الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثورة الجهل

الهيموت عبدالسلام

2020 / 7 / 4
التربية والتعليم والبحث العلمي


قبل الثورة العلمية لِ500 سنة الأخيرة كان التراث المعرفي من يهودية ومسيحية وإسلامية وكونفوشيوسية وغيرها يقول لأسلافنا كلُّ شيء تريدون معرفته عن العالم كان معروفا من قبل،امتلكت الآلهة أو الرب الحكيم أو حكماء الماضي أو الكهنة الحكمةَ الشمولية الموحى بها في الكتب المقدسة والمرويات الشفهية ،فما عليكم سوى التبحّر في هذه الكتب والمرويات وفهمها بشكل مناسب ولا ينبغي لكم أن تتصوروا أن سرا من أسرار الكون أو اكتشافا جديدا ستضطلع عليه مخلوقات من لحم ودم ،إذ لم يعد هناك داع لاكتشاف جديد أو اختراع جديد ،كل شيء معلوم ومعروف ومُسطّر في ذلك التراث ،مثلا إذا رغب فلاح في إحدى القرى في القرن الثالث عشر في معرفة كيفية نشأة الكون أو عن كيفية ظهور الجنس البشري أو عن أسباب الأوبئة والجفاف فيُفترض به أن يسأل رجلَ الدين الذي يمتلك الأجوبة الجاهزة والقاطعة عن كل الأسئلة ، أما إذا سأل الفلاح مثلا كيف تنسج العناكب شباكَها وإذا لم يجد رجل الدين الإجابة عن هذا السؤال فإنه يخبر الفلاحَ بأن هذه المعلومة غير مهمة ولو رأى الرب في هذه المعلومة مصلحة لرخاء البشرية وإنقاذها لوضع لها شرحا مفصلا في الكتاب المقدس.

لم يكن العلماء ليستسلموا بأن البحث في العناكب والطيور والفراشات مجرد توافه وأن ليس هناك شيء جديد يجب معرفته ، قد عانى هؤلاء العلماء من التهميش والاضطهاد والتصفية والنفي وإحراق الكتب ،"داروين" خلافا للتراث المعرفي القديم لم يقل أنه كان "خاتم علماء الأحياء" وأنه حلّ لغز الحياة مرة واحدة وإلى الأبد ،بعد قرون من البحث العلمي المكثف سيعترف علماء الأحياء أنهم لا يعرفون كيف ينتج المخ الوعيَ ،واعترف علماء الفيزياء أنهم لا يعرفون ما الذي تسبب في الانفجار العظيم ،أو كيف يوفقون بين نظرية الكم ونظرية النسبية العامة ،وهكذا ازداد إيمان البشر خلال ال 500 سنة الماضية بأنه يمكنهم زيادة قدراتهم في البحث العلمي ،لم يكن هذا إيمانا أعمى بل بُرهن عليه إذ لم يتمكن الإنسان أن يمشي على القمرويُهندس الميكروبات ويشطِّر الذرة من دون البحث العلمي .
لم تنطلق الثورة العلمية من أن كل شيء معروف من قبل ومحفوظ في بطون الكتب ، لم تدَّع الثورة العلمية أنها ثورة معرفة بل كانت قبل كل شيء هي ثورةَ جهل ، الاكتشاف العظيم الذي أطلقته الثورة العلمية هي أن البشر لا يعرفون بشكل مسبق أجوبتهم على الأسئلة الأهم إذ أصبح من تقاليد وأعراف وتواضع العلم الحديث الاستعدادُ والاعتراف بالجهل وأهمية الملاحظة والتجارب ولا توجد نظرية أو مفهوم أو فكرة مقدسة غير قابلة للدحض.
