، و قسمت الوجود المادي والاجتماعي للقرى والأحياء ، وبطريقة ما أخذت معها تدريجياً جميع أشكال التحضّر الذي كان قبل عقود قليلة ، يمثل جزءًا مهمًا من العلاقات الإنسانية. هذه الملاحظة ، في حد ذاتها تبدو بديهية تمامًا ، ومع ذلك ، فقد تظل بدون عواقب (أو حتى تؤدي إلى عواقب غامضة) ، إذا لم نتمكن ، في نفس الوقت ، من فهم طبيعة هذا المجتمع الحديث ، أي فهم المنطق الذي يرأس حركته. عندها فقط سيكون من الممكن قياس مدى التقدم الحالي للجهل ، بعيدا عن كونه نتاج لتأثير الخلل المؤسف للمجتمع بل كشرط ضروري لتوسيعه..
يرتكز النظام النظري للاقتصاد السياسي على فكرة بسيطة ومبدعة : كل ما يتطلبه الأمر لضمان السلام والازدهار والسعادة تلقائيًا - ثلاثة أحلام ستتحقق للإنسانية –إلغاء كل ما يعيق اللعبة الطبيعية للسوق ، من الأعراف والعادات وقوانين المجتمعات الموجودة حتى يعمل دون عوائق ولا توقف. لدعم هذه الفرضية ، وصياغة "القوانين" التي لها صرامة واضحة ، وجهة النظر هذه تصف الناس " بذرّات اجتماعية " متحركة بلا نهاية يقودها اعتبار واحد : مصلحتهم أولا . (2)
إن الصلاحية النظرية والعملية لهذا البناء يعتمد بالطبع على الميل الفعلي للأفراد للعمل كما تتطلب النظرية ، أي التذرّر .
هذا هو السبب في أن تنفيذ الاقتصاد الليبرالي (كغشاء) لا يفترض فقط المؤسسة ، للوهلة الأولى: من سلطة سياسية قوية بما يكفي لكسر جميع العقبات من قوانين و أعراف تعارض " الاستيعاد " من السوق و توحيده بلا حدود الى سلطة تعطي وجودًا عمليًا للشكل الأنثروبولوجي المطابق للفرد "العقلاني" كليا ، أي الأناني والمحاسب ، بدعوى تحريره من "الأحكام المسبقة" أو "الخرافات" أو "الآثار" التي تنشأ بالضرورة - اعتمادًا على الفرضية الليبرالية –من جميع الأنواع الموجودة المجربة من التحيّز أو الانتماء أو التجذّر .
كما يتبين ، فإن مشروع "العلم" الاقتصادي - لا يمكن فصله عن تعبير "بول لافارج" عن دين رأس المال و تمثلات العقل كأداة متميزة للحساب الأناني ، وبعبارة أخرى كسلطة طبيعية قادرة على تنوير الانسان بخصوص "منفعته الخاصة" (سبينوزا) و تنظيم اضطراب العواطف لصالحه .
نحن نفهم الآن الفكرة الرهيبة للنموذج الرأسمالي ، في عهد تكون فيه كل مجتمعات العالم مدعوة الآن للطاعة. تميل المصلحة الأنانية في الاقتصاد السياسي بالضرورة إلى رؤية المحرك العقلاني الوحيد للسلوك البشري ، هو بالضبط السبب الوحيد للتصرف الذي يمكن أن يشكل في حد ذاته ما تم تسميته ، منذ نيتشه : القيمة . قيمة (سواء كانت شرفا ، صداقة واجبا ، رحمة ، تفانيا في العمل أو في المجتمع ، وبشكل عام ، في أي شكل من أشكال التضامن أو التحضّر) هي ، بحكم تعريفها ، ما يمكن أن يقرره الشخص ، عندما تتطلب الظروف ذلك ، للتضحية بكل مصالحه أو بجزء منها ، أو حتى ، تحت ظروف معينة حياته نفسها (3). بعبارة أخرى فإن ميول الإنسان للتضحية أو التنازل أو الهبة ، هو الشرط الرئيسي الذي يمكن أن يعطي معنى لحياته ، والتي يتم تعريفها من خلال قوانين علم الأحياء .
