الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نقض مفهوم دين البشرية لدى أوغست كونت

هيبت بافي حلبجة

2020 / 7 / 22
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


ينطلق عالم الإجتماع الفرنسي أوغست كونت ، في بناء بنياد أطروحاته الفكرية والسوسيولوجية ، سواء على صعيد الفلسفة الوضعية ، سواء على صعيد محتوى ومضمون علم الإجتماع ، من فكرتين ، الفكرة الأولى ، مفادها وفحواها ، إن البشر يحتاجون ، ضرورة ، إلى دين كلي وشامل ، دين عام ومطلق ، دين البشرية ، أو الدين الكوني كما سماه الفيلسوف كانط ، وهو ، في حقيقته وتأصيله ، الدين الذهني ، الدين التجريدي . والفكرة الثانية ، مضمونها ، إن تطور الفرد الواحد وكذلك المجتمع وكذلك التاريخ وكذلك الأفكار يخضع ، ضرورة ، لقانون المراحل الثلاثة ، قانون الأنساق الثلاثة ، قانون المناهج الثلاثة ، والتي هي المرحلة اللاهوتية أو المرحلة الوهمية ، المرحلة الميتافيزيقية أو المرحلة التجريدية ، المرحلة الوضعية أو المرحلة العلمية .
ولكي ندرك حقيقة هذه الإطروحات لامناص من أن نحدد كيف عالج أوجست كونت بعض الإطروحات الأخرى التي تداخلت مع هاتين الفكرتين ، أو التي أنتجت مرتكزاتهما، أو حددت أفقهما :
أولأ : بعدما تشبع بآراء وإطروحات إستاذه سان سيمون وتفارق عنه فيما بعد ، أدرك أوغست كونت إن السوسيولوجية الإجتماعية تتجوهر ، بالضرورة ، حول قواعد وقوانين ، تؤكد ذاتيتها من ناحية أولى ، أي تلك الذاتية التي تجعلها هي هي وليست لاهي ، مع الإدراك إنها هي هي في الصيرورة وليست لاهي في السيرورة ، وتؤكد خصوصيتها مع التاريخ البنيوي من ناحية ثانية ، أي بعدها السوسيولوجي كظاهرة ، كتحول ، كتموضع في العلاقة مابين الكون والوجود . وتؤكد ، من ناحية ثالثة ، الرابطة مابين القوانين والعلاقات ، فلاقوانين بدون علاقة ، كما لاعلاقة بدون قوانين . فالعلاقة ، هنا أي لدى أوغست كونت ، تتمتع بمحتوى موضوعي ، تتجاوز حدود مفهومها الخاص ، أي بدون العلاقة والقوانين لن تكون ثمة أية مصداقية تاريخية دراساتية لمفهوم السوسيولوجية الإجتماعية . ومن هنا تحديداٌ ألغى أوغست كونت المحتوى الإجتماعي عن مفهوم الفرد ، الذي أحتسبه بنية حيادية ، بنية أصيلة إلى جانب الأسرة والمجتمع ، لكن بنية قاصرة ، غير قادرة على إنتاج محتوى القوانين والقواعد والعلاقات ، وبالتضاد من حالة الفرد ، فإن الأسرة والمجتمع هما أعمدة وعماد وأصالة هذه السوسيولوجية ، فالأسرة تتضمن على أربعة ضروريات حيوية ، وهي ضرورية العلاقة ، ضرورية الوعي ، ضرورية المشاركة ، ضرورية الحب الخالص ، العنصر الجوهري والحقيقي في موضوع دين البشرية . وأما المجتمع فهو يقتضي ثلاثة ضروريات أخرى ، ضرورية التبادل ، ضرورية التعاون والتضامن ، ضرورية القوانين . وهكذا تبرز الروح الحية والفعالة مابين التاريخ البنيوي ومابين السوسيولوجية الإجتماعية ، ومابين الفلسفة الوضعية والفلسفة الإجتماعية ، وكذلك تتضح الرابطة الموضوعية مابين العلاقات ومابين القوانين .