جعل الاستعدادُ للاعتراف بالجهل العلمَ الحديث أكثر ديناميكية ومرونة وفُضولا من أي تراث معرفي سابق،وعبّرت الثقافة الحديثة عن احتضانها للجهل أكثر من أي ثقافة سابقة، واعتبرت طرق البحث الحديثة أن المعرفة السابقة نسبية وتاريخية من الأمور البديهية ،فلا يمكن للفيزيائي أن يتجاهل الأطياف القادمة من مجرات بعيدة ولا يمكن لعلماء الآثار أن يتجاهلوا مُكتشفَات العصر البرونزي ،ولا علماء السياسة والاقتصاد أن يتجاهلوا دراسة ظهور الرأسمالية، قد يبدأ العلماء بما قاله وكتبه السابقون ولكن عليهم أن يتجاوزا ما قاله "إينشتاين" و"ماكس فيبر" وغيرهما .
في 1747 قرر قِسّيسان من الكنيسة المشيخية في اسكتلنده، "ألكسندروبستر" و"روبرت والاس" إنشاء صندوق للتأمين على الحياة يوفّر معاشات لأرامل وأيتام رجال الدين المتوفين ،واقترحوا أن يدفع كل واحد من قساوسة كنيستهم جزءاً صغيرا من دخله للصندوق والذي سيستثمر المال،فإذا توفي كاهن تحصُل أرملتُه على حصة من أرباح الصندوق،يتيح لها العيش براحة بقية حياتها،وليتوفر الصندوق من المال الكافي للوفاء بالتزاماته وتحديد المقدار الذي يجب أن يدفعه القس وجب على الكاهنيْن أن يتنبآ بعدد القساوسة الذين سيموتون كل سنة ،وعدد الأرامل والأيتام الذين سيخلفونهم وعدد السنوات التي تعيشها الأرامل بعد وفاة أزواجهن ، رجلا الدين لم يَدعُوا الرب ليعطيهما جوابا ولم يبحثا في النصوص المقدسة وأعمال اللاهوتيين القدامى بل اتصل الكاهنان بأستاذ الرياضيات "كولن ماكلورين" من جامعة إدنبرة ،جمع الأستاذُ بيانات عن الأعمار التي مات فيها الناس واستخدمها لحساب الكهان المحتمل أن يموتوا كل سنة،بحلول سنة 1965سيبلغ إجمالي رأسمال صندوق رعاية أرامل وأطفال كهان كنيسة إسكتلندة 58348 جنيه أسترليني وثبت أن حساباتهم دقيقة بشكل مذهل، فكان الرأسمال المتنبأ به بأقل من جنيه واحد عن رأسمال الصندوق ، وقد شكل هذا العمل فتوحات كبيرة في مجالي الإحصاءات ات التي أصبحت أساس العلم الإكتواري الذي يُستخدم في شؤون المعاشات والتأمين وفي علم السكان الذي أسسه "روبرت مالتوس" ، وعلم السكان بدوره استند عليه "تشارلز داروين" في نظرية التطور،واستخدم علماء الوراثة بدورهم حساب الاحتمال لحساب احتمالية أن تنتشر طفرة معينة في مجتمع ما ،بل وأصبحت نماذج الاحتمالات أساسية في علوم الاقتصاد والاجتماع والنفس والسياسة.