لكننا نعلم أيضا ، أن الانسان على عكس الحيوان ، "لا يولد حاملا لمعنى محدد لحياته " يجب على المرء أن يستنتج بالضرورة أنه لا يوجد مجتمع بشري ممكن دون ترتيبات معيارية يتم من خلالها تصور و تأسيس الأجيال المتتالية و الوصول بها الى الوضع البشري.
إن ما يمثل تعقيد العالم الحديث و بدون تبسيط للطقوس الايديولوجية ، هذا التناقض الدائم بين القواعد العالمية للنظام الرأسمالي والتحضّر الخاص للمجتمعات المختلفة أين تم بناؤه و اختباره .
لذلك كان عالماً حيث "نمط الإنتاج الرأسمالي" بعيدا عن السيادة المطلقة ، ففي كل مكان حوله ، ظلت مجموعة واسعة من البيئة والأنثروبولوجيا و الأخلاق متواجدة و حيث يمكن للأسوإ أن يحتكّ بالأفضل . لذلك نرى ، أحيانا ، إذا كان من الممكن الحصول على درجة عالية بالفعل من الإنتاج الرأسمالي ، فإنه في بعض الحالات يمكن الحد من آثاره المدمرة أو تخفيفها .
إن هذا الجهاز التاريخي المعقد هو الذي يبرز الغموض في تشكّل معظم مؤسسات العصر بدءا من المدرسة نفسها .
إن الوظيفة الحاسمة للمدرسة هي ، بالطبع ، إخضاع الشباب لقيود النظام الجديد ، وهذا يعني لحكم كونية التسليع وظروفها التقنية والعلمية. معركة عنيدة تشنها المدرسة ضد التقاليد الشعبية أو المحلية المختلفة فهي من وجهة نظر الرأسمالية ، بحكم تعريفها قديمة وغير عقلانية. هي أيضا لأسباب ترجع بشكل رئيسي إلى الأصول التاريخية البعيدة للمؤسسة مكان لأشكال الانضباط والمراقبة والسيطرة الاستبدادية التي لا تزال تمارس في كثير من الأحيان و تتعارض مع ما تتطلبه كرامة الناس المعاصرين. ولكنها في نفس الوقت ، مهتمة بنقل بعض المعرفة والفضائل والمواقف التي كانت في حد ذاتها مستقلة تمامًا عن النظام الرأسمالي. سيكون حينها من السهل للغاية ، على سبيل المثال ، استنتاج التقليل من الدراسات الأدبية و الفلسفية و الانسانية .
في الواقع ، يمكن للجميع أن يروا أن الثقافة الكلاسيكية التي تغذت ، من النماذج و الشجاعة القديمة أو روائع الذكاء النقدي العالمي ، أتقانها على الأقل لفرص التدريب على الفضول الفكري و إعراضها عن مستهلكين راغبين في التعاون في جميع الأوضاع في عهد البضائع المغرية .
إن هذه التسوية التاريخية الهشة للمجتمعات الحديثة ، وجدت نفسها تتحطم بشكل تدريجي و فقدت لحظة توازن مميزة عرفتها جميع المجتمعات الحديثة خلال الستينات ، بين الجنون الضروري للحرية والالتزام ، ثم الاعتراف ، و احترام التحضر و ممارسته . لا شك أن هذه اللحظة لا تتوافق مع مجتمع مثالي و ليست لها علاقة على الإطلاق ، بمجتمع لديه القدرة على المثالية لأن الحرية لم تتح لها بعد الفرصة لإظهار جانبها السيئ. ذلك هو السبب في استمرار الأثر العميق للأعمال الثقافية الخالدة و روائع الفكر في عملية الانجذاب الأبدي لتلك اللحظة التي لن تعود .
