الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اصرخ يا بائس... فليحيا العدل!

وليد سلام جميل
كاتب

(Waleed Salam Jameel)

2020 / 7 / 3
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


كلّ يوم يأتي مساعد مدير الشركة بابنه الصغير ذي السبع سنين إلى الشركة ليتعلم فنون العمل. وقد كان اختيار الأب للمسلك الذي ينوي تعليمه لابنه جيداً. لقد سلّم ابنه للمهندس المسؤول عن الرسم الهندسي في الشركة. هذه الشركة متخصصة في صناعة وتصدير المصاعد الحديثة ومن دون رسم المهندس فلن تكون هناك أيّة حركة في العمل لأنّ تجهيز المصعد يختلف حسب البناء في المشروع المستهدف ومواصفات الزبون المطلوبة ، ووفق ما يقدمه الزبون من قياسات ومواصفات يرسم المهندس المصعد رسماً هندسياً يبين فيه الأبعاد والمواد المستخدمة ليقدمها إلى المسؤولين عن قسم التّصنيع حتى يباشروا عملهم.
من الصباح حتى المساء يجلس الطفل جنب المهندس متابعاً طريقة عمله ومتعلماً منه ما يلقيه على مسامعه من معلومات ضرورية تؤهله للعمل مستقبلاً. وبطبيعة الحال فإنّ الطفل يصيبه الملل ويحب الخروج والتجوال واللعب ولكنّ أباه يرغمه على التعلم. في يوم من الأيام تكاسل الطفل وجلس جنب مسؤول آخر بعيداً عن المهندس ، جاءه أبوه وصرخ في وجهه ووجه المهندس قائلاً: إن لم يتعلم بالقوة مجبوراً فسأرسله للمدرسة رغم أنفه... (اللحم لكم والعظم لنا)! من هنا عرفت أن الطفل غير راغب في المدرسة لذا كان تهديد أبيه منصبّاً على نقطة ضعفه. رغم أنّ وظيفة المهندس ليست تعليم الأطفال ولكنّ مساعد المدير -وهو بن عمّ المدير في نفس الوقت- يجبره على ذلك وإلّا سيُطرد من العمل بالتأكيد!
بدأ الطفل يتعلم أكثر وأكثر والجميع يلاحظ ذلك ومن المؤكد بأنه سيكون مهندس المستقبل من دون دراسة علم الهندسة وسهر الليالي! فقط لأنّ أباه هيأ له الفرصة بما يملكه من مال ونفوذ.
حالة الطفل هذا ليست حالة فريدة بل منتشرة وليست ملفتة جداً ، فبطبيعة الحال كلّ أب يريد لابنه التّعلم والتّفوق لضمان مستقبله وقد قيل: الأب لا يتمنى أن يرى من هو أفضل منه غير ابنه. نعم فالفرصة والصدفة أو القدر هي التي شكّلت المستقبل الجيد والرفاء لهؤلاء من دون جهد أو عناء ، كلّ شيء جاهز كطبق طعام معدّ مسبقاً لمن سيتناوله بشهيّة ومن دون عناء الطبخ والنّفخ!.
في صورة أخرى من صور هذا العالم غير العادل يولد أطفال من أبوين فقيرين أو بلاد منهكة أو منطقة ليس فيها تقدّم وتطور فينضج ككل مجتمعه يعيش العناء إلى أن يموت أو تلعب صدفة ما لعبتها لتغير حياته وهذه من العجائب إن حدثت!
صار عمر طفل من عائلة فقيرة سبع سنين وهو مقابل لعمر الطفل الذي ذكرناه سابقاً ، لكنّه وجد نفسه فقيراً وفي عائلة فقيرة إن أصابت غدائها لم تجد عشائها... أخذه أبوه إلى بقّال في الحيّ ليعمل تحت إمرته مقابل أجر زهيد لا يكفي سوى لوجبتي أكل من أكلات الفقراء ، وهي أكلات لا ترى موائدها سوى النّباتات ، فالفقير شاء أم أبى سيكون من أتباع تلك المدرسة الفلسفية التي تحرّم على نفسها أكل اللحوم!
