الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة جديدة للتاريخ

جميل النجار
كاتب وباحث وشاعر

(Gamil Alnaggar)

2020 / 7 / 21
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


قال كارل ماركس: "الإنسان نتاج التاريخ". وأنا أقول: "التاريخ نتاج الإنسان" أو "الإنسان صانع التاريخ". واختلافي مع هذا الفيلسوف الاقتصادي الإنسان؛ ليس لمجرد الاختلاف؛ إنما لكي أوضح، من خلال فهمي لنظرية ماركس في الطبيعة البشرية، والتي يربطها بمفهومه المادي للتاريخ، أن ماركس ربما أراد أن يقول: أن الإنسان يتغير في سياق تاريخ تطوره هو ليصبح نتاج للتاريخ. ونشتم في صياغة ماركس رائحة فلسفية جدلية، في حين أنك ستلمس في عبارتي الموجزة شيئاً من الواقعية العلمية المباشرة والسهلة. ولا شك في أن لكل وجهة نظر (من خلال العبارتين) سيكون لها من يؤيدها ومن يعارضها. وتِلْكُم هي طبيعة الأوراق الفكرية والتاريخية.
وما أود قوله أن المادة التاريخية التي تعلمناها كانت لوجهات نظر تختلف اختلافا بينا عن الكثير من وجهات النظر المعاصرة، والسبب يكمن في تطور النزعة الإنسانية للإنسان المعاصر عنها في الإنسان الأسبق في سياقه التاريخي. حتى وإن كان البشر يشتركون في نفس الصفات الأساسية التي يوضحها علمي التشريح ووظائف الأعضاء، ويختلفون في الجنس واللون؛ إلا أن علم النفس الديناميكي الحديث قد أثبت الطبيعة الإنسانية المشتركة للبشر. وللبشرية تجارب إنسانية تاريخية قامت عليها التصورات البوذية والمسيحية، وتبعتهما أفكار سبينوزا وعصر التنوير. وقد طورت البوذية صورة الإنسان إلى مفاهيم وجودية وأنثروبولوجية، بحيث أن كل الناس تحاول أن تجد جواباً شافيا على مسألة وجودها، وبأننا-كبشر- نتألم ونعاني جميعا. وبأن القوانين الحاكمة للسلوك الإنساني وردود أفعاله الإنسانية كلها واحدة، وأصبح في الإمكان أن يفهم الإنسان أخيه الإنسان.
وأكد الفلاسفة من أمثال "سبينوزا" و"جوته" و"هيردر" على أن الطبيعة الإنسانية المتأصلة في الإنسان؛ سوف تقوده إلى مراحل إنسانية تطورية أعلى وأرقى مع الوقت، وسوف تنحصر حياتنا المستقبلية في تطوير "الكل" عن طريق "الفردية" الأكثر وعياً بحاضرها ومستقبلها. وهذا التفرد الإنساني الذي حرر إنسانيته من كل المضامين القديمة تقريبا؛ لقادر على الارتقاء بما تبقى من غرائز ونوازع الإنسان البدائية القليلة والوصول بها إلى ما هو أبعد من "وثيقة حقوق الإنسان"؛ التي هي نتاج نقاش فلسفي احتدم لأكثر من ألفي عام داخل المجتمعات الأوروبية؛ وانتهى بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان في ديسمبر 1948 بتصويت 48 عضواً من أعضاء الأمم المتحدة تحت القرار 217 بباريس.
من هذا المنطلق؛ لو قمنا بإعادة قراءة التاريخ البشري - قراءة إنسانية نقدية موضوعية صادقة- بمعيار وثيقة حقوق الإنسان؛ كأعظم إرث بشري حتى الآن، لجاءت أحكامنا على الشخصيات الأكثر تأثيراً في مجريات الأحداث التاريخية مخالفة تماما لأحكام من سبقونا من مؤرخين ومثقفين رأوا في الطغاة والقساة أبطالا أسطورية؛ رغم أن سكان الحضر في كل الحضارات السابقة قد اعتبروا جميع البرابرة همج ووحوش.
ومن وجهة نظري؛ فإن امبراطورية واحدة "عظيمة"، لأحمس - تحتمس الثالث أو سايروس العظيم أو قسطنطين الأول أو جنكيز خان أو الاسكندر الأكبر أو نابليون بونابرت، هي على عكس آفة ممالك الرب؛ التي حاربت من أجلها الأديان الدموية بأنبيائها الجهاديين، كانت هذه الامبراطوريات (غير المقدسة) في الواقع عامل استقرار كبير للسلام العالمي وأسست لعلاقات إنسانية متسامحة للغاية. لكن كل هذه الامبراطوريات "العظيمة" (من وجهة نظر المؤرخين) تعادل (في نظري) الأخوية "الفظيعة" للإخوان المسلمين المتعصبين وكل دعاة الجهاد المقدس ومعهم دعاة القومية والعنصرية الطواغيت كتشين شي هوانغ وكاليجولا وأتيلا وتوركيمادا وتيمور لنك وليوبولد الثاني وطلعت باشا سفاح الأرمن ولينين وستالين وموسوليني وهتلر وعايدي أمين وبينوشيه، وفي ركابهم كل زعماء الدكتاتوريات بالدول المتخلفة.