إنه من خلال إحدى حيل الاقتصاد إلغاء جميع العقبات الثقافية من يد السلطة على أنها أول واجب للثورة المعادية للرأسمالية( أحداث 68 في فرنسا مثلا). يجب أن يقال أن النيران الرائعة أضاءت - وحيث كان الجميع مدعوا للتخلص من ماضيه الضخم ليحصل على مكاسب نفسية و فوائد عديدة و يقبل بجداول الشريعة الجديدة ـ ممنوع المنع ـ وحيث يكتشف الشباب احتلاله مركز الصدارة و حرية على قياس الكسر الجذري مع جميع الالتزامات و الانتماء و بشكل أعم مع التراث اللغوي و الثقافي و الأخلاقي .
في ظل هذه الظروف الجديدة جذريا ، وعلى أساس الرغبة و السعادة التي تقابلها ، ذلك الاستهلاك ، الذي كان ، مجرد لحظة خاصة للنشاط البشري ، يمكن أن يصبح في النهاية ما هو عليه الآن في كل مكان: طريقة الحياة في حد ذاتها - سباق مهووس للمتعة التي طال تأجيلها كثقافة مضادة في الممارسة العملية يقصد بها التحرّرـ كل شيء و على الفور ـ خذ رغباتك كحقائق ـ استمتع بدون أغلال وعش دون وقت ميت! ـ وآلاف أخرى من نرجسية " أوديب " التي ستصبح بسرعة المادة الأساسية لوكالات التسويق .
كان من الواضح أن الأساس المثالي الذي يقوم عليه المفترسون العظماء للصناعة ووسائل الإعلام و التمويل ، بتواطؤ من مؤسساتهم الدولية (البنك الدولي ، صندوق النقد الدولي ، منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ثم منظمة التجارة العالمية وما إلى ذلك) حيث يمكن للطبقة السياسية و بكل راحة البال الفكرية أن تتعهد ببناء مجتمع توليفته و أمره الوحيد شعار ـ دعه يعمل، دعه يمر ـ

يمكن للحركة ، التي ظلت على مدى ثلاثين عامًا ، تحول المدرسة في اتجاه متطابق دائمًا ، أن تمكّن من إدراك الحقيقة التاريخية المحزنة. تحت ادعاء مزدوج من "دمقرطة التعليم"
(هنا كذبة مطلقة 4) و" التكيف الضروري مع العالم الحديث "(هنا نصف الحقيقة) ، ذلك أن الذي يحدث بالفعل ، من خلال كل هذه الإصلاحات هو مدرسة الرأسمالية الكلية ، أي واحدة من القواعد اللوجستية الحاسمة لأكبر الشركات عبر الوطنية - بمجرد اكتمالها ، في الخطوط العريضة ، تكون عملية إعادة الهيكلة - قادرة على شن حرب اقتصادية بكل كفاءة في القرن الحادي والعشرين .
إذا كان لدى البعض أدنى شك في ذلك ، أو إذا وجدت أن هذه الكلمات مبالغ فيها ، فيكفي وفقا لتوصيات "مكيافيل 5" - الوقوف لحظة من وجهة نظر مخالفة والتساؤل حول ما يتم التخطيط له من قبل أمراء الحرب الاقتصادية في العالم ، مع كل جيوشهم من الفقهاء والعلماء الذين يضطرون باستمرار للقاء لتنسيق استراتيجياتهم المتنافسة والتأكد من عدم تعرض حكمهم للعالم للخطر. و لئن توفرت التقارير والوثائق أو مذكرات الإحاطة أو الشهادات و ظل وصولها للجمهور العام منعدما أو متأخرا ، فإنه في الوقت الحاضر يمكن الوصول إليها جزئيًا للعقول الفضولية والمحققين العنيدين .