ومن هذا المحتوى إعترض أوجست كونت على ثلاثة قضايا حيوية دقيقة :
الأولى على الفوضى التي عمت البلاد بعد الثورة الفرنسية ، ورأى فيها تدميراٌ وتحطيماٌ للبنى السوسيولوجية الإجتماعية ، لذلك نادى ، وهو المولود بعد الثورة الفرنسية ، بضرورة البناء على أنقاض وبقايا هذه الفوضى الخانقة ، تداركاٌ لشرطين أثنين تخصان الفوضى ، الشرط التاريخي ، والشرط البنيوي ، فالشرط التاريخي يقتضي ضرورة تجاوز مرحلة الفوضى إلى مرحلة البناء على الرغم من إن الثورة قد غيرت المفاهيم والإحداثيات ، والشرط البنيوي يقتضي تجاوز مرحلة الفوضى لإن هذه الأخيرة تناقض السوسيولوجية الإجتماعية نفسها وتمنعها من أن تحقق ذاتها ، أي إن الفوضى هي العامل السلبي المطلق ، والأكيد ، ضد تلك الإطروحات التي تخص الأسرة والمجتمع والسوسيولوجيا والتاريخ .
والثانية إن تعصب الديانة المسيحية ، حسب رؤية أوغست كونت ، وسلطة الكنيسة ، وأستبداد الرهبان ، ومحاكم التفتيش ، وصكوك الغفران ، وحرق العلماء ، أطاحت بالقيمة الموضوعية الإيجابية للدين ، ومنعت التاريخ البنيوي أن يتمظهر حسب قوانينه الخاصة به ، وصادرت قيمة المفهوم والمحتوى في الرابطة مابين القوانين والعلاقات ، أي إن الديانة المسيحية أثرت سلبياٌ في مجالين أثنين ، التاريخ والسوسيولوجيا ، ضمن شرطين أثنين ، الشرط الذاتي ، وشرط الحق ، فالشرط الذاتي هو شرط أمتلاك العلم والمعرفة والتفسير الكوني ، وشرط أمتلاك الحقيقة الأبدية ، وشرط أمتلاك العلم الغيبي ، وأما الشرط الثاني وهو شرط الحق ، فهو الشرط الذي يمنح القرار الوجودي ، والسلطة والنفوذ السماويان ، والتمثيل الإلهي والمحاكمة المطلقة وممارسة مقتضيات الثواب والعقاب ، وهذا ، تماماٌ ، عينها لدى الديانة الإسلامية .
والثالثة قضية الإلحاد ، لقد أعتبر أوغست كونت إن الإلحاد ، كظاهرة وكمفهوم ، ليس متأصلاٌ في الطبيعة البشرية ولا في سوسيولوجية الكون ، وأعتبره مفهوماٌ سلبياٌ في التطور الذاتي للقوانين ، وفي تحديد موضوعية العلاقات ، وفي تمظهر الحالة الإيجابية البنيوية للتاريخ الفعلي الأصيل ، أي إنه عامل غريب وعنصر غير محمود في موضوع مبادىء الفلسفة الوضعية . وعلى النقيض ، فإن الإيمان هو التأصيل الفعلي والمباشر في التجربة الكونية ، تجربة محتوى العلاقة الحميمية مابين الكل والكل ، وهو صاحب الحب الخالص .
ثانياٌ : بعد ما بينا تلك النقاط التي كانت تهمنا في أولاٌ ، نود أن نبين حقيقة قانون المراحل الثلاثة ، قانون المراحل الفكرية التاريخية الثلاثة ، لكن قبل ذلك لامناص من مقدمة توضح لنا بعمق مفهوم ومحتوى السيرورة في هذا القانون : وهي تتعلق بالمفارقة مابين الثابت الستاتيكي ، ومابين المتحرك الديناميكي ، فالأول قاصر عن توليد وإنتاج محتوى القاعدة والقوانين والعلاقة ، في حين إن الثاني هو من يولد صيرورة تلك المفاهيم الثلاثة ، لذلك فإن الفرد ينتمي ، من حيث بعده الحيادي ، إلى ماهو ستاتيكي ، وكذلك المنطق الصوري والشكلي لأرسطو ، لإن المبدأ الجوهري هو ، هو هو ، وكذلك الأفكار اللاهوتية تنتمي إلى موضوعات ما هو ستاتيكي ، وكذلك موضوعات الميتافيزيقيا ، فكل تلك الأشياء غير قادرة على خلق حالة من التطور ، من التحول ، ذلك التطور والتحول اللذان ينتميان ، بالضرورة ، ومن حيث البنية ، إلى ما هو ديناميكي ، الذي منه يتمظهر وينطلق قانون المراحل الفكرية التاريخية الثلاثة . وهنا يتراىء شيء من التناقض ، شيء من الحركة المتعارضة ، ففي أعماق فكره ينتمي اللاهوت والميتافيزيقيا إلى ماهو ستاتيكي ، في حين إن القانون بمراحله الثلاثة ينتمي إلى ماهو ديناميكي ، والجدير بالعلم وبالفهم ، هنا ، إن أوجست كونت يؤكد على إن خواص هذا القانون ، وخواص الفلسفة الوضعية تحققت في المجتمعات الغربية ، بعد أن نمت وترعرعت في ثناياها ، ولم تتحقق في المجتمعات الآخرى ، سيما في المجتمعات الشرق أوسطية ، ولقد توصل إلى هذه النتيجة ، حسب قوله ، إعتماداٌ على منهجيته في البحث ، من خلال ، أولاٌ الملاحظة ثم التجربة ثم المنهج المقارن ثم المنهج التاريخي .
