الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السلوك الاستهلاكي

محمد الهادي حاجي
باحث متحصل على شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع

(Hajy Mohamed Hedi)

2020 / 7 / 1
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


السلوك الاستهلاكي :
سنحاول التركيز في هذا الجانب على الاستهلاك وقد حظي هذا الموضوع بالاهتمام الاقتصادي، فالاستهلاك ظاهرة ذات بعد اقتصادي في المقام الأول، ولعل الاهتمام الكبير الذي حظي به الاستهلاك من قبل الباحثين في الاقتصاد يبين أهميته، وما يرتبط به من مواضيع وقضايا بعضها اقتصادي، مثل العرض والطلب والإنتاج والجودة والمنافسة والمردودية والبعض الآخر ذو صبغة اجتماعية مثل المستوى المعيشي، والقيم المرتبطة بهذه الظاهرة. لذلك فهو موضوع تشرك فيه عديد العلوم فإلى جانب الاقتصاد نجد علم النفس والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع، فثمة جوانب اجتماعية مهمة تتضمنها هذه الظاهرة لا تقل قيمة عن الجانب الاقتصادي، فهو نمط حياة يومية يعيشها الإنسان فحتى الدراسات المبكرة التي اهتمت بالإنسان من قبل عديد الأنتروبولوجيين (خاصة دراسات مالينوفسكي ورادكليف براون) تكشف عن أن الاستهلاك يمثل جزء مهما من حياة المجتمعات التي يسميها البعض "بدائية"، وتعتبر عملية الاستهلاك شديدة الارتباط بالجانب القيمي والعقائدي في حياة تلك المجتمعات.
و قد سيطرت النظرة الاقتصادية في تعريف الاستهلاك، حيث كان ينظر للاستهلاك كونه عملية اقتصادية بحتة بمعزل عن المتغيرات الاجتماعية الأخرى، غير أن علماء الاقتصاد المحدثين يرون أهمية العوامل الاجتماعية في التأثير على نمط الاستهلاك وتشكيل النمط الاستهلاكي على المدى البعيد. ولعل ما قدمه آدم سميث مثال واضح على الصبغة الاقتصادية البحتة التي تناول من خلالها الاقتصاديون ظاهرة الاستهلاك، على اعتبارها هدفا وغاية لكل عملية إنتاج . وقد بدأ الاتجاه نحو الاعتداد بالعوامل الاجتماعية في ظاهرة الاستهلاك مع "ارنست انجل" وهو من الأوائل الذين نبهوا إلى تأثير العوامل الاجتماعية على الاستهلاك كأهمية الدخل الفردي والأسري، وأهمية أثر الطبقة الاجتماعية على ثقافة الاستهلاك، فالطبقة المترفة تتبنى الاستهلاك المظهري الذي يرمز للثراء والمكانة الاجتماعية، بغض النظر عن الحاجة المستهلكة فإذا كانت النظرة الماركسية تنطلق من تفسيرها للاستهلاك من مقولات المادية التاريخية، فإن الوظيفية تنطلق من أبعاد أخرى مختلفة تماما،فلم يكن التركيز على التطور في مجال وسائل الإنتاج والانتقال عبر المراحل فقط وإنما كذلك على وحدة الإنتاج والاستهلاك باعتبار أن الإنتاج هو الذي يؤدي إلى الاستهلاك. ويركز ماكس فيبر على أهمية القيم والأفكار المؤثرة بشكل هام في تشكيل الإنتاج و الاستهلاك والسلوك الاقتصادي المترتب عنهما، على اعتبار أن التصورات والمعتقدات لها دور فعال في تاريخ الفرد خصوصا تاريخ التطور الاقتصادي، فـفيبر يرى أن القيم تخلقها الظروف الاجتماعية التاريخية، وهي اختيارات فردية حرة محددة بشروط اجتماعية تاريخية تحددها أفكار الجماعات الاجتماعية وتطوراتها المتباينة. أما دوركايم فينظر هو الآخر لرؤية تقترب من التصور الفيبري، وتختلف مع ماركس، فيتمّ التركيز على الاختيار العقلاني لقيم الإنتاج والاستهلاك، إذ أن القيم الاجتماعية هي المحددة لوجود الأفراد وما بينهم من علاقات اجتماعية، كما أنها مكونة للضمير الجمعي، فالقيم تحتل مكانة هامة من حيث الدور والوظيفة داخل المجتمع، فهي تؤثر في قيم الإنتاج والاستهلاك. فالمجتمع في مجمله ظاهرة أخلاقية قيمية معيارية. والإنسان بطبيعته أخلاقي لأنه يعيش في مجتمع تتغير قيمه من خلال التغير من نمط التضامن الآلي إلى العضوي، وهو تغير يرتبط بعناصر مادية لها وجودها الخارجي عن الأفراد.
