الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شفرة دافنشي –الهراء الخلاّب

ابراهيم القبطي

2006 / 6 / 26
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


عندما سمعت عن رواية دافنشي لأول مرة ، تعجبت من ردود الفعل الضخمة حول مجرد رواية ، تحمل مجرد خيال ، ولكنني علمت بقراءة الرواية (1) أنه وفي الصفحات الأولى يدعي الكاتب دان بروان أن الخلفية التاريخية في الرواية صحيحة ، ومن هنا نبعت المشكلة .

من الجهة الأخرى تحولت الرواية وبعد أكثر من عام إلى فيلم سينمائي ، والذي ثارت مؤخرا -بسبب منع عرضه- ضجة في الشارع العربي و بالأخص المصري (2) ، وبين زوابع الخطابات والشعارات والمنع والقمع والحظر ، وبين المؤيدين والمعارضين ، تاهت المعالم ، وأختفت الكثير من الحقائق بين سحب الغبار.

* لعل أول هذه الحقائق هي أننا – كشعوب شرق-أوسطية - لا نقرأ بل نسمع ونشاهد ، ثقافتنا تعتمد على التلفاز والقنوات الفضائية ، فالرواية نشرت قبل الفيلم بأكثر من عام ، ولم نسمع أحدا يتكلم عنها بالقدح أو المدح ، بالنقد أو التحليل ، بالهجوم أو الدفاع ... وهذه بحق قمة الكوارث ، فشعب لا يقرأ ، يفقد القدرة مع الوقت على التحليل والتفكير والدراسة والنقد ، وتدريجيا يفقد القدرة على استعمال العقل ، فيضمر !!!!
والنتيجة أننا شعوب ضمرت عقولها مع الزمن ، وأصبحت أوعية لصب المزيد من الهراء ، ثم لا تنضح بعد ذلك إلا أمثال الزرقاوي والحمراوي وبن لادن ... وغيرهم.

* ثاني هذه الحقائق أن بعض من مدعي الثقافة المختفين تحت عباءة الحيادية و العلمانية من الكتّاب العرب تناولوا تحليل الرواية والفيلم بسعادة خفية ، في تلميح و ايماءات بصدق الرواية تاريخيا وكأنما الرواية هي الضربة القاصمة للمسيحية ، وهي الحقيقة الدامغة في أن الأديان ، كل الأديان ، ما هي إلا أساطير واختراعات بشرية ... دون أن يكلفوا أنفسهم عناء البحث أو التحليل التاريخي .
وهذه أيضا من كوارث الثقافة العربية ، إن كانت هناك واحدة ، فأن ينفعل عامة الناس بمجموعة من الأكاذيب ، ذلك مرده إلى الجهل ، و لكن أن ينزلق المثقفون إلى نفس المنحدر ، فهذا دليل إما على أن الجهل يتغلغل إلى أعلى طبقات الثقافة ، أو أنه التجاهل لغرض ما في النفس ...؟؟؟

* ثالث هذه الحقائق هي أننا كشعوب شرق-أوسطية لا نميز بين ما هو ديني وما هو فني ، وما هو خليط من الإثنين ، ولا نميز بين الإدعاء والحقيقة ...
أن يخرج علينا كاتب بإدعاء أن كل ما تحتويه روايته من معلومات تاريخية أو فنية هي حقائق ، لا يعني بالضرورة أنها حقائق ، خاصة وأن معظم المتخصصين في علوم التاريخ والآثار أجمعوا أن إدعاءاته مهينة للتاريخ قبل أن تكون مهينة لأي دين (3) .

* رابع هذه الحقائق أننا شعوب تحت الوصاية ، سواء كانت هذه الوصاية سياسية أو دينية أو حتى فنية ، فأبسط أنواع الحقوق الإنسانية أن يعامل الشخص الناضج على أنه كامل الأهلية ، يحق له أن يختار ، وحقه في الاختيار هو الحق الأولي الذي يجعل منه إنسان ...
فمن الممكن أن تجبر الثور على الدوران في الساقية ... ولكن لا يحق لك أن تجبر الإنسان على اعتناق/ترك دين معين ، أو مشاهدة/عدم مشاهدة فيلم معين ، أو قراءة/عدم قراءة كتاب معين.
ولكننا شعوب تم اقتطاع حرية الإختيار من وجودها الإنساني ، وكأنما قصصت جناحي الطائرة ففقدت وظيفتها الأساسية ...!!!