لا وقت لهذا الطفل لكي يتعلم ولا وقت عنده لتغيير عمله وهو بلا واسطة تعينه ولا فضل مال يتيح له هامش حركة ليبحث عن عمل جديد ، فحينما يترك عمله يوماً واحداً فلن يأكلوا في ذلك اليوم وسينامون جياعاً! والخوف من ترك العمل الموجود رغم عدم فائدته هو الهاجس الذي سيبقي هذا الطفل في هذه الدّوامة لسنين ليجد نفسه وقد شارف الثلاثين وما زال لم يتجاوز عتبة الحياة الأولى فيما صاحبنا الأول قد صار مهندساً وبنى مستقبله وطوّر قدراته... هكذا فإنّ محلّ الولادة وظروف الحياة غير العادلة تقدم حياة رفاء لأناس وحياة بؤس لآخرين!... "تعساً لها" يردد ذلك الفقير كلّ حين...
حينما يدور الحديث بين ذلك الغني الذي وجد الطرق معبّدة أمامه ورفاقه عن الفقراء ومصيرهم فإنّه سيمطّ شفتيه ساخراً منهم وملقياً لوم البؤس على رؤوسهم واصفاً إياهم بالكسالى وعديمي النّفع مقارناً حاله بحالهم! هو لم يضع شروط الحياة المختلفة بينهم أمام ناظريه لذا فهو أعمى رغم بصره...
ومن الغرابة أن ترى في كثير من الأحيان من يلومون هذا الفقير وهم مثله وفي رتبته من التعاسة والأغرب أنّ أهله يلومونه مثلهم في بعض الأحيان! تأتي الأم أو الأب أو قريب ليقرّع رأس هذا البائس الفقير ويقارنوه بذلك الغنيّ المتكئ على ورثة جاهزة! يقولون له: لمَ لم تكن كفلان أو فلان يملك بيتاً وسيارة ووو... يا للغرابة والعجب فهل نسيتم أنه لا يملك سوى عمل يوميّ لايكسب من خلاله سوى ما يسدّ به جوعه وجوع عياله!
مَن يولد في عائلة غنية أو متنفذة فسيدرس في أفضل المدارس ويتلقى تعليماً خاصاً مناسباً ، فحتى لو كان غبياً سيوفر له المال فرصة كبيرة ، إن فشل في التعليم فسيفتتح له أهله مشروع عمل يدرّ له ربحاً كالبقرة الحلوب ثمّ يأتيك يتمطّى متباهياً بغناه وقدرته على جمع المال رغم أنه لم يكن بهذا المستوى لولا ما وجده من طبق جاهز قدّمته له الأقدار.
ربما سيصبح ذلك الفقير حاقداً على المجتمع ككل أو مجرماً أو قاطع طريق ، فهو من جهة يرى عدم وجود عدالة إجتماعية ومن جهة يلقى التعنيف والإستصغار والقذف والإستهزاء في كلّ حين! إن المجتمع التحطيميّ يصنع المجرم والسّارق ثمّ يلعنه ويدعو السلطات لإنزال أقسى العقوبات به ، رغم أنّ دعاة إنزال العقوبات كثير منهم مجرمون وسارقون ومتهربون من الضرائب وفاسدون ومتعاونون مع السلطات للإلتفاف على القوانين حتى يكسبوا المزيد من الأرباح!... في نظرهم فإنّ أفعالهم ليست فساداً ولا جرماً بل "شطارة" أمّا أفعال وسلوكيات ذلك البائس فهي جرم مشهود!
يا لها من حياة ظالمة تفرض شروطها ثمّ تدعو للإنتقام ، ويا له من إنسان ذلك الذي يحطّم كلّ آمال الفقراء والمحرومين ، فبدلاً من مساعدتهم للنهوض يعمل على تحطيمهم ليصلوا مرحلة الإنفجار والإنهيار... ويبقى يردد البائسون "فليحيا العدل"!...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. العراق: السجن 15 عاما للمثليين والمتحولين جنسيا بموجب قانون


.. هدنة غزة تسابق اجتياح رفح.. هل تنهي مفاوضات تل أبيب ما عجزت




.. رئيس إقليم كردستان يصل بغداد لبحث ملفات عدة شائكة مع الحكومة


.. ما أبرز المشكلات التي يعاني منها المواطنون في شمال قطاع غزة؟




.. كيف تحولت الضربات في البحر الأحمر لأزمة وضغط على التجارة بال