الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ضرورة العلمانية: الأديان قَدَرٌ وفعل والعلمانية تعايش ورد فعل

خالد تركي آل تركي

2020 / 7 / 20
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


كتاب (الإسلام وأصول الحكم) هو كتاب للدكتور علي عبد الرازق رحمه الله، ولا يهم ما إذا كان الكتاب هو من تأليف عبد الرازق فعلاً أو طه حسين أو غيرهما، المهم هو محتوى الكتاب وقيمته العلمية والفكرية. رغم أن من يقرأ الكتاب يلاحظ ويدرك الخلفية والنزعة والروح الدينية الإسلامية الظاهرة والواضحة في أسلوب المؤلِّف، مما يعني ويؤكِّد أن الشيخ د.علي عبد الرازق هو صاحب الكتاب. أهمية الكتاب تكمن في كونه أول كتاب إسلامي يطرح فكرة بشرية الرسول عليه الصلاة والسلام فيما يخص إقامة الدولة، أي أن ما قام به رسولنا الكريم من أعمال تنظيمية وسياسية هي من بنات أفكاره ولا علاقة لها بالوحي، مع العلم أن هذا الرأي لا يتعارض مع قوله تعالى: (إن هو إلا وحيٌ يُوحى)، لأن المقصود هنا القضايا الشرعية التي يقوم الله فيها بإبلاغ محمد صلى الله عليه وسلم عن طريق جبريل عليه السلام. ولا يتعارض مع قوله: (وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) لأن هذهِ الآية تتعلق بالعبادات، مثلاً؛ الله ورسوله أخبرانا بأن الظهر أربع ركعات، فلا يحق لك أن تجعلها اثنتان أو ثلاث، وهكذا.

يوضِّح عبد الرازق بدايةً أن القضية لا علاقة لها بجوهر الدين والعقيدة ولا تمسّ جناب التوحيد:
“لا يهولنَّك البحث في أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ملكاً أم لا؟ ولا تحسبنَّ أن ذلك البحث ذو خطر في الدين قد يُخشى شره على إيمان الباحث، فالأمر إن فطنت إليه، أهون من أن يُخرج مؤمناً من حظيرة الإيمان، بل وأهون من أن يُزحزح المتَّقي عن حظيرة التقوى. وإنما قد يبدو لك الأمر خطيراً لأنه يتَّصل بمقام النبوة، ويرتبط بمرکز الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه على ذلك لا يمسّ في الحقيقة شيئاً من جوهر الدين، ولا أركان الإسلام، وربما كان ذلك البحث جديداً في الإسلام لم يتناوله المسلمون من قبل على وجه صریح ولم يستقر للعلماء فيه رأي واضح، وإذاً فليس بِدعاً في الدين، ولا شذوذاً عن مذاهب المسلمين، أن يذهب باحث إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان رسولاً وملكاً، وليس بِدعاً ولا شذوذاً أن يُخالف في ذلك مُخالِف، فذلك بحث خارج عن دائرة العقائد الدينية التي تعارف العلماء بحثها”(عبدالرازق، ٢٠١١م).

ثم يتحدث عن أن الدين غير مرهون بالخلافة أو نوع مُعيَّن من الحكومة:
“معاذ الله لا يريد الله جلَّ شأنه لهذا الدين، الذي كفل له البقاء، أن يجعل عزه وذله منوطين بنوع من الحكومة، ولا بصنف من الأمراء. ولا يريد الله جلَّ شأنه لعباده المسلمين أن يكون صلاحهم وفسادهم رهن الخلافة، ولا تحت رحمة الخلفاء. الله جلَّ شأنه أحفظ لدينه، وأرحم بعباده.

عسى أن يكون فيما أسلفنا مُقنِع لك بأن تلك التي دعوها الخلافة أو الإمامة العظمى لم تكن شيئاً قام على أساس من الدين القويم، أو العقل السليم، وبأن ما زعموا أن يكون برهاناً لها هو إذا نظرت وجدته غير برهان”(نفس المرجع).

يتوصَّل بعد ذلك إلى نتيجة مفادها أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن سوى رسول ونبي كريم ولم يكن ملكاً ولا مؤسِّساً لدولة بمعناها السياسي:
“رأيت إذن أن هنالك عقبات لا يسهل أن يتخطاها أولئك الذين يريدون أن يذهب بهم الرأي إلى اعتقاد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع إلى صفة الرسالة أنه كان ملكاً سياسياً، ومؤسساً لدولة سياسية. رأيت أنهم كلما حاولوا أن يقوموا من عثرة لقيتهم عثرات، وكلما أرادوا الخلاص من ذلك المشكل عاد ذلك المشكل عليهم جذعاً. لم يبقَ أمامك بعد الذي سبق إلا مذهب واحد، وعسى أن تجده منهجاً واضحاً، لا تخشى فيه عثرات، ولا تلقى عقبات، ولا تضل بك شعابه، ولا يغمرك ترابه، مأمون الغوائل، خالياً من المشاكل. ذلك هو القول بأن محمداً صلى الله عليه وسلم ما كان إلا رسولاً لدعوة دينية خالصة للدين، لا تشوبها نزعة ملك، ولا دعوة لدولة. وأنه لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم مُلك ولا حكومة، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يقم بتأسيس مملكة بالمعنى الذي يُفهم سياسةً من هذهِ الكلمة ومرادفاتها، ما كان إلا رسولاً كإخوانه الخالين من الرسل، وما كان ملكاً ولا مؤسِّس دولة، ولا داعياً إلى مُلك”(نفس المرجع).

ويوضِّح بعد ذلك الفرق بين الرسالة والمُلك:
“أنت تعلم أن الرسالة غير المُلك، وأنه ليس بينهما شيء من التلازم بوجه من الوجوه، وأن الرسالة مقام والمُلك مقام آخر، فكم من ملك ليس نبياً ولا رسولا، وكم لله جلَّ شأنه من رُسل لم يكونوا ملوكا، بل إن أكثر من عرفنا من الرُسل إنما كانوا رُسلاً فحسب. ولقد كان عيسى ابن مريم عليه السلام رسول الدعوة المسيحية، وزعيم المسيحيين، وكان مع هذا يدعو إلى الإذعان لقيصر، ويؤمن بسلطانه، وهو الذي أرسل بين أتباعه تلك الكلمة البالغة(أعطوا إذاً، ما لقيصر لقيصر وما لله لله).

