الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكاتب السري

محمد فرحات

2020 / 7 / 21
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


من المثيرِ حقا أن يقفَ واحدٌ من أهم رجال الدين الإسلامي وراء واحدةٍ من أهم المعارك الفكرية على الإطلاق وهو من هو في علو شأنه الديني والرسمي، تصنفه البداهة في حتمية كونه رأس الحربة لمدرسة المحافظين، لم لا وهو الأزهري المعمم الذي وصل إلى أعلى المناصب الدينية، مفتى الديار المصرية وأحد أهم مرجعيات الفتوى في العالم الإسلامي على الإطلاق، معركة تحرير المرأة وما أحدثه كتاب( تحرير المرأة سنة 1899) من ارتجاج إجتماعى كان الأعلى في كمه وكيفه، نعم أحدث كتاب (الإسلام وأصول الحكم سنة 1925 ) للشيخ على عبدالرازق و كتاب ( في الشعر الجاهلي لسنة 1926 ) لعميد الأدب هزة عنيفة ولكنها اقتصرت على عالم المثقفين والساسة، أما كتاب تحرير المرأة فعصف بالمجتمع ككل.

الشائع أنك حين تسألُ عن مؤلفِ كتاب (تحرير المرأة) يبادرك المجيبُ باسم قاسم بك أمين وتعليق أو اثنين يصك المجيبُ بها أذنيك ،تعلم بعدها كيف تصنفه!!

ولكن تلك الإجابة الشائعة وربما ما يتبعها من تعليقات قد تختلف نوعا ما إن تجشمت بعض الصبر في قراءة هذا المقال.

احتدم الصراع بين مدرستين: واحدة ترى العمل الثوري ضرورةً للتخلص من الاحتلال الإنجليزي وكان على رأسها مصطفى كامل ودعمها الخديوي عباس حلمي ساعتها لسوء علاقاته باللورد كرومر.

ومدرسة آخري ترى أن التربية والتعليم والاستنارة والارتقاء بالأمة فكريا وعلميا هو الطريق الوحيد لنيل الاستقلال وكانت مدرسة عريضة بها كل الأطياف أمثال أحمد لطفى السيد وسعد زغلول ورشيد رضا وغيرهم العشرات من أهم من أرسى دعائم الفكر والسياسة والحياة الحزبية في مصر، وعلى رأس هذه المدرسة كان الأستاذ الإمام محمد عبده وكان قد رجع من منفاه على إثر الثورة العرابية وتبرأ من كل مشتقات لفظة (سياسة)، وبعد عمل لسنوات في القضاء تبوأ فيها منصب أحد مستشاري محكمة الاستئناف، تم تعينه أول مفتى مصري مستقل عن منصب شيخ الأزهر، وكان لهذا التعين الكثير من الدلالات السياسية فهذه المناصب كانت تُفرض من قبل الباب العالي (الخلافة العثمانية) وحملت من معاني الاستقلال عن الخلافة وقتها الكثير.

وكان الإمام قد تبرأ من السياسة ولم يكن في استعداد لخوض غمارها ثانية.

وكان من عادة الزمن وقتئذ أن تُكتب المقالات والأبحاث والكتب بأسماء مستعارة، أو أن يكتُبَ الأئمة ويتم النشر بأسماء تلامذتهم ، فمعظم ما كتبه الأفغانى نُشر بأسماء تلامذته .

تقول الدكتورة درية شفيق فى كتابها ( تطور النهضة النسائية )

(أما الأمور التى عالجها الشيخ محمد عبده من الناحية الفقهية، فيما يختص بحقوق المرأة ،فقد تناولها قاسم أمين من الناحية الاجتماعية)

فقد اختص الأستاذ الأمام بجانب التأصيل الديني هذا من ناحية المضمون وهذا ما نستنتجه بمنتهى السهولة من قراءة ( تحرير المرأة).

فلقد أثار الإمام نفس قضايا كتاب تحرير المرأة ولكن على صورة مقالات نشرها تباعا في جريدة الوقائع المصرية قبل أحداث الثورة العرابية من شهر مارس 1881.