في سبتمبر 1995 - تحت رعاية مؤسسة غورباتشاف – اجتمع خمس مائة من السياسيين و القياديين الاقتصاديين والعلميين ، يشكلون النخبة في العالم ، في فندق فيرمونت في سان فرانسيسكو لمواجهة وجهات النظر حول مصير الحضارة الجديدة. لهذا الغرض ، تم وضع هذا المنتدى تحت راية أقصى قدر من الكفاءة: القواعد الصارمة تجبر جميع المشاركين على تجنب الخطابة أمام المتحدثين و الاكتفاء بخمس دقائق فقط لتقديم الموضوع كما يجب ألا يستمر أي تدخل خلال المناقشات أكثر من دقيقتين . إن مبادئ العمل هذه بمجرد تحديدها ، تم الإجماع - كدليل لا يستحق أن يكون نقاشا :
"في القرن المقبل ، سيكون عشرا القوة العاملة كافيين للحفاظ على نشاط الاقتصاد العالمي " و على أسس صريحة ، فإن المشكلة السياسية الرئيسية بالنسبة للنظام الرأسمالي هي بكل صرامة: كيف سيكون من الممكن للنخبة في العالم ، الحفاظ على حكم ثمانين في المائة من الإنسانية الزائدة ، المبرمجة على أنها بدون جدوى من قبل المنطق الليبيرالي ؟
الحل الذي فرض نفسه في نهاية النقاش باعتباره الحل الأكثر منطقية ، هو الحل الذي اقترحه " زبينيو برزازينكي" (6) : " تحديد كوكتيل تخديري مذهل و تغذية كافية للمحافظة على المزاج المريح لسكان العالم المحبطين "
من الواضح أن هذا التحليل الذي يدعو الى السخرية والازدراء له ميزة التحديد الواضح للمرغوب فيه: تعيين كراس الشروط و مواصفات مدرسة القرن الواحد و العشرين .. هذا هو السبب في أنه من الممكن ، و على أساسه ، الاستنتاج ، (مع هامش محدود من الخطأ) الأشكال المسبقة لأي إصلاح يهدف إلى إعادة تكوين الجهاز التعليمي فقط لفائدة المصالح السياسية والمالية لرأس المال :
بادئ ذي بدء ، من الواضح أن مثل هذا النظام يجب أن يحافظ على قطاع التميّز و المقصود
تدريب ، على أعلى مستوى ، مختلف النخب العلمية والتقنية والإدارية التي ستزداد ضرورتها مع ازدياد صعوبة الحرب الاقتصادية العالمية . يجب أن تستمر مراكز التميز هذه - مع شروط وصول انتقائية للغاية - في الاستمرار في نقل ليس فقط المعرفة المتطورة والمبدعة ، ولكن أيضا الحد الأدنى من الثقافة والروح النقدية التي بدونها لا يكون اكتساب هذه المعرفة وإتقانها الفعال بلا معنى ، و لا فائدة حقيقية .
أما بالنسبة للمهارات التقنية المتوسطة - تلك التي تعتبرها المفوضية الأوروبية بنصف عمر عشر سنوات ، ينخفض خلالها رأس المال الفكري بنسبة 7٪ سنويًا ، يرافقه انخفاض مماثل في كفاءة العمل . إنها معرفة يمكن التخلص منها - مثل البشرالذي يمثل دعامتها المؤقتة ، فبقدر ما هي مبنية على المزيد من المهارات الروتينية ، والتكيف مع السياق من الناحية التكنولوجية ، فإنها تتوقف عن العمل بمجرد أن يصبح هذا السياق قديمًا.
إن الثورة المعلوماتية ، لديها من وجهة نظر رأسمالية أكثر من مزايا : معرفة نفعية وخوارزمية – أي غير حاسمة للاستقلالية و الإبداع بالنسبة للذين يستخدمونها ، معرفة في نهاية المطاف يمكن أن يتعلمها المستخدم بمفرده أي في المنزل باستعمال الكمبيوتر و البرمجيات المقابلة .