عندما تعثرت الحرب العالمية الأولى وأصبحت حربَ خنادق وسيطول أمدها،استدعت أطراف الحرب العلماءَ وتدفق من المختبرات جيل جديد من الأسلحة : طائرات مقاتلة،غازات سامة،دبابات،غواصات ،بنادق آلية وقنابل ،في الحرب العالمية الثانية لما أخبر الجنرالات الأمريكيون الرئيسَ "هاري ترومان" أن غزو اليابان سيكلف أرواح مليون جندي وسيطيل أمد الحرب إلى سنة 1946 ،وفي ظرف أسبوعين قرر "ترومان" استعمال قنبلتين ذريتين فاستسلمت اليابان وانتهت الحرب.
لم تؤمن الحضارات البشرية قبل 500 سنة بالتقدم إلا بعد ظهور الثورة العلمية ،اعتبرت الحضارات البشرية أن العصر الذهبي دائما في الماضي ،واعتبرت أنه يستحيل أن يعرف الإنسان المشاكلَ المطروحة اليوم ،وقال الناس آنذاك إذا لم يستطع محمد والمسيح وبوذا وكونفوشيوس الذين يعرفون كل شيء أن يقضوا على المجاعة والحرب والفقر والمرض كيف نستطيع نحن ؟ ولذلك اعتقد الكثير من المتدينين أنه في يوم ما سيظهر المسيح وسينهي جميع الحروب والمجاعات والأوبئة .
علّمت الحضارات البشرية وأساطيرُها القديمة مثل: قصة "برج بابل" وقصة "إيكاروس" وقصة "غوليم" وعددا لا يحصى من الأساطير أن أية محاولة لمعرفة الكون والإنسان ستؤدي إلى خيبة أمل وكارثة،مع الثقافة الحديثة بدأ الناس يقتنعون بأن البشرية يمكن أن تحلّ أية مشكلة من خلال الحصول على معرفة جديدة وتطبيقها ،مثال على ذلك أن الحضارات القديمة كانت تعتبر البرق كان مطرقة إله غاضب يستخدمها لمعاقبة الخُطاة والعُصاة ،في منتصف القرن الثامن عشر وفي واحدة من أشهر التجارب في التاريخ العلمي ،طيَّر "بنيامين فرنكلين" طائرة ورقية عبر عاصفة رعدية لاختبار الفرضية القائلة بأن البرق ببساطة هو تيار كهربائي وليس مطرقة إلاهية ،وأدت تجارب "فرانكلين" لمعرفة خصائص الطاقة الكهربائية لاختراع مانعة الصواعق.
تتحدث أسطورة جلجامش في حضارة سومر القديمة أن الملك جلجامش الذي استطاع هزيمة أي شخص في العالم ،مات ذات يوم "أنكيدو" أعزّ صديق لجلجامش،رأى جلجامش دودةً تزحف من أنف صديقه الميت ، استحوذ على جلجامش رعبٌ رهيب ،اعتزم جلجامش ألا يموت أبدا ،وقرر أن يقوم برحلة ليهزم الموت نفسه،قام جلجامش برحلة لنهاية الكون فقتل العمالقة والأسود والرجال العقارب ولكن عاد لوطنه خاوي الوفاض سوى نُتفة من الحكمة بحوزته تقول أن الآلهة علّمته أن الموت هو المصير الذي لا مفر منه، بالنسبة لرجال العلم الموتُ ليس مصيرا حتميا بل هو مجرد مشكلة تقنية ،ولا يموت الناس بسبب الآلهة بل بسبب أعطاب تقنية مختلفة : نوبة قلبية،سرطان،عدوى ، وكل مشكلة تقنية لها حل تقني ، إذا اختلت ضربات القلب يمكن تحفيزه بجهاز منظم أو استبداله بقلب آخر،وإذا تفشى سرطان يمكن قتله بعقاقير أو إشعاعات،وإذا تكاثرت البكتيريا فيُمكن إخمادها بالمضادات الحيوية ،العلماء حاليا لا يبحثون في الموت ودلالاته بل يبحثون في الأنظمة الفسيولوجية والهرمونية والوراثية المسؤولة عن المرض والشيخوخة،وهم يطورون أدوية جديدة وعلاجات ثورية وأعضاء صناعية ستطيل حياة الإنسان. حتى نهاية القرن 19 كان الأطباء يجهلون كيفية منع العدوى ووقْف تعفن الأنسجة ،كان الأطباء يبترون بشكل روتيني سيقان وأرجل وأيادي الجنود التي أصيبت بجروح خوفا من مرض "الغرغرينا" التي مات بها الملك "ريتشارد قلب الأسد" الذي رفض بتر عضوه المصاب،كان الأطباء يبترون الأعضاء مثلما تخلع الأسنان بدون تخدير وقد استعانوا بالجزارين والنجارين في معركة "واترلو" 1815 لكثرة السيقان والأيادي المصابة التي وجب بترها بالسكاكين والمناشير. في القرنين اللذين تليا معركة "واترلو" أنقذتنا العقاقير والحقن والعمليات الجراحية المعقدة من الموت المحقق،وبفضلها قفز متوسط العمر من حوالي 25 سنة إلى أربعين سنة ،ليصل إلى 67 سنة في جميع أنحاء العالم ،وإلى حوالي 80 سنة في العالم المتقدم.