ففصول الزواج،الطلاق، تعدد الزوجات، الحجاب تحمل من التقريرات والاجتهادات الفقهية ما لا يقدر عليه إلا فقيه مجتهد كالأستاذ الإمام.

يقرر الإمام بصيغة القطع (ولم أر إلا مسألة واحدة ميز الشرع فيها الرجال على النساء،وهى تعدد الزوجات).

(واتفق أئمة المذاهب، على أنه يجوز للخاطب أن ينظر للمرأة التي يريد أن يتزوجها) وهو تقرير لا يأتي إلا من اطلع على كتب المذاهب كلها على ندرة نسخها في وقته.

ثم هو يقسم أنواع الحجاب إلى واحد خاص بنساء النبي وآخر خاص بعوام المسلمات ويورد لذلك الأدلة القرآنية والحديثية بطريقة لا يستطيعها إلا مجتهد مطلق كالأستاذ الإمام .

ثم يقرر قاعدة فقهية لم سبقه أحد إليها بعد دراسة دقيقة للطلاق وأحواله وأثرة الإجتماعى فيقول (إن شرعنا الشريف قد وضع أصلا هاما يجب أن ترد إليه جميع الفروع في أحكام الطلاق، وهو أن الطلاق محظور في نفسه مباح للضرورة).

يعلق الدكتور محمد عمارة (فمن يستطيع إصدار هذا الحكم القاطع، بعد هذه الإحاطة الشاملة، لا أظنه قاسم أمين، ولا أظنه إلا الأستاذ الإمام محمد عبده).

وبالنظر للمراجع وأسماء مؤلفيها نتيقن أن الإمام ولا أحد غيره هو الكاتب الحقيقي، فهو ينقل عن الإمام الغزالي كأحد مراجع الفقه الشافعي وابن عابدين والزيلعى في الفقه الحنفي ،وفى عشرات النصوص التي يقتبسها من مصادرها الأصلية.

فإذا انتقلنا إلى كتاب المرأة الجديدة المقطوع بصحة نسبته لقاسم أمين وجدنا تغيرا جذريا في الأمر، فاقتباساته من أعلام الفكر والفلسفة الغربية من هيرودوت وإلى المسيو شامب وجون هويت ورسو ولامارتين وغيرهم الكثير.

ومن أعلام النهضة النسائية الأوربية أمثال جوردن وكاى رينان ومدام استيل ومدام لافايت وغيرهن الكثير ممن تشبع بهن خريج جامعة مونبلييه قاسم بك أمين وما يخالف تماما ما وجدناه في كتاب تحرير المرأة.

ومن ناحية المضمون فكل ما كان يطالب به الإمام في كتاب تحرير المرأة هو مساوة المرأة مع الرجل في التعليم الإبتدائى فقط أما في كتاب المرأة الجديدة فيطالب قاسم أمين بالمساوة المطلقة في هذا المجال.

بمجرد صدور كتاب تحرير المرأة حدثت عاصفة بين مشايخ الأزهر المحافظين وتم التلميح والتصريح بأن الإمام محمد عبده هو الوحيد الذي يستطيع الكتابة بهذه الطريقة وكان صداما لا يقل في شراسته وضراوته عن معركة إصلاح الأزهر حيث كان الأستاذ الإمام يطالب بإصلاح الأزهر ومعالجته من الجمود الذي أصابه بتعديل هيكل دراسته وإدخال المواد الحديثة والفلسفة والمنطق والعلوم الاجتماعية مما كان مجرد النظر فيها يعد خروجا عن الدين وانحازت السلطة السياسية لمشايخ الأزهر ضد الإمام في هذه المعركة، فأراد مشايخ الأزهر من القوى المتجمدة الرد وبقوة على الإمام، فطبعوا آلاف النسخ من سؤال أفتوا الإمام فيه بصفته الرسمية كمفتى للديار المصرية وكانت صيغة السؤال (هل رفع الحجاب عن المرأة، وإطلاقها في سبيل حريتها بالطريقة التي يريدها صاحب كتاب (تحرير المرأة) يسمح به الشرع أم لا؟) ووزعوه على عوام المصريين من طلبة العلم وغيرهم لإثارة عاصفة شعبية ضد الإمام، ولكن الإمام يوعز لتلميذه الشيخ رشيد رضا صاحب جريدة المنار لسان حال فريق الإصلاح الديني في الرد.