و هكذا بتعميم المهارات المتوسطة و ممارسة التعليم متعدد الوسائط عن بعد يمكن للطبقة المهيمنة أن تصيب عصفورين بحجر واحد : ستتم دعوة الشركات الكبيرة مثل( سيمانس و ايركسون و أوليفتي ) و غيرها لبيع منتجاتها في سوق التعليم المستمر الذي تحكمه قوانين العرض و الطلب ، من ناحية أخرى ، فإن عشرات الآلاف من المدرسين (ونعلم أن تمويلهم يمثل الحصة الرئيسية من الإنفاق على التعليم الوطني) يصبحون عديمي الفائدة تمامًا وربما يقع الاستغناء عنهم مما سيسمح باستثمار فاتورة الأجور الموفرة في عمليات أكثر ربحية للشركات الدولية الكبيرة .
وأخيرًا ، يبقى الأكثر عددًا ؛ أولئك الذين قدر لهم النظام البقاء عاطلين عن العمل أو الذين سيعملون بطريقة غير مستقرة ومرنة ، في وظائف مختلفة ، لن يكونوا أبداً سوقا مربحة وأن استبعادهم من المجتمع سيزداد مع استمرار الآخرين في التقدم .
إن النقل المكلف للمعرفة الحقيقية ، والأساسية ، والحرجة ، وكذلك تعلم السلوك المدني الأولي أو حتى بكل بساطة تشجيع الاستقامة و الصدق ، لا يقدم أي مصلحة هنا للنظام ، ويمكن أن يمثل ، على وجه اليقين للظروف السياسية ، تهديدا لأمنه.
من الواضح أن المدرسة يجب أن تعمل لفائدة هذا الرقم الكبير ، بكل طريقة يمكن تصورها. هذا النشاط ليس بديهيا ، يمتلكه المعلمون التقليديون حتى الآن ، على الرغم من البعض من التقدم ، تم تدريبهم بشكل سيئ للغاية. وبالتالي فإن تعليم الجهل يعني بالضرورة إعادة تثقيفهم ، أي أنهم مجبرون على "العمل بشكل مختلف" في ظل الاستبداد المستنير من قبل جيش قوي ومنظم جيدا من خبراء "علوم التربية". مهمتهم بطبيعة الحال تحديد وفرض (بكل الوسائل المتاحة من قبل مؤسسة هرمية لضمان خضوع من يعتمد عليها) الشروط التربوية والمادية لما أسماه ديبورد "تفكيك المنطق": بعبارة أخرى فقدان القدرة على التعرف الفوري على ما هو مهم وما هو ثانوي أو خارج نص السؤال؛ ما هو غير متوافق أو ، على العكس ، ما يمكن أن يكون مكملاً ، ما تتضمنه النتيجة وما الذي تحظره في نفس الوقت . التلميذ بهذه الطريقة سيروّض منذ البداية ، لخدمة الأمر المؤسس ، (و إن كانت نيته مخالفة تماما لهذه النتيجة ) و سيعرف في المجمل لغة العرض و الفرجة بشكل رئيسي ، لأنها الوحيدة التي يألفها
أما بالنسبة للقضاء على الآداب العامة ، أي ضرورة تحويل التلميذ إلى مستهلك غير متحضر ، وإذا لزم الأمر ، عنيف ، فإن هذه المهمة تطرح مشاكل أقل فيكفي هنا حظر أي تربية مدنية فعالة واستبدالها بشكل من التربية على المواطنة كخليط مفاهيمي يسهل نشره أكثر من تطبيقه ، حال الإشهار و الإبهار السائد في وسائل الإعلام .