* خامسا أنه في خضم التحليل الديني و التاريخي للرواية والفيلم ، تاهت أصول الحبكة الفنية والتحليل المنطقي لهما ...
فالفيلم لم يلق نجاحا في مهرجان كان السينمائي (4) ... وأتفق الكثير من النقاد أن أحداثه مفتعلة ومملة ومليئة بالحوارات الطويلة التي تخرج المشاهد من سياق الأحداث ..

أما عن الحبكة المنطقية للرواية فيكفي أن أذكر أنه من إدعاءات الرواية الأساسية أن المسيح لم يكن إلها وأنما رجل صالح أو نبي وهذا ما أخفته الكنيسة عبر التاريخ ، وعلى الجانب الآخر أن الكنيسة أخفت أيضا حقيقة الكأس المقدسة ، وهي مريم المجدلية التي تزوجت المسيح ... وصارت إلهة مقدسة ... فأقمعت الكنيسة عبادتها على يد قسطنطين الملك في القرن الرابع .

ولا يخفى على أحد هذا الخطأ المنطقي ... فما الذي أخفته الكنيسة بالتحديد عبر التاريخ؟

فلو كان المسيح ليس إلها ... فمن أين استمدت مريم المجدلية ألوهتها المقدسة والتي تملأ الرواية عن عبادة الأنثى المقدسة و الإلهة المقدسة و الكأس المقدسة ؟ فأن يكون المسيح مجرد رجل صالح أو فيلسوف يهدم أساسات الحبكة المنطقية للرواية و التي تقوم على الدعوة لعبادة الإنثى المقدسة ممثلة في زوجة المسيح المزعومة ... مريم المجدلية ..
كان على دان بروان أن يصبغ كلاهما بالألوهة من أجل الحبكة الدرامية المنطقية... أو ينفي الألوهة عن كلاهما ويفقد القصة من بدايتها ، اما أن يدعي الألوهة لمريم المجدلية و ينفيها عن المسيح … فهذا خطأ منطقي جسيم …
وهنا نجد أن الرواية من الناحية المنطقية ضعيفة والفيلم من الناحية الدرامية ممل ... هذا بخلاف أخطائها التاريخية القاتلة بالطبع ...

ولكنني أعود فاستدرك وأؤكد على أن الرواية مليئة بالتفاصيل الفنية الرائعة و بالأخص تفاصيل لوحات ليوناردو دافنشي بتفاصيل الرسوم و الاختلاف بين اللوحات وتاريخها ، ومليئة أيضا بتفاصيل أماكن تاريخية خلابة تجعل لعاب الباحثين والفنانين يسيل... مما يجعلها عاملا مؤثرا في تحريك عامة الناس لدراسة الأعمال الفنية لرواد عصر النهضة الأوربية … فلو لم يدع دان برون صدقه التاريخي لكانت الرواية رصدا خلابا لحقائق فنية جميلة
ولهذا أصبحت الرواية –بوضعها الحالي- مثالا على الهراء الخلاب ... الكذب الجميل ... جمال الفن وقبح التزوير التاريخي .

*****
فهل نمنع عرض الفيلم خوفا على عقول البسطاء ؟

* لا بل نمنع عقول البسطاء من الإزدياد في البساطة والسذاجة والغباء ... لنحولهم من أطفال يرضعون الخطب الدينية والأخبار التلفزيونية تحت وصاية المؤسسات الدينية (5) والحكومية إلى ناضجين يأكلون الطعام العقلي (6) ، ويدرسون الأديان و يحللونها ، و يفتشون الكتب (7) ...
دورنا هو أن نعلم الناس لا أن نمنع الناس من ممارسة حريتهم ، أن نسمح لهم بالشك لكي يصلوا إلي الإيمان الحقيقي ، لا عقيدة الوراثة ، إيمان النضج لا الطفولية (8)

* ومن أراد أن يؤمن فليؤمن ومن أراد أن يلحد فليحد ... حتى الإلحاد هو حق لمن أراد ... فالإله كما أفهمه من خلال الإعلان المسيحي لا يجبر أحدا على الإيمان به .
فعندما شك توما الرسول في قيامة المسيح من الموت ... لم ينصب له المسيح المشانق ، و لم يكفره ، بل ولم يتركه في شكه بل ظهر له ليؤكد قيامته (9) .