فكان الرد كالآتي: إن الاستفتاء جاء على خلاف المعهود، بأن وزع على الجمهور، إن الجواب عليه يستلزم من الإمام قراءة الكتاب وهذا ما لا تسمح به مشغولياته الضخمة، إن فتوى الإمام ستكون على المذهب الحنفي الذي عينته الدولة للإفتاء بموجبه، في حين أن كثيرا من المذاهب الأخرى تبيح للمرأة إظهار وجهها وكفيها ,ثم يختم بقوله كل هذا يدلنا على أن السائل قد أخطأ في سؤاله مما يوجب عدم الرد عليه.

ثم تُدبج المقالات في المنار لسان حال الإمام وتلامذته في مدح كتاب (تحرير المرأة) وخلق تيار عام يساند قضية الكتاب بل وتصنفه مع(رسالة التوحيد) للإمام و كتاب (سر تقدم الإنجليز الساكسون) ترجمة فتحي زغلول من أفضل الأعمال الفكرية في هذا العصر.

بعد هذا العرض الموجز يتبين أن الكاتب الحقيقي لكتاب(تحرير المرأة) اللبنة الفكرية الأولى لتلك الانطلاقة الرائعة كان الأستاذ الإمام محمد عبده.

ولكن المحير أن الإمام كان اعتزل تماما السياسة بعد تجربته المريرة كأحد قادة الثورة العرابية، وكفر تماماً بالمنهج الثوري في إصلاح أحوال البلاد واتجه لأسلوب الإصلاح الذي كان ينادى به قبل انجرافه للثورة العرابية عن طريق التربية وخلق جيل متعلم مثقف يأتي بثمار الثورة ولكن بلا ثورة!!.

ثم تراه بعد ذلك يتجه إلى ثورة ولكن في الفكر ويحدث ثورة فكرية رائعة يُعادى عليها من قبل الرجعية والاحتلال والخديوي والسلطنة العثمانية في معارك فكرية متعددة مثل إصلاح الأزهر والقضاء الشرعي، وثورة اجتماعية في ضرورة تقييد تعدد الزوجات والإفتاء بحرمة تعدد الزوجات لمن لا يستطيع العدل بين الزوجات ثم يفسر قوله تعالى (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ) باستحالة توفر شرط التعدد وهو العدل فينتفي ما ترتب على الشرط وهو التعدد ذاته، وأن الحجاب بصورته الشائعة وقتها والتي شاعت الآن،من عوائق التقدم وأن المرأة يجوز أن تظهر وجهها وكفيها.

كل هذه الآراء كانت تعد من التابوهات الفعلية التي لا يستطيع أحد مجرد الاقتراب منها. هل أيقن الإمام أن الثورة السياسية لن تغير إلا الرؤوس فقط وتبقى الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية كما هي ؟ هل علم الإمام أن تثوير الفكر سيأتي بكل ما فشلت الثورات في الإتيان به ؟

أم أن الثورة الفكرية ستؤدى حتما إلى الثورة السياسية ضد الاستبداد والتخلف؟ هل تيقن الإمام أن الثورة ضد الأحوال السياسية مجرد عبث بدون تغيير للخلفية الفكرية والثقافية والاجتماعية؟ هل مهدت ثورة الإمام الفكرية لثورة حقيقية ؟
____________________________
المراجع: مقدمة الأعمال الكاملة لمحمد عبده، بقلم، محمد عمارة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصادر: ورقة السداسية العربية تتضمن خريطة طريق لإقامة الدولة 


.. -الصدع- داخل حلف الناتو.. أي هزات ارتدادية على الحرب الأوكرا




.. لأول مرة منذ اندلاع الحرب.. الاحتلال الإسرائيلي يفتح معبر إي


.. قوات الاحتلال الإسرائيلي تقتحم مناطق عدة في الضفة الغربية




.. مراسل الجزيرة: صدور أموار بفض مخيم الاعتصام في حرم جامعة كال