المرحلة اللاهوتية : وهذه المرحلة تمتاز بثلاثة خصائص ، الخاصية الأولى وهي إن الذهن البشري يرى الأحداث عن طريق الفاعل المباشر ، المشابه والمناظر له ، فكما كان الإنسان يقوم بالفعل فإن الفعل الواحد يصدر من كائن واحد ، فالنبتة تنمو لإن هناك من يجعلها تنمو ، وكذلك المطر والرعد والأزهار وكافة مكونات الطبيعة . الخاصية الثانية وهي إن منطوق الحياة والإيمان والوجود والكون كان يكتنفه ظلام دامس وغياب مطلق ، فهو لاشيء بالمطلق ، لإن الإنسان كان مجرد هناك ، فالمطر ينهمر وهو مثل المطر ، مع فارق إنه يعيش حالته وحالة الأشياء . الخاصية الثالثة وهي إن موضوع الأشياء ومحتوى العلاقة مابين الأشياء كانا في مرحلة الوجود الخام ، الحياة الأولية ، فلارابطة ولاربط ولا إرتباط ، وربما أجمل توضيح لهذا الأمر هو التشابه والتماثل مابين الإنسان في تلك العقبة ومابين رضيع يفتح عينيه بكل عفوية وبساطة . ومن هنا نحن لا نوافق أوجست كونت حينما يقسم هذه المرحلة إلى مرحلة الصنم ، ثم التعددية ، ثم التوحيدية ، فهذا أرتباك فعلي في ذهنيته ، ومن ثم في رؤيته العامة ، لذلك نغض الطرف عن هذا التقسيم .
المرحلة الميتافيزيقية : والتي هي ، في الحقيقة ، مرحلة إنتقالية في تطور التاريخ البشري ، بمعنى إن المرحلة اللاهوتية إنتقلت في سماتها وأصولها ، حسب أوغست كونت ، إلى المرحلة الميتافيزيقية بعد أن خضعت لحالة التجريد . وهذه المرحلة تمتاز بخاصيتين جوهريتين ، الخاصية الأولى وهي إنتقال الوعي الإنساني من حالة العلل المباشرة والشخصية إلى حالة العلل غير المباشرة والمجردة ، أي إن الظواهر والقضايا تحولت من حالة مشخصة إلى حالة مجردة ، ومن هنا يسمي البعض المرحلة الميتافيزيقية بالمرحلة التجريدية ، ومهما يكن من أمر التسمية ، فإني اعتقد إن تسمية هذه المرحلة بالمرحلة التجريدية أدق تعبيراٌ من تسميتها بالمرحلة المينافيزيقية ، كما إن تسمية المرحلة الأولى بالمرحلة اللاهوتية غير دقيقة ، لكن نغض الطرف عن كل ذلك لإن موضوعنا هو مفهوم دين البشرية . الخاصية الثانية وهي تتعلق بمحتوى المقارنة ، وهنا ليس القصد بالمقارنة مابين الأشياء ، إنما هي المقارنة لإدراك مفهوم الأشياء ، لذلك لاقيمة أصيلة لمفهوم التجريد بدون محتوى المقارنة ، فالمرحلة التجريدية لا تتأصل في غياب خاصية المقارنة .