* وقد كتب كوستي بندلي في كتابه إله الإلحاد المعاصر (10) نقلا عن غبريال مارسيل في قوة مفهوم الحرية لإله الإعلان المسيحي:
"هذه هي الحقيقة نفسها حرة وتزرع بحرية مزيد من الحريات" ...
الله يبتهج بحرية الإنسان ولا يرهبها كما يرهبها جوبتير "إله الذباب" (11) ، يبتهج كما يبتهج الوالد ذو الأبوة الأصيلة عندما يرى ولده أصبح يحبه لا بتبعية الطفل بل باستقلال البالغ ...
اسألوا هذا الوالد ان لم تكن أفضل لحظة عنده تلك اللحظة التي يبادلونه فيها ابناؤه محبة الناضجين
يحبونه بحرية ، مجانا
خضوع العبيد كلهم لا يساوي نظرة واحدة جميلة لإنسان حر
تشمئز نفسي من خضوع العبيد في مقابل إخلاص وحب صادر من إنسان حر ، في سبيل هذه الحرية و المجانية ضحيت بكل شئ ... يقول الله
من أجل بشر بالغين أشداء شرفاء رقيقين ... من أجل هذه الحرية والمجانية "

فحب العبيد لا يعني شيئا في عالم الأحرار ، ومنع عرض الفيلم أو مصادرة الرواية تفقدنا هذا الشرف وهذه الحرية في أن نفكر و أن نختار و أن نحب من اخترناه ..." واما الرب فهو الروح وحيث روح الرب هناك حرية." (2 كورونثوس 3: 17)