ولو قمنا بتسليط الضوء الحيادي على أعمال البعض من زعماء هذه الجوقة وطرحنا بعض الأسئلة الجدلية من وجهة نظر إنسانية، مثل: هل كان هتلر جيداً أم سيئاً؟ وهل يُعد أسطوريا كنجيز خان، ولماذا؟ سنعرف بأنه (أي هتلر) جاء إلى السلطة وهو يلعب على أساس المخاوف من السكان اليائسين، وقتل الملايين من مواطنيه، وكان القتل في دقة وقوة وسرعة التقنيات الهندسية الألمانية، وحاول القضاء التام على السكان اليهود والغجر في أوروبا، ونهب ممتلكاتهم، وشرع في حروب كانت بأي حال من الأحوال الأسوأ في أوروبا، وأثقل على بلده ديون حرب ضخمة ومستحيلة. والضرر الذي ألحقه بالعالم بشكل عام وأوروبا بشكل خاص يطغى على أي شيء فعله على الإطلاق يمكن أن يدخل في نطاق الأعمال الجيدة (مثل برامج مكافحة التدخين أو إبقاء الشيوعية في وضع حرج حتى عام 1945 أو كونه ناشطًا قويًا في مجال حقوق الحيوان).
وإذا قمنا بمقارنة أعماله بأعمال ستالين؛ سنجد أن ستالين قتل عدداً من الأشخاص أكثر مما قتل هتلر، الذي أباد العديد من اليهود والأقليات الأخرى باستخدام معسكرات الاعتقال ومعسكرات الموت؛ بسبب التحيز العنصري ولأنه اعتقد بأنهم أصل كل الشرور، كما قد قتل 15 مليون على الأقل- كانوا من المدنيين- من أصل 27 مليون ضحية سوفيتية. علاوة على ذلك قتل الملايين من أسرى الحرب السوفييت أو جاعوا حتى الموت. لكن؛ الأبشع منه في هذه النقطة هو ستالين؛ لأنه قتل من شعبه كل من لم يتفق معه وعارض أو لمجرد الشك في إخلاصه وتبعيته. وبينما قتل هتلر ما بين خمسة وستة ملايين يهودي، كان ستالين قد قتل ما بين 34 - 49 مليون شخص في الجولاج. ومن حيث الوسيلة؛ فقد قتل هتلر العديد من اليهود بغرف الغاز أو العمل الزائد، بينما كان الروس يتضورون جوعًا حتى الموت في معسكرات الاعتقال النازية. فمن منهما يمكن اعتباره أسوأ من الآخر؟ مع العلم بأنه لا يمكن أن يعزى أي من هذه الأعمال الوحشية إلى القتال؛ فكلا الرجلين يجسدان الشر بعينه، وأيٍّ منهما سيئ كالآخر.
فماذا لو انضم لهما جنكيز خان؟ حتما سيراه المؤرخون المعاصرون، بمنظار الإنسانية مجرد بدوي متوحش مثلما كان هتلر وستالين وغيرهم. حتى وإن رآه بني جنسه بطلا وكرموه في "أولان باتور"، وربما، أكثر من ذلك، قد يتفق بعض المثقفين في مغارب الأرض مع المنغوليين؛ وذلك لأن مدة 800 عام، تفصلنا عنهم؛ لديها طريقتها الخاصة الكافية لتهدئة النفوس من فداحة فظائعه، ويجعلهم ينسون المعاناة الإنسانية لأبرياء ذلك الزمان.
وإذا كان ستالين وجد في هذه الحياة ليقول: "إذا مات رجل واحد فقط من الجوع، فهذه مأساة، أما إذا مات الملايين؛ فهذه مجرد إحصائية"!. فقد وجدتُ أنا -كإنسان- لأقول: تجويع أو ترويع رجلا واحدا مأساة، أما قَتْلُ أو تجويع الملايين؛ فهو الإجرام بعينه والذي يعكس منتهى الوحشية والبشاعة، وعليه؛ نرى أن كل هذه الجوقة يجب أن تنظر إليها الإنسانية المعاصرة على أنهم أسوأ من مشوا على الأرض يوما ما.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل.. تداعيات انسحاب غانتس من حكومة الحرب | #الظهيرة


.. انهيار منزل تحت الإنشاء بسبب عاصفة قوية ضربت ولاية #تكساس ال




.. تصعيد المحور الإيراني.. هل يخدم إسرائيل أم المنطقة؟ | #ملف_ا


.. عبر الخريطة التفاعلية.. معارك ضارية بين الجيش والمقاومة الفل




.. كتائب القسام: قصفنا مدينة سديروت وتحشدات للجيش الإسرائيلي