وكان يوسف بن يعقوب عليه السلام، عاملاً من العمال، في دولة الريان بن الوليد، فرعون مصر، ومن بعده كان عاملاً لقابوس بن مصعب.

ولا نعرف في تاريخ الرسل من جمع الله له بين الرسالة والمُلك إلا قليلا”(نفس المرجع).

ويُستخلص من هذا أن الله أوكل وترك مسألة تأسيس الدولة للبشر وفق نظام معين بحسب كل عصر والظروف المواتية له. النظرية في هذا الكتاب يترتَّب عليها عدة أمور منها سقوط شرعية الخلافة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن مسألة الخلافة ليست دينية وإنما سياسية، من هنا يمكن القول بأن السنة والشيعة خلافهم في الأصل سياسي لا ديني.يقول جون لوك في رسالة التسامح: “لقد علَّمهم المسيح أنه من خلال الإيمان والأعمال الصالحة سينالون الحياة الأبدية، لكنه لم يُؤسِّس نظاماً سياسياً، ولم يُشرِّع لأتباعه أي نموذج جديد وغريب من نماذج الحكم، ولم يضع سيفاً في يد أي حاكم ليستخدمه في إجبار الناس على التخلي عن دينهم السابق”(Locke, p. 53)

كذلك نحنُ كمسلمين لم يُؤسِّس لنا نبينا محمد نظاماً سياسياً ولم يُحدِّد لنا شكلاً مُعيَّناً من أشكال الحكم، بدليل قوله عليه السلام في الحديث المعروف: (أنتم أعلم بأمور دنياكم).

العلمانية وديمومة الدين:
عندما نتحدث ونؤكد على أهمية وضرورة العلمانية، فإن ذلك لا يعني الحرب على الدين أو الإعلان عن موته، وكما أن الفلسفة مستمرة ولم تمت رغم ظهور العلوم واستقلالها، فكذلك الأديان ستبقى لأنها تلامس أعماق الإنسان وتُشبع لديه جوانب لا يستطيع العلم والفلسفة إشباعها. الدين لم يكن ولن يكون مرحلة مؤقتة أو عابرة تمر بها البشرية فترة من الزمن ثم تتجاوزه، الحكم الديني الكهنوتي في المسيحية هو الذي قد زال، والحكم الديني السياسي في الإسلام(الأحزاب الدينية) هي التي يجب أن تزول. أمَّا الدين كقضية وموضوع فإنه ملازم لوجود الإنسان ولن ينتهي إلا بانتهاء آخر عنصر بشري على وجه الأرض. الإنسان بمُكوِّنه الروحي ليس فقط يحتاج للدين، بل لا يمكن أن يستمر وينمو في حياته بصورة طبيعية بلا دين. وتقسيم أوغست كونت في قانون الأطوار لتطور المجتمعات، لا يعني انتهاء الدين ولا يستلزم ذلك أصلاً، كل ما في الأمر أن الدين في تلك المجتمعات الغربية كان هو الركيزة التي يُرجع إليها في التفسير والعلاج، وكان رجال الدين هم الملجأ لمعاناة البشرية، نظراً لغياب المعرفة العلمية القائمة على الملاحظة والتجربة في تلك الحقبة الزمنية. حيث كانت الكثير من الظواهر الكونية والاجتماعية والعديد من الأمراض النفسية وحتى الجسدية تُعزى إلى عقاب الإله وضعف التديُّن أو تسلُّط الأرواح الشريرة…إلخ. لذلك كانت العلمانية هي الخلاص وعماد النهضة في بناء وازدهار المجتمعات الغربية، قد لا تكون العلمانية هي الخلاص في المجتمعات العربية الإسلامية، نظراً لأن الإسلام في حقيقته يحث على إعمال العقل في العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ولأن الإسلام لايوجد فيه ما يُعرف ب(الإكليروس)، وأيضاً فإن الإسلام في تاريخه وتاريخ علماءه لم يحارب العلم والعلماء، بدليل بروز العديد من الفلاسفة والعلماء المسلمين(ابن سينا، ابن رشد، الفارابي، الكندي، جابر بن حيان، الرازي، الخوارزمي…إلخ).ولكن وبعد ظهور وانتشار الأحزاب السياسية الدينية وتمكُّنِها، وتعدُّد المذاهب الإسلامية وتمدُّدِها، وبعد أن برز من ينادي بتقديم النقل على العقل وإيقاف إعمال العقل في النص الديني، اقترب الإسلام بذلك من الكهنوت المسيحي، لذا أصبحت العلمانية ضرورة لابد منها لإيقاف كل نزاع ودحر كل طائفية وردع كل فكر متطرف وإقامة دولة مدنية علمانية محورها وقوامها المواطن الإنسان لا المواطن المسلم السني أو الشيعي أو المسيحي الأرثوذُكسي أو الكاثوليكي، دولة تنظر لجميع مواطنيها نظرة واحدة ولا تحابي أحداً دون آخر.وفي حقيقة الأمر أن الأديان لم تكن منذ ظهورها مصدر قلق للإنسان؛ بل كانت ينبوعًا يُستمد منه الطمأنينة والراحة والسكينة، الإشكالية حدثت عندما تم تحويل الدين إلى نظام ودولة، وما كان للدين أن يكون دولة وهو أتى من أجل الجوانب الروحية، والتأكيد على القيم، والأخلاق (إنما بُعثت لأتمِّم مكارم الأخلاق)، الدين كذلك أتى لحماية الإنسان من العدمية والعبثية: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُون)، فيشعر أن لحياته معنًى، وأن هناك مصير، إما جنة وإما نار، وهو بإرادته يختار.