و قد اهتم مفكرو علم الاجتماع المعاصرون بهذه الظاهرة مثل "تورتشاين فيبلن"، والذي أكد أن العوامل الاجتماعية تلعب دورا مهما في تحديد نمط الاستهلاك، وركز على عديد العوامل التي تكمن وراء الحاجات الضرورية وتحديد "طبيعة الطلب"، فمثلا ينفق أغنياء المجتمع على النحو الذي يرمز لوضعهم الطبقي للتميز عن بقية الطبقات الاجتماعية. فهو الاستهلاك المظهري عند "فيبلن" الذي يعني الاستهلاك المفرط للسلع والتي تمثل مؤشرا على انتماء المستهلك للطبقة المحظوظة في المجتمع الرأسمالي، وقد استخدم "فيبلن" هذا المصطلح في الدراسات الأنتروبولوجية للمجتمعات "ما قبل رأسمالية" ليبين التباهي باستهلاك السلع بهدف اكتساب الهيبة. فالبعض يشتري السلع باهظة الثمن ليس لأنها الأفضل أو إشباعا لحاجة، وإنما لأنها غالية، وهو ما يعني التباهي بها أمام أفراد المجتمع وهذا يدلل على أن الوظيفة الظاهرة للاستهلاك الاقتصادي وهي الانتفاع، تختلف عن تحقيق الهيبة الاجتماعية، (prestige social).
ويمكن الاشارة في هذا السياق إلى بعض العوامل أوالمؤثرات البيئية الخارجية والتي تؤثر على المستهلك وهي مؤثرات حضارية وثقافية واجتماعية (الانتماء الطبقي والأسري) والمؤثرات التسويقية.
فلكل مجتمع ثقافته وحضارته ويعرّف تايلور الثقافة بكونها "ذلك الكل المركب، الذي يشتمل على المعرفة والعقائد والفن والأخلاق والقانون والعادات. وغيرها من القدرات والعادات التي يكتسبها الإنسان، بوصفه عضوا في المجتمع" . فالعادات والتقاليد والمعتقدات السائدة هي مجموعة القيم المكونة للثقافة، والحضارة تتكون من عنصرين أحدهما تجريدي أو معنوي والآخر مادي، ويؤدي التفاعل المستمر بين المجتمع والفرد إلى تشكيل تفضيلات الفرد الاستهلاكية بصورة تتلاءم مع القيم الجوهرية للمجتمع. وتتمتع هذه القيم الجوهرية بالإلزام أحيانا، فعلى سبيل المثال هناك من المجتمعات التي تسمح حضارتها باستهلاك لحوم الخنازير، وبعض المجتمعات تسمح بأكل لحم السمك حيا والضفادع ومن ذلك فإن قيم المجتمع ومعتقداته وعاداته وتقاليده في السلوك العام لأفراده تشكل سلوكهم الاستهلاكي، وبذلك تقوم ثقافة المجتمع بتحديد شكل الاستهلاك لدى الفرد، فتحرّم الثقافة الإسلامية مثلا استهلاك بعض المواد كالدم ولحم الخنزير كما تحرم الثقافة الهندوسية ذبح البقر وأكله. ثم إن المستهلك يستهلك المنتوج من أجل معناه الرمزي مثل ارتباط بعض المواد والأكلات بالمناسبات الدينية كعيد الأضحى وعيد الفطر.
و تؤثر الطبقة الاجتماعية على السلوك الاستهلاكي، فيتمتع أفراد الطبقة الاجتماعية العليا من ذوي الثروة بمراكز اجتماعية أفضل من الطبقات الدنيا والوسطى، والقواعد والمعايير التي تحكم سلوك الأفراد المنتمين إلى نفس الطبقة تحدد أنواع السلع والخدمات المزمع اقتناؤها. ويتأثر السلوك الاستهلاكي أيضا بالأسرة من خلال عملية التنشئة الاقتصادية للفرد، وذلك حسب نوعية الأسرة وخصائصها الديمغرافية وحجمها ومكانتها الاجتماعية وأسلوبها المعيشي وحجم الإنتاج الداخلي لها فيكون بذلك سلوك المستهلك مجموعة الأنشطة الذهنية المرتبطة بعملية التقييم والمفاضلة والحصول على السلع والخدمات والأفكار وكيفية استخدامها.
وعلى ضوء ما تقدم فإن ثقافة الاستهلاك قد اقترنت بالرموز والصور ومعاني التفوق الاقتصادي والتكنولوجي والرفاهية والمتعة وقد لعبت وسائل الاتصال الحديثة ووسائل الإعلام دورا مهما من خلال الإعلانات ونشر ثقافة الاستهلاك الغربي ونماذجه، وإعلاء قيم الفردية، والبحث عن المتعة والتظاهر ، وهي قيم وافدة أصبحت تفرض نفسها على مختلف الطبقات والثقافات وصارت أسماء الماركات العالمية جزء من الثقافة المتداولة. وقد أدت الإعلانات وثقافة الاستهلاك إلى تسليع القيم والأفكار والمعاني والمشاعر وهو ما أدى إلى حب التملك والمحاكاة والتقليد وهو ما أدى إلى تشكل منظومة قيمية استهلاكية تتماشى والقيم الغربية ، حيث تظهر رغبات وقيم مصطنعة، وغير ضرورية مما يخلق ضغوطا اقتصادية على الأسرة والمجتمع خاصة من خلال الإعلانات التي تشغل معظم الناس في أوقات فراغهم ، مما يؤدي إلى تنامي القدرة الاستهلاكية بزيادة الوقت الذي يقضى في مشاهدة البرامج التلفزية خاصة لدى النساء والأطفال.

محمد الهادي حاجي – باحث في علم الاجتماع - تونس








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انتخابات رئاسية في تشاد بعد 3 سنوات من استيلاء الجيش على الس


.. الرئيس الصيني في زيارة دولة إلى فرنسا والملف الأوكراني والتج




.. بلحظات.. إعصار يمحو مبنى شركة في نبراسكا


.. هل بات اجتياح مدينة رفح قريبا؟




.. قوات الاحتلال تقتحم مخيم طولكرم بعدد من الآليات العسكرية