تفترض الأهداف المخصصة لما سيبقى في المدرسة العمومية على المدى الطويل ، تحول مزدوج حاسم : من ناحية ، يجب على المدرسين التخلي عن وضعهم الحالي كمهنيين يمتلكون المعرفة من أجل أن يكونوا منشّطين لمختلف الأنشطة الإيقاظية و العرضية
و النزهات التعليمية و منتديات المناقشة ( كما ينطبق على نموذج البرامج الحوارية التلفزيونية ) من أجل الاستفادة من مختلف المهام المادية أو النفسية المربحة. من جهة أخرى، تكون المدرسة مكانا للحياة ، ديمقراطية ومرحة ، هي مركز للرعاية المواطنية أين يمكن تنظيم الاحتفالات بمناسبة أو بغيرها ، فضاء مفتوح لمختلف الجمعيات والآباء و الممثلين المحليين و الناشطين المروجين للسلع التكنولوجية ...
ليس من الضروري أن تكون متخصصًا في تاريخ المؤسسات التعليمية للتعرف على اليوتوبيا السلبية التي تم تحديدها للتو . إن مبدأ الإصلاحات نفسه الذي استمر لمدة ثلاثين عامًا بالأشكال والإيقاعات التي تتوافق مع السياقات المحلية و الاقليمية و إذا كان من الضروري الاعتراف بشيء ، الذكاء الخاص للرأسمالية في حربها ضد الطبقات الشعبية باستغلال الأماكن العامة الإيديولوجية التي غزت السوق. كما كتب فنكيلكروت "المنشورات الاحتجاجية للسنة الماضية هي توجيهات الحكومة اليوم ". قبل ثلاثين سنة ، كان تلاميذ المدارس الثانوية الذين أعلنوا أنه لمحاربة عدم المساواة يجب ألا يكون المدرسون راضين على نقل الثقافة التي لديهم ، ولكن لإيقاظ شخصية كل تلميذ وتعليمه تكوين نفسه ، خطاب تولى ترويجه المنظرون و خبراء التربية .
في الممارسة العملية ، هذه الحركة الإصلاحية ، هي عملية معقدة وخاضعة ، كما هي القاعدة ، إلى تقلبات علاقات القوة المتعددة بما في ذلك بعض الكبح الجزئي الذي يتم تعويضه على الفوربالتسارع الوحشي المبهر .
لذا يجب أن تفهم "أزمة المدرسة" الحالية التي يدركها عامة الناس تدريجياً قبل كل شيء على أنها التأثير المطول لحالة أصبحت متناقضة. من ناحية ، المدرسة ، لأنها كانت الجزء المركزي من الجهاز "الجمهوري" - وهذا يعني عصرا ونظاما لم يكن فيه السوق المنظم ذاتيًا قادرًا على إخضاع أغلبية الأشياء ـ آخر الأماكن الرسمية أين تتعايش فيها العادات و شظايا حقيقية لروح غير رأسمالية و بعض الاحتمالات لنقل المعرفة و جزء من الفضائل التي بدونها لا يمكن أن يكون لديك مجتمع لائق.ـ ولكن من ناحية أخرى ، في ظل تصاعد الإصلاحات الليبرالية، تميل المؤسسة ميكانيكيًا إلى أن تصبح مجموعة متكاملة من العقبات المادية والمعنوية المختلفة التي يجب على المدرس أن يواجهها إذا كان لديه تعاسة أن يستمر ، من خلال انحراف غريب ، و إرادة نقل المزيد من الضوء والتحضّر.مثل هذا التناقض ،لا يمكن أن يحدد غيرمناخ سيئ للغاية: وفي واقع ، يصبح كل يوم أكثر اختناقا.