العلمانية والأديان:
رجل كبير في السن يحافظ على الصلوات الخمس في المسجد مع السنن الرواتب، شاب كثير الصيام وقراءة القرآن.

راهب اختار الانقطاع عن العالم في أحد الأديرة، ترك الزواج وجميع ملذات العالم، فتاة تحافظ على قراءة الكتاب المقدس والتناول وسر الاعتراف. هندوسي يجد لذة عندما ينحني أمام تمثال الإله براهما.

هؤلاء جميعاً لم يروا الله رأي العين، ومع ذلك هم مستمرون في ممارسة طقوسهم الدينية وبإخلاص شديد، ولم يظهر الله لهم في رؤية أو يُحدِث معجزة لكي يوضِّح لهم من خلالها ما إذا كان دينهم صحيحاً أم لا، رغم الجهد العظيم والتعب الكبير الذي يبذلونه من خلال هذا الدين الذي يؤمنون به. يمكننا القول بأن هذا هو الدليل الوحيد على صحة جميع الأديان ما دام أن المقصود هو الله، والمقصود بصحتها أي بالنسبة لأتباعها ومعتنقيها.

الله ليس بظالم، حاشاه أن يكون كذلك، الله يحب الإنسان حتى لو كان ملحداً، لأن هذا الإنسان هو نفخة من روحه، هو مثاله وصورته على هذهِ الأرض التي استخلفه عليها.

يجب أن نُغيِّر الكثير من الصور المغلوطة عن الله، يجب أن نكون إنسانيين قبل كل شيء، يجب أن نلتمس الأعذار للآخر، يجب أن نقبله كما هو.

لايوجد عند الله دين صحيح وآخر باطل، هذا المفهوم يقف خلف كل فكر متطرف، فعندما يعتقد أحدهم أن دينه هو الصحيح وما سواه باطل فسيترتب على ذلك العداء والكراهية، وهذا شعار إبليس(أنا خيرٌ منه).

لذا كانت العلمانية هي النموذج السياسي الاجتماعي الأصلح للبشرية، لأنها استطاعت إيقاف الدماء وإنهاء كل صراع ديني طائفي في تلك المجتمعات التي تبنَّتها، فمن خلال العلمانية يمكن تفكيك الأصوليات المُتطرِّفة والتي هي في مجملها شر مُطلق.

وهناك من يكرر العبارة الشائعة (الإسلام صالح لكل زمان ومكان)، وهذهِ العبارة صحيحة، حيث أنك تستطيع أن تصلي وتصوم رمضان وتحج بيت الله الحرام الآن وبعد مئة سنة، لكن مسألة أن يكون الإسلام أو المسيحية أو أي دين آخر نظاماً سياسياً ودستوراً للدولة فهذا جهل بمعنى الدين ومقاصده. وما حدث في التاريخ الإسلامي في عصر النبوة وما بعده من ممارسات دينية سياسية من قِبل الرسول صلى الله عليه وسلم أو الصحابة (كإقامة حد الردة، منع بناء دور للعبادة للأديان الأخرى…إلخ)، يُعد فترة وحالة استثنائية، حيث نجد أن العرب كانوا حديثي عهد بالإسلام والمدنية، فكان الرسول بمثابة الحاكم الديني والمدني. وعندما نتأمّل في قوله عليه السلام للصحابة الذين أرادوا تقليده في وصاله للصوم: (إني لستُ مثلكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني).

يُستفاد من هذا: أن نهيه للصحابة عن تقليده في أمور دينية، يقودنا من باب أولى إلى عدم تقليده في حكمه الديني السياسي (بالنسبة له عليه الصلاة والسلام لا يُعتبر عهده فترة حكم ديني سياسي، وإنما هو رسول ونبي كريم أُرسِل رحمة للعالمين كما وصفه الله في كتابه الكريم).

وقد يتساءل أحدهم: ما الحاجة للعلمانية طالما أن الدين شامل وكامل(كما يؤمن بهذا أتباع كل الأديان)؟
الجواب: بدايةً؛ كل الأديان لا تنطلق من مبدأ أن الإنسان هو المحور على هذهِ الأرض، فالإنسان بالنسبة للأديان ليس سوى وسيلة لتحقيق غايات، وكل الأديان تحتوي على نصوص يمكنها أن تُشرِّع لما يضر أو ينفع، يُفرِّق أو يجمع،

الأديان تنظر إلى السماء ولا ترى الأرض سوى مرحلة مؤقتة وهي شر وبلاء، وكل دين يحتكر الله ويحصره على أتباعه فقط. فإذا كان هذا حالها وتم لها السيطرة على أنظمة الدول وأصبحت لها الكلمة؛ كيف يستتب الأمن للإنسان؟ وكيف ستنعم الشعوب؟ وهل سيكون هناك تلاقي وحوار وتفاهم وتعايش بين أتباع هذه الأديان؟

لذا كانت العلمانية الدواء الناجع والسيف القاطع، فهي ضرورة وليست خيار، ضرورة للشعوب التي ترغب في الحياة الكريمة.

من خلال العلمانية يكون للدولة دستور يقوم بإعداده نخبة من رجال القانون والسياسة وعلماء الاجتماع ورجال الفكر والفلاسفة. هذا الدستور يُنظِّم للناس شؤونهم ويحفظ لهم حقوقهم ويكفل لهم حرياتهم وفق ما يمليه عليهم العقل البشري والضمير الإنساني.

أما الدين فإنه عندما يصبح دستوراً فإنه حينئذ يكون ممارسة سياسية تطبيقية وبالتالي يتم توظيف الدين لتحقيق مصالح سياسية ودنيوية وهو الأمر الذي يُعد إساءة لقدسية الدين. لذا يجب أن يبقى الدين ناحية وجدانية تخص كل إنسان، وهوية ثقافية تخص كل مجتمع.