المرحلة الوضعية : وهي المرحلة النهائية في تطور التاريخ البشري الذي لايمكن إلا أن يتمركز على الفلسفة الوضعية ضمن المجال العلمي والقوانين العلمية ، تلك الفلسفة التي تناقض ، في جذورها وفي صيرورتها ، الفلسفتين السابقتين ، الفلسفة اللاهوتية والفلسفة الميتافيزيقية ، وتلغي أبعادها وحيثياتها . والمرحلة الوضعية ، في علاقة علم الإجتماع بالفلسفة الوضعية ، هي جوهر وحدود الفلسفة الديناميكية في مجال تطور التاريخ البشري وكذلك الفكر البشري . وهنا لابد من أن نذكر المقدمات التالية : المقدمة الأولى بعكس الفلسفة اللاهوتية والفلسفة الميتافيزيقية اللتان لايمكن إلا أن تكونان ثابتة في حدودها ، فإن الفلسفة الوضعية هي متحركة في التاريخ ومتطورة في حدودها ، أي إن المرحلة الوضعية ، نتيجة تطور العلم ، تنتقل من مستوى إلى مستوى أعلى ، أي حينما تجدد المرحلة الوضعية ذاتها يتجدد معها منظور الفلسفة الوضعية . المقدمة الثانية بعد أن كان الإنسان شاهداٌ وجزءاٌ سلبياٌ للكون وظواهره في المرحلة اللاهوتية ، ثم أصبح شريكاٌ فعلياٌ إيجابياٌ في حدودها في المرحلة الميتافيزيقية ، أصبح طرفاٌ مستقلاٌ في كيفية رؤية أبعادها ليبرمج تصوراته وفقاٌ للعلم وقوانينه ليجدد إطروحاته بصدد الكون وظواهره . المقدمة الأخيرة بعد أن كان مفهوم العلل ، في المرحلتين السابقتين اللاهوتية والميتافيزيقية ، على صيغة فاعل متخفي هناك ماوراء السحب أو قوة غيبية تجريدية أو سبب ثابت مابين طرفي الظاهرة أو الفعل ، أصبح ينتمي إلى جملة أطراف ، إلى مختبر كامل ، إلى جملة أسباب ، إلى محتوى إنتماء الكل للكل ، أي إن محتوى العلاقة أصبح في كافة الإتجاهات وخاضعاٌ لكل الإحتمالات ، بعد أن كان عاقراٌ في إتجاه باهت .
ثالثاٌ : كان لامندوحة من أن نبين ، في أولاٌ وثانياٌ ، العلاقة الصادقة والضرورية مابين بنية التاريخ ووسوسيولوجية الفكر ، لكن هل إلتزم بها أوجست كونت فيما يخص موضوع الدين والدين البشري ، لنوضح بعض الإطروحات :
الإطروحة الأولى يؤكد أوغست كونت إن الثورة السياسية هي حدث إرادة تحسن الحالة المعيشية على صعيد القوانين التشريعية ، وتساهم في رفع مستوى الوعي الفكري ، لكنها ، حسبه ، عاجزة عن كشف العلاقة الأصيلة مابين الفكر والمجتمع ، أي إنها حدث لابنيوي ، سيما فيما يتعلق الأمر بالفوضى الذي تحدثه ، والفوضى معيار سلبي بحت في بناء سوسيولوجية المجتمع ، وأستخلص نتيجة إنها تمنع المجتمع من الأستقرار ، وبالتالي تقوض أساس الدين الإخلاقي في مفهوم الدين البشري . ومن الواضح إنه تأثر بالثورة الفرنسية وأستنطق مقدماتها وعمم النتائج .
الإطروحة الثانية يؤكد أوغست كونت إن المجتمعات لايمكن أن تستمر بدون محتوى الدين ، لكن ليس هذا الدين اللاهوتي ، إنما ذلك الدين الذي يحتوي ، حسبه ، على قيمة إيجابية موضوعية في بناء المجتمع ، في بناء الفكر الإنساني ، في بناء الدين الأخلاقي ، أي إن الدين هنا هو دين الإنسان ، هو دين البشر عامة ، وهو في الحقيقة دين بدون إله .
الإطروحة الثالثة يؤكد أوجست كونت إن العلم ، مهما تقدم ومهما كشف لنا عن القوانين الوضعية ومهما حسن من مستوى فكرنا وحياتنا ومجتمعنا ، عاجز عن تفسير معنى الوجود وحقيقة الكون ، ذلك التفسير الذي يقوم به الدين ، فالدين هو وحده قادر على أن يفسر لنا ماهو الوجود وماهية الكون وكافة الأسئلة التي تجول وتحوم حولهما .
الإطروحة الرابعة يؤكد أوجست كونت ، وهذا خطير للغاية ، إن مفهوم ومحتوى الدين يتغير ويتحول عبر المراحل التاريخية ، فهو يقترب أكثر ثم أكثر من محتوى العلم ، وكأن الدين يتحول من الدين الإلهي إلى دين العلم ، من دين الكنيسة والسلطة والإستبداد إلى دين القوانين العلمية ، إلى دين قواعد علم المنطق .