---------------------
الهوامش و المراجع:
1) الرواية: http://www.christpal.com/shobohat/el7ad/antithedavincicode/code.pdf
والرد علي أخطاءها التاريخية:
http://www.christpal.com/shobohat/3abd_almasi7/antithedavincicodenew/index.htm
http://www.christpal.com/shobohat/el7ad/antithedavincicode/index.htm
2) http://www.alarabiya.net/Articles/2006/06/13/24669.htm
3) على سبيل المثال
* تقول الرواية أن مخطوطات وادي قمران أكتشفت في الخمسينات من القرن العشرين ، وباكتشافها أكتشفنا الكثير من الأناجيل التي حاول قسطنطين محوها ليخفي حقيقة المسيح
الحقيقة: أن مخطوطات قمران أكتشفت عام 1947 (وليس في الخمسينات) ، و أنها لم تحتوي على مخطوطة إنجيلية واحدة ، أو أي وثيقة تشير إلى المسيح أو المسيحية ... كلها مخطوطات يهودية قبل المسيح
http://www.ibiblio.org/expo/deadsea.scrolls.exhibit/Library/library.html
* تؤكد الرواية أن قسطنطين هو من أمر بجمع كتب العهد الجديد من خلال عقده لمجمع نيقية 325 م
الحقيقة: أن قسطنطين لا علاقة له بجمع الإنجيل على الإطلاق، فالاناجيل و الرسائل المعترف بها كانت متداولة من القرن الأول الميلادي (كما يتضح من كتابات الأباء الأوائل) وتم تجميعها في مجموعات عبر القرون الثلاثة الأولى ، حتى وصل الأمر إلى تجميعها في كتاب واحد قانوني في مجمع هيبو (Council of Hippo ) عام 393م بعد وفاة قسطنطين (ت 337 م ) بأكثر من خمسين عام
http://home.inreach.com/bstanley/canon.htm
ومجمع نيقية لم يكن له علاقة بجمع الأناجيل بل بدحض بدعة أريوس http://www.columbia.edu/cu/augustine/arch/sbrandt/nicea.htm
* تؤكد الرواية أن الأناجيل الغنوسية كانت هي الأصل و هي التي كانت تنادي بعبادة الأنثى المقدسة ... والحقيقة أن الأناجيل الغنوسية بدأت في الظهور في القرن الثاني الميلادي ، و أن الغنوسيين من أصول عباداتهم أن المادة و الجنس و العالم المادي شر ... و بالتالي كونهم من المروجين لعابدة الإلهة الأنثى فهذا شبه مستحيل تاريخيا : http://www.earlychristianwritings.com/gnostics.html
* تشير الرواية إلى أن المسيح قبّل مريم المجدلية في فمها كما يذكر إنجيل فليب (من الأناجيل الغنوسية)
الحقيقة: أن أنجيل فيليب قد كتب ما بين عامي 180-250 ميلادية أي بعد المسيح بما يقرب من قرن ونصف مما ينفي أي صحة له أو علاقة بالمسيح
ثم أن المخطوطة مفقود فيها الكثير من الكلمات أهمها ما يدعيه الكاتب ، فالترجمة الإنجليزية للمخطوطة تشير:The [Lord loved] Mariam more than [all the (other)] Disciples, [and he] kissed her often on her [mouth].
ومن الملاحظ أن ما بين الأقواس هو المستنتج وليس الموجود في النص حيث أنه مفقود في نص المخطوطة الأصلي: http://www.metalog.org/files/philip1.html
وغير هذا الكثير من الأخطاء التاريخية
4) http://news.bbc.co.uk/hi/arabic/news/newsid_4993000/4993294.stm
5) ولكن للأسف بعض مسيحيي الشرق (قيادة كنسية) أخذوا الطريق الأسهل (ليس الجميع بالطبع ، فهناك بعض الطوائف التي سمحت بالعرض مع النقد) ... هو التحالف مع الثقافة الإسلامية في الوصاية على عقول الناس ... لنحفظهم أطفالا إلى الأبد ... وصارت عقول البسطاء كالبيض ... يسهل كسره عند أول تجربة .
6) فبطرس تلميذ المسيح يوصي المؤمنين الجدد: " كاطفال مولودين الآن اشتهوا اللبن العقلي العديم الغش لكي تنموا به" (1بطرس 2: 2)... فاللبن العقلي أو الرضاعة العقلية من أجل مزيد من النمو هو أولى خطوات النمو الروحي والعقلي ... ولكنه كبداية لا يستمر كهذا ... فلابد من الفطام
وهنا بولس الرسول يؤكد:
" لانكم اذ كان ينبغي ان تكونوا معلّمين بسبب طول الزمان تحتاجون ان يعلمكم احد ما هي اركان بداءة اقوال الله وصرتم محتاجين الى اللبن لا الى طعام قوي. لان كل من يتناول اللبن هو عديم الخبرة في كلام البر لانه طفل. واما الطعام القوي فللبالغين الذين بسبب التمرن قد صارت لهم الحواس مدربة على التمييز بين الخير والشر" (عبرانيين 5: 12-14)
ويعود فيؤكد :" ايها الاخوة لا تكونوا اولادا في اذهانكم بل كونوا اولادا في الشر.واما في الاذهان فكونوا كاملين." (1كورنثوس 14: 20)
7) المسيح يدعو: " فتشوا الكتب لانكم تظنون ان لكم فيها حياة ابدية.وهي التي تشهد لي." (يوحنا 5: 39)
8) عن الفروق بين العقيدة الوراثية و الإيمان أرجة الرجوع لمناقاشات منتدى الناقد:
http://www.annaqedcafe.com/showthread.php?t=1069
9) " وبعد ثمانية ايام كان تلاميذه ايضا داخلا وتوما معهم.فجاء يسوع والابواب مغلقة ووقف في الوسط وقال سلام لكم. ثم قال لتوما هات اصبعك الى هنا وابصر يديّ وهات يدك وضعها في جنبي ولا تكن غير مؤمن بل مؤمنا. اجاب توما وقال له ربي والهي." (يوحنا 20: 26-28)

10) نقلا عن كتاب إله الإلحاد المعاصر
http://www.christpal.com/books/christ/elah_al-el7ad/index.htm
والمرجع: Gabriel Marcel: Ertre et Avoir, p. 321, Ed. Aubier- Montainge
11) الذي أعلنه سارتر في روايته المشهورة الذباب








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الناخبون العرب واليهود.. هل يغيرون نتيجة الانتخابات الآميركي


.. الرياض تستضيف اجتماعا لدعم حل الدولتين وتعلن عن قمة عربية إس




.. إقامة حفل تخريج لجنود الاحتلال عند حائط البراق بمحيط المسجد


.. 119-Al-Aanaam




.. تغطية خاصة | المقاومة الإسلامية في لبنان تكبح قدرات الاحتلال