وينقد الدكتور مراد وهبة من يذهبون إلى الرأي بأن المسلمين لايحتاجون إلى العلمانية بحجة أن الإسلام يختلف عن المسيحية:
“وفي كتاب «المصريون»، يبحث قاسم أمين عن هوية مفقودة، وهي الهوية الإسلامية، ويقارنها بالهوية المسيحية في أوروبا، فالمسيحية، في رأيه، تقضي على العقل وتدعو إلى العبودية، وهي لذلك عدو الإنسان، ولهذا فمن الطبيعي أن يكون التقدم الأوروبي مرهونًا بحركة لا دينية، أي بحركة علمانية. والإسلام بعكس المسيحية، يأخذ بالعقل، ويحرر العبد، ولهذا فمن الطبيعي أن يكون التقدم العربي مرهونًا بدعوة دينية. ومن أجل ذلك فإن قاسم أمين حين يعرض لتقدم الفنون والآداب في العالم الإسلامي يرده إلى أسباب دينية، وحين يعرض لتأخرها يرده إلى أسباب اجتماعية وسياسية. ومعنى هذا أن العقل العربي هو عقل ديني فى مجال التقدم ولكنه عقل علماني فى مجال التخلف. ثم إن قاسم أمين يرفض فكرة الإصلاح الديني علاجاً للانحلال الحضاري لأنه يرى أن الإسلام لم يتلوَّث فى أصوله كما تلوَّثت المسيحية في العصر الوسيط بسبب عصمة البابا وصكوك الغفران.وفي كتاب «ابن رشد وفلسفته»، يتخذ فرح أنطون من ابن رشد منطلقًا للدعوة إلى العقل العلماني. يتضح ذلك من إهدائه الكتاب إلى عقلاء الشرقيين في الإسلام والمسيحية. ويقصد أولئك العقلاء في كل ملة وكل دين في الشرق، والذين عرفوا مضارّ مزج الدنيا بالدين في عصر كهذا العصر، فصاروا يطلبون وضع أديانهم جانباً في مكان مقدس محترم ليتمكنوا من الاتحاد اتحادً حقيقياً ومجاراة تيار التمدُّن الأوروبي الجديد لمزاحمة أهله، وإلا جرفهم جميعًا وجعلهم مُسخَّرين لغيرهم. ومغزى هذا الإهداء أن العلمانية هي علامة التمدُّن الأوروبي، وهي لابد من أن تكون علامة تمدُّن الشرق إذا أُريد له التمدُّن. وفي رأي فرح أنطون أن فلسفة ابن رشد رمز على العلمانية، ولا أدَلَّ على ذلك من أن فريدريك الثاني في القرن الثاني عشر كان السند الأكبر لمترجمي فلسفة ابن رشد في أوروبا. وبسبب ذلك حُورِب فرح أنطون من قِبَل الشيخ محمد عبده ورشيد رضا”(وهبة، أزمة العلمانية في الوطن العربي).

علمانية أم ليبرالية؟
أنت كفرد لا تستطيع أن تقول: أنا إنسان علماني، رغم أن الكثير يقولون بهذا، لكن ما أراه أنا خلاف ذلك، فالعلمانية فلسفة سياسية ترتبط بالدول والمؤسسات والأحزاب لتكون نظام ومنهج يُعمل به وتتحدَّد في ضوئِه سياسات الدول ودساتيرها. وتستند العلمانية على النسبية في النظر إلى كل شيء، حيث أنني لا أميل إلى التصوُّر القديم للعلمانية بأنها فصل الدين عن الدولة، هذا التعريف تقليدي ومُوغِل في السطحية ولا يصف حقيقة العلمانية، ومن يردِّده فهم أولئك الذين يُشكِّل لهم الدين هاجساً سواءً كانوا من التيار الإيماني أو الإلحادي، صحيح أن فصل الدين عن الدولة كان هو الحدث الذي أنبثق عنه ميلاد العلمانية، إلا أنه لا يعطي التصوُّر الشامل والحقيقي لهذا المفهوم. لذا أجدني أتفق مع تعريف الدكتور مراد وهبة بأن العلمانية هي: التفكير في النسبي بما هو نسبي وليس بما هو مطلق.

وبالتالي من الصواب والأصح أن تقول: أنا أنتمي إلى دولة علمانية أو حزب علماني.

بينما في الليبرالية فإنه يمكنك أن تصف نفسك بأنك إنسان ليبرالي، لأن الليبرالية فلسفة إنسانية اجتماعية سياسية تؤكِّد على قيمتي الحريّة والمساواة وعليهما مدارها. وهذهِ الحرية والمساواة لا ترتبط بالدول كمؤسسات بقدر ارتباطها بالإنسان كفرد. ورغم ذلك لا يمكن تحقيقها إلا عندما تتبنَّاها الدولة، وليس بالضرورة أن العلمانية تقود إلى الليبرالية، ولكن الليبرالية تقود بالضرورة إلى العلمانية شيئاً فشيئاً.

في ضوء ما سبق يتَّضح الفرق بين المفهومين.

مهمة رجل الدين:

ما يُعرَف ب(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) فإنه لابد أن يُعلَم أن الإسلام في زماننا هذا لم يعد يخفى على أحد، فلا حاجة تستلزم تعيين أفراد تكون مهمتهم إخبار الناس، وتذكيرهم بطريقة مباشرة(كالذهاب إلى الأسواق والتدخُّل في الحجاب… إلخ) بأمور يعرفونها، ويحفظونها جيداً، بالإضافة إلى أن ثقافة العالم اليوم تكاد تُجمع على أن هذا يُعد تطفُّلاً وتدخُّلاً في شؤون خاصة بالإنسان، مِمَّا قد يُحدِث مشاكل وصدامات.
لا بأس أن تمارس النصيحة أو إرشاد الآخرين فيما يتعلق بأمور الفقه والعبادة، خصوصاً إذا لجأ إليك أحد الأشخاص في هذا، لكن ليس من حقك إجبار الآخرين على القيام بما تلتزم وتؤمن به، يقول لوك:
“كل إنسان مُكلَّف بأن يُنبِّه، وينصح، ويقنع الآخرين بخطئهم وأن يقودهم إلى الحقيقة بالعقل؛ ولكن سن القوانين والإجبار كل هذا من سلطة الحاكم وحده فقط، وبناءً على ذلك أؤكد أن سلطة الحاكم لا تمتد إلى تأسيس أي بنود تتعلق بالإيمان، أو بأشكال العبادة استناداً إلى قوة القوانين”
(Locke, p. 20)
وكذلك ما يتعلق بالحريات الشخصية التي وردت فيها نصوص تُحرِّمها، أو تُقيِّدها بضابط معين كتلك التي تتعلق بالطعام(كلحم الخنزير)، أو المشروبات (كالمشروبات الروحية)، فَيُترَك للإنسان حرية استخدامها، ثم إنها تُشكِّل أسلوب حياة وتُعد ضرورة للاحتفالات الدينية وغيرها في ثقافة المجتمعات الغربية. والمجتمعات العربية والإسلامية ليست بمعزل عن العالم، وطالما أن تلك المجتمعات الأخرى احترمت ثقافة المسلمين فوفَّرت المساجد، وسمحت بوجود أماكن اللحوم المذبوحة على الطريقة الإسلامية واحترمت شعائر المسلمين…إلخ، فلا يوجد سبب للتعنُّت وعدم تقبُّل ثقافتهم والتضييق عليهم.
ولا بأس في وضع منشور ديني في الأماكن التي تتواجد فيها تلك المشروبات يوضِّح الحكم الشرعي لها والتذكير بما يترتَّب على شُربها من عقاب أُخروي كقوله عليه الصلاة والسلام: (من شَرِب الخمر في الدنيا، ثم لم يتُب منها، حُرِمها في الآخرة)، فهذه هي مهمة رجل الدين، التذكير فقط؛ لكن ليس من حقه ولا من حق أي إنسان آخر إجبار الناس على أمر متروك لضمائرهم وعلاقتهم بخالقهم، قال تعالى:
(فذكِّر إنما أنت مُذكِّر لستَ عليهم بمسيطر)، وقوله:
(إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء)(آل تركي، ص٢٩، ٣٠).

العلمانية والليبرالية عامِلا بناء لا هدم:
وعندما نؤكد على أهمية وضرورة العلمانية كنظام سياسي وعلى الليبرالية كقيمة إنسانية، لا يعني ذلك التساهل مع كل فكر يسعى إلى هدم القيم الإنسانية السامية التي تعارفت واجمعت عليها البشرية، ولا يعني ذلك تشريع رغبات تقوم على تشويه الفطرة السليمة للإنسان.
يعتقد البعض أنه طالما أن الليبرالية تدعو إلى الحرية، فإن ذلك يعني الحرية المطلقة في كل شيء، ومن ذلك مسألتي الإلحاد والشذوذ الجنسي، فيرى أنه من حق هؤلاء أن يمارسوا سلوكياتهم ورغباتهم على أنها حق مشروع، ويطالبوا فوق ذلك بأن تقبل المجتمعات بهم وألَّا تنبذهم! هؤلاء لم يدركوا مسألة أن الحرية أتت لكرامة الإنسان؛ لكي يعيش ويحيا وفق طبيعته البشرية فيُنتِج ويُبدع ويمارس حياته على الوجه المطلوب، أمَّا إن كانت تلك الحرية ستقضي على كرامة الإنسان، فهذهِ ليست حرية؛ بل عبودية وخضوع واستسلام لرغبات ونزوات منحرفة عمَّا تعارفت عليه البشرية، وما فُطِرت عليه النفوس السويِّة.
فليس كل ما يشتهيه الإنسان يصبح من حقه أن يفعله، وإلَّا فلماذا احتاج الإنسان إلى القانون؟!
إن الحرية الحقيقية هي تلك الحرية المنضبطة وفق القيم والأخلاق المُتعارف عليها، التي تجعل الإنسان سيد نفسه بالحقيقة كما يرى روسو، لأن الخضوع للقانون الذي نُلزِم به أنفسنا هو الحرية(روسو، ص٧٢).
إن الإشكالية لدى هؤلاء نابعة من عدم إدراكهم لفلسفة الأخلاق والقانون، فكل مجتمع له منظومة أخلاقية يتميز بها عن بقية المجتمعات، إلا أن هناك قواعد أخلاقية عامة تشترك فيها جميع المجتمعات وتعتبرها خطاً أحمر، ولا شك في أن هناك رغبات لدى البعض تتعارض مع المنظومة الأخلاقية لهذا المجتمع، ومن هنا أتى القانون ليضبط تلك الرغبات والأفكار، ويحمي المجتمع والأفراد،
فعدم السماح بها ليس تقييداً لحرية هذا الإنسان، وإنما محاولة لضبط هذه الحرية، وتوجيهها توجيهاً حسناً، نعم؛ لك كل الحق أن تمارس رغباتك، وتفعل ما تريد، لكن ليس من حقك أن تفرضها على المجتمع أو تمارسها على العلن أو تُشِّرع لها. يقول روسو: "علينا أن نحافظ قبل كل شيء على الأمن العام، أیَّاً كان البلد الذي نسكنه، أول ما يجب علينا هو الخضوع لقوانينه وعدم التشويش على الشعائر المقرَّرة في ربوعه، لا ندعو أحداً إلى العصيان، إذ لا نعلم يقيناً هل هو خير له أن يستبدل عقيدته بعقيدة غيره، في حين أننا نعلم قطعاً أن مخالفة القانون شرٌّ خالص"(روسو، ص124).
ولو افترضنا أنه تم إعطاء هذا الإنسان الذي يطالب المجتمع بحقوق الملحدين حرية التعبير ونشر أفكاره، هل سيشعر بالراحة والاطمئنان والاستقرار؟ أجزم أنه لن يجدها؛ لأن ضميره الداخلي سيقضُّ مضجعه، ويحاكمه ليل نهار، كذلك الحال ينطبق على الإنسان الذي يطالب بما يُسمَّى ب(حقوق المثليين) رغم أنه لم يختر هذا الميول، إلا أنه اختار بكامل إرادته أن يمارس تلك الرغبة الشاذة. وإن كان هناك من يستلذ بالقتل والتدمير، فهذا لا يعني أن حقه يصبح مشروعاً، وأن يخضع المجتمع لأفكار ورغباته الجنونية المضطربة، فإذا لم يكن هناك ضابط لحرية الإنسان، فإن المجتمع سيتحول إلى غابة لا وجود للقانون فيها، وسيعم الفساد.
وان كان الخير العام هو معيار التشريع كما يقول لوك، فأي خير يُجنَى من وراء الإلحاد أو المثلية الجنسي؟
يقول لوك: "لا يمكن قبول أي رأي مخالف للمجتمع الإنساني، أو القواعد الأخلاقية الضرورية للحفاظ على المجتمع المدني...لا يمكن التسامح مع هؤلاء الذين ينكرون وجود الله، الوعود والعهود والقسم، والتي هي روابط المجتمع البشري، لا يمكن أن يكون لها تأثير على الملحد، فالابتعاد عن الله حتى لو بالفكر فقط، فإنه يحل هذه الروابط"
(Locke, op.cit, pp.61,64)