حتى القرن 20 في المجتمعات الزراعية لم يتمكن مابين الربع إلى الثلث من الأطفال الوصولَ لسن البلوغ،وعانى معظمهم من أمراض الأطفال مثل الدفتيريا والحصبة والجدري ، في أنجلترا القرن 19 توفي 150 من كل 1000 حديثي الولادة في سنتهم الأولى ،ويموت ثلث جميع الأطفال قبل الوصول إلى 15 سنة، أما اليوم فيموت فقط 5 من كل ألف طفل إنجليزي في سنتهم الأولى ، ويموت فقط 7 من كل ألف قبل وصولهم 15 سنة ،ولِفهم تأثير التقدم العلمي والطبي تُعد أسرة الملك "إدوارد الأول" ملك إنجلترا (1237-1307 ) وزوجته "الملكة إليانور" (1241-1290) خيرَ مثال على ذلك، تمتّع أطفال العائلة الملكية بالرعاية والتغذية التي يحظى بهما أطفال الملوك في القصور في القرون الوسطى ،من طعام جيد ومتنوع ،وملابس دافئة ، ومواقد ومياه نظيفة وجيش من الخدم وأفضل الأطباء ،وتذكر المصادر أن الملكة حملت ما بين(1255-1284) بِ 16 طفلا ، كل الأطفال 16 ماتوا باستثناء الطفل الأصغر اسمه "داوود" وتسلم العرش بعد وفاة والده والذي تآمرت عليه زوجته "إيزابيلا" الفرنسية وقتلته في سن الثالثة والأربعين .
تمكن مهندسو علم الوراثة مؤخرا من تمديد متوسط عمر دودة الربداء الرشيقة إلى 6 أضعاف ،ويرى كثير من العلماء أنه في 2050 سيصبح بعض البشر عصيين على الموت (ليسوا خالدين ولكن قد تمتد حياتهم لأجل غير مسمى )
شهدت 500 سنة الماضية نموا عارما وغير مسبوق في القوة البشرية، في سنة 1500 م كان هناك حوالي 500 مليون إنسان عاقل في العالم أجمع ،أما اليوم فهناك أكثر من 7 مليارات ،وتقدر القيمة الإجمالية التي أنتجتها البشرية من سلع وخدمات سنة 1500 م حوالي 250 مليار دولار ،أما اليوم فوصلت قيمة الإنتاج البشري إلى 60 تريليون دولار،في سنة 1500 م استهلكت البشرية حوالي 13 تريليون سعرة حرارية كل يوم ،أما اليوم فإننا نستهلك يوميا 1500 تريليون سعرة حرارية ،كما تضاعف عدد السكان 14 مرة ،وتضاعف الإنتاج 240 مرة،وتضاعف استهلاك الطاقة 115 مرة،ولنفترض لو أنه لو انتقلت سفينة حربية حديثة اليوم إلى زمن كولومبس لاستطاعت في بضع ثوان أن تحوِّل سفن "نينا" و"بينتا" و"سانتا ماريا" إلى أطياف خشبية وأن تُغرق القوة البحرية لكل الأمم في ذلك الوقت دون أن تصاب بخدش بسيط، كما يستطيع حاسوب واحد تخزين كل أرقام وكلمات ولفائف ومخطوطات ومكتبات العصور الوسطى .
قبل القرن 16 م لم يستطع أحد الإبحار حول الأرض ،في سنة 1522 عندما عادت سفن "ماجلان" إلى إسبانيا بعد رحلة قطعت 72 ألف كيلومتر، استغرقت الرحلة 3 سنوات ،ومات معظم أعضاء البعثة بمن فيهم "ماجلان" نفسُه،أما اليوم يمكن لأي شخص له دخل متوسط أن يتنقل بسهولة وأمان خلال 48 ساعة حول العالم كله،
كان البشر قبل 500 سنة محصورين في الأرض ، لكن السماء كانت مخصصة للطيور والملائكة والآلهة ،في 1969 هبط الإنسان على القمر وهو إنجاز تاريخي كبير ولأول مرة منذ 4 مليار سنة من التطور لم يستطع الإنسان مغادرة الغلاف الجوي، لم يعرف الإنسان طيلة التاريخ أي شيء عن 99،99 من الكائنات الحية أي الميكروبات على الكوكب ،لم يعرفها البشر رغم أنه يحمل كل واحد منا داخله مليارات من الميكروبات داخل الخلية الواحدة ،ولم يعرف أن هذه الميكروبات من أعز أصدقائنا وألذ أعدائنا ،يهضم بعضٌ منها طعامنا وينظف أمعاءنا ،بينما تسبب الأخرى الأمراضَ والأوبئة ،لأول مرة سنة 1674 م سترى عين الإنسان ميكروبا حين ألقى "فان ليفنهوك" نظرة خاطفة عبر مجهره المصنوع ،أصيب بالدهشة لرؤية عالم كامل من الكائنات الدقيقة تهيم في قطرة ماء،وهكذا تعرف الإنسان خلال القرون الثلاثة الأخيرة على عدد كبير من الكائنات المجهرية ،وسخّرها في خدمة الطب والصناعة ،وهزم معظم الأمراض المميتة التي تسببها ،ويهندس هذه الأيام البكتيريا لإنتاج الأدوية والوقود الحيوي وقتل الطفيليات.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أزمة جديدة بسبب تيران وصنافير


.. إذا سيطرت الفصائل المسلحة على حمص.. كيف ستتغير المعادلة في س




.. غارة روسية تدمر جسر الرستن في حمص


.. المعارضة السورية المسلحة: سيطرنا على كامل مدينة درعا




.. غارة إسرائيلية تدمر معبرا حدوديا بين لبنان وسوريا