هذه الحقائق ، الآن لا تعد ولا تحصى ، تغير إلى حد كبير بيانات المشكلة. إذا كان صحيحا كما كتب "ديبورد " أنه لأول مرة في تاريخها ، يمكن للهيمنة المذهلة أن تعلّم جيلًا ينحني لقوانينها " (7) نستنتج أنها في الحرب ضد الإنسانية ، يبدو أن الرأسمالية قد استمرت في التقدم لمدة ثلاثين سنة عدة خطوات إلى الأمام. يحدث كل شيء كما لو أن أسياد الكوكب قد أعطوا أنفسهم شعارالشكل المقلوب للملاحظة الشهيرة التي كتبها ماكس بلانك: "الكذب لا ينتصر أبدًا بمفرده ، لكن خصومه من يموتون في النهاية " (8). إذا كانت هذه هي استراتيجيتهم وإذا كانت الأمور ، من ناحية أخرى ، قد وصلت إلى هذه النقطة ، فإن مهمة الانسان هي يجد معقدة بشكل فريد. من ناحية ، نكتشف المزيد كل يوم أن "الحركة التي تلغي الظروف القائمة" - أي الرأسمالية – تقود الإنسانية إلى عالم غير قابل للسكن من الناحية البيئية ومستحيلة من الناحية الأنثروبولوجية. ولكن من ناحية أخرى ، ندرك أيضا أنه لن يكون من الممكن معارضة هذه الحركة التاريخية الانتحارية ـ ما يعني ببساطة إنقاذ العالم فقط اذا توافقت الأجيال القادمة على تحمل هذه المقاومة من تلقاء نفسها ، أو فإننا نجازف بأن نجد أنفسنا قريباً ، مهما كان مصير المدرسة ، في مواجهة مشكلة كانت
غير متوقعة تاريخيا لم يصغها أحد بوضوح بارد كما صاغها خايمي سيمبرون (9) : "عندما يتظاهر المواطن البيئي بطرح السؤال الأكثر إزعاجًا: ما هو العالم الذي سنتركه لأطفالنا؟ ، يتجنب طرح هذا السؤال الآخر ، وهو أمر مثير للقلق حقًا: إلى أي أطفال سنترك العالم ؟ "

المراجع
* كلود ميشيا (مواليد 1950) أستاذ متقاعد و فيلسوف فرنسي، مؤلف العديد من المقالات . معروف بمواقفه التي تعمل ضد التيار الرئيسي لليسار الذي ، وفقا له ، فقد كل روح النضال ضد الرأسمالية لإفساح المجال لـ "دين التقدم "
1) Christopher Lasch. La Culture du Narcissisme
(2) Helvétius, Del’Esprit / « Si l’univers physique est soumis aux lois du mouvement, l’univers moral ne l’est pas moins à celles de l’intérêt ».
(3) C. Castoriadis, L’Institution imaginaire de la société, 1975
(4) Antoine Prost / (L’enseignement s’est-il démocratisé ?, 1992
(5) Nicolas Machiavel /est un penseur humaniste italien de la Renaissance,/ Théoricien de la politique, de l histoire et de la guerre
(6)- Ancien conseiller de Jimmy Carter et fondateur, en 1973, de la Trilatérale, « club encore plus impénétrable que le Siècle, qui regroupait en 1992 environ 350 membres américains, européens et japonais » et qui constitue « un des lieux où s’élaborent les idées et les stratégies de l’internationale capitaliste
(7) Debord /Les conditions extraordinairement neuves dans lesquelles cette génération dans l’ensemble a effectivement vécu, constituent un résumé exact et suffisant de ce que désormais le spectacle empêche et aussi de ce qu’il permet. »
(8) Max Planck / « la vérité ne triomphe jamais entièrement par ellemême, mais ses adversaires finissent toujours par mourir ».








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الضفة الغربية: قتلى فلسطينيين في عميلة للجيش الإسرائيلي بقرب


.. غزة: استئناف المحادثات في مصر للتوصل إلى الهدنة بين إسرائيل




.. -فوضى صحية-.. ناشط كويتي يوثق سوء الأحوال داخل مستشفى شهداء


.. صعوبات تواجه قطاع البناء والتشييد في تل أبيب بعد وقف تركيا ا




.. قوات الاحتلال تنسحب من بلدة بطولكرم بعد اغتيال مقاومين