وقد يرد أحدهم على مسألة إجماع البشر بالسؤال التالي:
هل إجماع البشر على أمر ما يُعد دليلا كافيا لصحته أو إثباته؟ ألم يكن البشر مجمعين في وقت ما على أن الأرض مسطحة؟ لماذا الفطرة التي تقولون بها لم ترشدهم إلى كروية الأرض؟ كيف أعرف أن هذا الإجماع ناتج عن الفطرة، وليس عن تحيز؟
يذكر الباحث رضا زيدان أنه لا بد من التفريق بين مغالطة الاحتكام إلى الجمهور ومتابعة القطيع وبين استنباط بنية طبيعية في إدراك البشر من خلال اتفاقهم رغم اختلاف الظروف والعادات بين المجتمعات، فهناك مسلمات عامة لا يُتصوَّر معارضتها إلا لمرض أو بمجاهدة نفسية طويلة، كأن يشك الإنسان مثلا في وجود نفسه أو العالم، وهذه المسلمات أو المشتركات البشرية اختلفت تسميات الفلاسفة والعلماء حولها، فمنهم من أسماها: الفطرة، ومنهم من اعتبرها الحس المشترك، وفريق أطلق عليها: الموقف التلقائي. ورغم اختلاف تلك المسميات إلا أنها جميعًا تُعتبر اعتقادات مبدئية بسيطة عن العالم والوجود يشترك فيها جميع البشر ويستحيل إنكارها.
فتطابق المباني اللغوية، والنفسية، والاجتماعية المشتركة بيـن البشر(كالأوليات العقلية: الكل أكبر من الجزء، السببية، عدهم التناقض) في كافة المجتمعات مع اختلاف التجارب بين مجتمع وآخر واختلاف المعتقدات...إلخ، هذا كله يدل على بنية إنسانية مشتركة (الفطرة)وليس مجرد إجماع، على سبيل المثال: لماذا لم يُجمِع البشر في أحد المجتمعات على نفي قانون السببية؟
ويضع زيدان شرطان للفطرة، فحتى يُحكَم على أمرٍ ما بأنه من الفطرة، فلا بد من توفر شرطين:
١.أن يمثِّل هذا الأمر شرطاً أصلياً للمباني اللغوية، والنفسية والاجتماعية المشتركة بين جميع البشر (كالأوليات العقلية)، فالأوليات العقلية لا يمكن أن تخضع للشك؛ لأنها أنماط بشرية يُنظَر بها للعالم وتُشكِّل أساس المعرفة، ولكونها قضايا لا يمكن إثباتها؛ بل تؤخذ كمُسلّمات، وينتهي البرهان إليها.
٢.أن يعبِّر هذا الأمر عن حاجة اجتماعية، ونفسية. فلو قال أحدهم أن البشر كانوا قد أجمعوا على أن الأرض مسطحة، ثم اتضح خلاف ذلك، فإن الجواب يكون:
بدايةً البشر ليس جميعهم قد أجمعوا على أن الأرض مسطحة، فهناك حضارات قد ذكرت كروية الأرض.
ولو افترضنا أن البشر قد أجمعوا على ذلك، فإن هذه المسألة لا ينطبق عليها شَرطيّ الفطرة، فهي ليست من الشروط الأصلية للمباني اللغوية والنفسية، والاجتماعية المشتركة بين البشر، وكذلك لا تعبِّر عن حاجة اجتماعية أو نفسية.
وعند النظر إلى مسألتي وجود الله والحاجة للدين، فإننا نجد أن الشرطان ينطبقان عليهما، فوجود الله والحاجة للدين شرطان أصليان للمباني اللغوية والنفسية، والاجتماعية المشتركة بين البشر؛ لذلك تم اجماع البشر عليهما، كما أنهما تُعبِّران عن حاجة اجتماعية ونفسية.
(زيدان، 2017 م).
ولكن لا بد من التأكيد على حق الإنسان في اختيار ما يطمئن إليه من اعتقادات، أو آراء أو اتجاهات، فإن اختار الإلحاد مثلاً دون أن يسيء لإيمان الآخرين بالله، ودون الاستهزاء بأديانهم وإهانة مقدساتهم، فلا يحق لأي أحد محاسبته أو المطالبة بقتله وفقاً لأقوال تتعارض مع صريح ما ورد في القرآن الكريم: (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سُرادقها)
فأعطاهم الحرية لتقرير مصيرهم بأنفسهم، وأخبرهم بأن هناك عقاباً مُترتِّباً على ذلك الاختيار، ولم يطالبنا الله أن نقوم بدوره على هذه الأرض في محاسبة البشر على معتقداتهم الدينية: لأنها من اختصاصه جلَّ جلاله.
وقوله تعالى: (لا إكراه في الدين) وقوله: (لكم دينكم ولي دين). وقوله: (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تُكرِه الناس حتى يكونوا مؤمنين).
وقوله: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيُجزون ما كانوا يعملون).
والإلحاد في هذه الآية يعني الميل، أي الميل بأسماء الله عمَّا جُعِلت له، إما بأن يُسمَّى بها من لا يستحقها، كتسمية المشركين بها لآلهتهم، وإما بنفي معانيها وتحريفها وأن يجعل لها معنى ما أرادهُ الله ولا رسوله( السعدي، ص 263 ). فحتى هؤلاء لم يطالبنا الله بمحاسبتهم، فهو من تكفَّل بذلك سبحانه.
وإذا كانت الأحزاب السياسية لا تتضرر بانسحاب عضو أو عضوين أو أكثر من ذلك، فهل يُعقَل أن الدين وهو أمتن رابطة وأقوى رسوخاً وأكثر أتباعاً وأعظم تأثيراً؛ يمكن أن يتأثر نتيجة ارتداد فرد أو حتى مئات الأفراد؟
ولو أردنا أن نعرض مسألة المثلية الجنسية على الشرطين السابقين، سنجد أن الشرطان كذلك لا ينطبقان على هذه المسألة، فعندما يقول أحدهم:
أنا وُلِدت بهذا الميل الجنسي(المثلية على سبيل المثال) فهو ميل طبيعي وفطري، ولا يحق لأحد محاسبتي عليه. نقول: البشرية أجمعت على أن الذكر يميل جنسياً للأنثى والأنثى تميل للذكر، وهذا الميل يعبر عن حاجة جنسية للإشباع وحاجة نفسية للاستقرار، وحاجة اجتماعية لتكوين أسرة. أمَّا الحالات الشاذة التي حدثت عبر التاريخ، وتحدث في هذا العصر، فإنها ناتجة عن مؤثرات خارجية وأسباب متعددة وعوامل متداخلة ومعقدة لا مجال هنا لذكرها. فالمثلية الجنسية اضطراب جنسي، ومن أُبتليَ بها يجب عليه أن يستر نفسه امتثالاً لقوله عليه الصلاة والسلام: (من أصاب من هذهِ القاذورات شيئاً فليستتر بستر الله)، وعليه أن يلجأ للطب النفسي بحثاً عن العلاج، وأن يعلم يقيناً أنها سلوك شاذ تأباه الفطرة السليمة والنفوس السوية، صحيح أن الشخص المُبتلى بها وجد نفسه بمشاعره وأحاسيسه وميوله خاضعاً لها دون إرادته، إلا أنه بإرادته يختار الكف أو الاسترسال مع هذه الرغبات لتكون سلوكاً بعد ذلك، وليس من حقه شرعاً وقانوناً وإنسانياً أن يطالب باحترام هذا السلوك الشاذ ولا أن يمارسه في الخفاء أو العلن بأي شكلٍ كان.
ومن السخف أن نجد من يستشهد ببعض الحيوانات التي وُجِد عندها ممارسات لهذا النوع من السلوك الشاذ ليُبرِّر للإنسان هذا السلوك المنحرف!
فلا وجه للمقارنة هنا، لأن الفرق بين الإنسان والحيوان فرق في النوع وليس في الدرجة، يقول بيجوفيتش:
"إن الفرق بين الإنسان والحيوان ليس شيئاً جسمياً ولا عقلياً، إنه فوق كل شيء أمر روحي يكشف عن نفسه في وجود ضمير ديني، أو أخلاقي أوفني"(بيجوفيتش، 2010م).

وكما أن الأديان تحتوي على نزعتين أو اتجاهين وفقاً لمن يتبنَّاها من أفراد أو مجتمعات أو دول أو أحزاب وتيارات، فكذلك الحال بالنسبة للمذاهب والنظريات الفلسفية والسياسية والاجتماعية.
إن العلمانية المعتدلة لا تفصل الدين عن الإنسان(الذي هو جسد ونفس وروح)، بل تفصله عن النظام السياسي والاقتصادي وكل ما يتعلق بشؤون الدولة ومنظومة الحُكم السياسي.
إن الليبرالية المعتدلة لا تقول بالحرية المطلقة التي تتكسَّر من خلالها القيم وتلتغي كرامة الإنسان ليكون أقرب إلى الحيوان تقوده الشهوة لا العقل، تحكمه النزوات لا المبادئ.
هكذا هما العلمانية والليبرالية بصورتيهما المعتدلة كما أفهمهما.
متى تكون حرباً على الإسلام؟
يحق لأحدهم أن يقول هذهِ حرب على الإسلام في الحالات التالية فقط وما يقوم مقامها:

١.عندما تبرز أصوات تطالب بإغلاق المساجد والقبض على مرتاديها.

٢.عندما يتم منع وإيقاف الحج والعمرة وإغلاق البيت الحرام إلى الأبد.

٣. عندما يريد أحدهم إجبار المسلمين على عدم صيام شهر رمضان.

أمَّا من يرى في العلمانية حلَّاً وخلاصاً فلا علاقة له بالحرب على الإسلام لا من قريبٍ ولا من بعيد.

ولو كانت بالفعل على حرباً الإسلام فإن الإسلام وجميع الأديان لن تزول بفعل بتلك الحرب، بدليل استمرار الديانة الصابئية أقدم ديانة على وجه الأرض، وكذلك اليهودية والمسيحية والإسلام.

ويمكن القول بأنها حرب على من يُخضِعون الدين لأفهامهم ويُلزِمون الناس بتلك الأفهام المُبتَدعة من قِبلهم، حرب على من يريدون الحياة ديناً فقط، الاقتصاد دين، الفلسفة دين، السياسة دين. حرب على من ينادي بتعطيل العقل والقدرات البشرية مقابل أن تكون الكلمة للكتب الدينية والاعتماد على أن يقوم الله بكل شيء يريدونه ويعجزون عن تحقيقه بأيديهم وعقولهم.

العلمانية في الوطن العربي: هل هناك أمل؟
قد يكون من الصعب الجزم بأن الوطن العربي مُتَّجِه للعلمانية كما هي في مهدها، ولكن يمكن القول بأن العالم العربي كدول وشعوب بات يقترب منها ويلامسها ويحوم حولها ويتحدَّث عنها بكل جرأة(خلافاً للسابق)، باتت تبرز أصوات تنادي بها من داخل المؤسسات الدينية ذاتها!

هذهِ تحوُّلات رهيبة ينبغي ذكرها والإشادة بها.

عندما تؤكِّد السعودية بقيادة الملك سلمان بن عبدالعزيز على ضرورة محاربة كل فكر متطرف وتسعى بكل قوة لمجابهته بكافة الأشكال وتنقية رسالة الإسلام السامية من كل ما شابها من أفكار مغلوطة وإظهار الإسلام في أبهى صورة من خلال العودة إلى الإسلام الوسطي المعتدل، عندما يُصرِّح ولي العهد الأمير محمد بن سلمان تصريحاً قويِّاً كهذا ويعلنها على الملأ:

“يجب ألَّا نكون أسرى لأوضاع راهنة مؤقتة تمنعنا من العمل على تحقيق واجبنا الأول بصفتنا قادة في المنطقة، وهو النهوض بدولنا…لا تريد شعوبنا أن تكون أسيرة لنزاعات أيديولوجية تُهدَر فيها مقدراتها، واليوم وبشكل غير مسبوق أصبح هدف الجميع واحداً، وبات التنافس بين معظم دولنا على تحقيق أفضل معايير الحياة للمواطن…لن نضيع الوقت في معالجات جزئية للتطرف، فالتاريخ يثبت عدم جدوى ذلك. ونحن ماضون بإذن الله، من دون تردد، في نهجنا بالتصدي بشكل حازم لكل أشكال التطرف والطائفية والسياسات الداعمة لها…هذه حربي التي أقودها ولا أُريد أن أفارق الحياة إلا وأنا أرى الشرق الأوسط مثل أوروبا”.

عندما تقوم الإمارات بقيادة سمو الشيخ خليفة بن زايد وولي عهده سمو الشيخ محمد بن زايد من جهود جبَّارة في الحرب على الأحزاب السياسية الدينية التي شكَّلت الأرضية الخصبة للإرهاب، وعلى رأسها ما يُسمى بحزب ( الإخوان المسلمون) الذين هم في حقيقتهم أعداء للمسلمين، والإسلام منهم براء، وما تنتهجه حكومة الإمارات من منهج يقوم على التسامح وتقبُّل الآخرين بمختلف أديانهم وثقافاتهم، وما كانت زيارة بابا الفاتيكان البابا فرنسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية إلى دولة الإمارات إلا دلالة واضحة على ذلك.

عندما تقوم مصر بقيادة فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي قام بدور أشبه ما يكون بالمعجزة في انتصاره على بؤرة الفساد التي لو تمكنت استشرى الفساد والدمار في المنطقة العربية بكاملها، وما شهدته مصر في عهده من بناء أكبر كاتدرائية في الشرق الأوسط.

عندما تبدأ السودان مُمثَّلة برئيس الوزراء عبدالله حمدوك في إجراء تغييرات قانونية جديدة كالموافقة على إلغاء حد الردة والسماح بالمشروبات الروحية، عندما بدأ الكثير من الشخصيات السياسية في السودان إلى المطالبة بدولة مدنية(علمانية)، وأنه لا بديل للدولة العلمانية في السودان كما أدلى بذلك عبدالعزيز الحلو قائد الحركة الشعبية، وأن الدولة العلمانية قادمة لا محالة لأنها الضمان الوحيد للعيش بكرامة وطريقنا للتقدم و الرفاهية وفقاً لرأي جقود مكوار نائب رئيس السلطة المدنية.

أعتقد أن هذهِ جميعها تُشكِّل شعلة أمل ستُضيء الظلام في الوطن العربي، وستبدأ الشمس تشرق شيئاً فشيئاً إلى أن يعم النور أوطاننا العربية ليكون الشرق الأوسط بعد ذلك هو أوروبا الجديدة كما بشَّر بذلك الأمير محمد بن سلمان.

كلها بشائر خير تُنبئ عن مستقبل مشرق لنا وللأجيال القادمة في بناء وطن عربي يسوده الخير والسلام وتغيب عنه لغة الدم والدمار.

المراجع:
١.عبدالرازق، علي. الإسلام وأصول الحكم. تقديم عمار علي حسن. الإسكندرية: مكتبة الإسكندرية. ٢٠١١م.
٢.آل تركي، خالد تركي. المعادلة الثلاثية(الإنسان والدين والليبرالية). دبي: دار ملهمون. ٢٠١٩م.
٣.آل تركي، خالد تركي.(العلمانية والأديان). إيلاف.

https://elaph.com/Web/opinion/2020/05/1292242.html
٤.روسو، جان جاك. دين الفطرة. ترجمة عبدالله العروي. المغرب: المركز الثقافي العربي. ٢٠١٢م.
٥.بيجوفيتش،علي عزت. الإسلام بين الشرق والغرب. ترجمة محمد يوسف عدس. القاهرة: دار الشروق. ٢٠١٠م.
٦.زيدان، رضا. الإجماع الإنساني(المحددات ومعايير الاحتجاج). ط١. لندن: مركز براهين للأبحاث والدراسات. ٢٠١٧م.
٧.السعدي، أبو عبد الله عبدالرحمن بن ناصر. تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان. بيروت: المكتبة العصرية. ٢٠٠٩م.
٨.مراد وهبة.(أزمة العلمانية في الوطن العربي). المصري اليوم. ٢٠٢٠/١/٣.

https://www.almasryalyoum.com/news/detailsamp/1457926

Locke, John.(199𔆤).A letter concerning Toleration. Prometheus Books: Amherst, New York.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الأمريكية تعتقل عشرات اليهود الداعمين لغزة في نيويورك


.. عقيل عباس: حماس والإخوان يريدون إنهاء اتفاقات السلام بين إسر




.. 90-Al-Baqarah


.. مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى وسلطات الاحتلال تغلق ا




.. المقاومة الإسلامية في لبنان تكثف من عملياتهاعلى جبهة الإسناد