والآن هل تصمد هذه التصورات والإطروحات إزاء النقد التحليلي ، لا أعتقد :
أولاٌ : إذا كان العلم عاجز عن تفسير معنى الوجود وحقيقة الكون ، فماهي الجهة الثانية التي تستطيع أن تنهض بهذه المهمة !! هي الدين ، لكن ثمة نوعان للدين ، حسب أوغست كونت ، الدين اللاهوتي والدين البشري ، الدين اللاهوتي مرفوض ، من قبله ، في جذوره وفي أسسه ، وأما الدين البشري ، فهو ، تعريفاٌ ، ينطلق من مدارك وخصوصية الإنسان ، فإذا كان العلم والإنسان لايستطيعان تفسير معنى الوجود وحقيقة الكون فإن الدين البشري لايستطيع ، بمفرده ، أن يقوم بتلك المهمة . لكن ، في الفعل ، هو يرتكب حماقتين ، الأولى إن الدين لديه هو الدين اللاهوتي نفسه بعد أن يزيل عنه صكوك الغفران وسلطة الكنيسة وأستبداد الكهنة ، والثانية هو لايدرك العلاقة البنوية مابين العلم وقضية معنى الوجود وحقيقة الكون ، حيث إن المعادلة أكيدة مابين فهمنا للكون والوجود ومابين تقدم العلم ، فالعلم هو الجهة الوحيدة الذي يقربنا من المدخل إلى أبواب حقيقة الكون والوجود . أضف إلى ذلك إن الإنسان قد يحتاج إلى ملايين السنين كي يقترب فعلياٌ من الفهم الأولي والبسيط لحقيقة معنى الوجود وحقيقة الكون .
ثانياٌ :هل حقيقة إن العلم قاصر وعاجز عن تفسير حقيقة الكون ، أم إن علمنا ، علم الإنسان الحالي ، المعرفة العلمية الحالية هي التي تشكو ، حالياٌ ، من هذا القصور والعجز ، فقلة علمنا وقلة معرفتنا بالكون لاتلغي الحقيقة العلمية التي تقف ماوراء الوجود والكون ، وكذلك قلة فهمنا وإدراكنا للكون ، حالياٌ ، لاتمنحنا حجة خاطئة بليدة ، إن للكون إله هو خالقه ، سيما وإن مفهوم الخلق والخالق يولد إشكاليات عديدة وفرضيات غير صادقة بل حمقاء ، فالكون هو الكون والخالق هو عنصر غريب عنه يصادر فيه كل شيء بمافيه حقيقته . أضف إلى ذلك ، ماذا لو كان الكون ، نفسه ، ظاهرة علمية ، ظاهرة فيزيائية ، وهو هكذا بالمطلق ، أي إن الكون لايمكن إلا أن يكون ظاهرة فيزيائية ، فكيف يعجز العلم عن تفسير ذاته ، عن تفسير ظاهرته ، عن إحتضان حقيقته .
ثالثاٌ : وأما دين البشرية ، أو دين الكون ، فهو ، في المطلق ، دين تجريدي ، دين لامعنى له ، دين لاخاصية له ، لا خصوصية فيه ، دين لا دين له ، ثم من هو الضابط لهذا الدين ؟ من هو مؤسس هذا الدين ؟ من هو إله هذا الدين ؟ هنا نحن إزاء فرضين لاثالث لهما ، الفرض الأول إن ضابط هذا الدين هو إله ما ، والفرض الثاني أن يكون هو الإنسان ، ففي الفرض الأول يصبح دين البشرية دين هذا الإله ، ويرتهن بإرادته ، وينقاد لأوامره ، وهذا مالايرضى أوجست كونت به ، ومن ناحية أخرى سوف يفقد قانون المراحل الثلاثة كل قيمته التحليلية ، أي أن يغدو أوجست كونت عارياٌ ، فلاقيمة تاريخية لإطروحاته ، ومن ناحية ثالثة ينبغي أن يكون هذا الإله هو إله الكون والوجود ، وهذا يخلق تناقضات لا أول لها ولا آخر ، فلا أحد في السماء ، الكل في الآرض . وفي الفرض الثاني ثمة آلاف من التناقضات أولها إن التجربة البشرية مليئة بالأديان ، ثم أليس محتوى القوانين والنظام والآداب العامة في أي بلد هو بمثابة دين ، بالمعنى الأوغستي ، لهذا البلد ، ثم كيف يمكن لهذا الدين أن يفسر معنى الوجود وحقيقة الكون ، حسب أوجست كونت ، طالما إنه من صنع البشر ، ثم ألا يمثل ذلك فكر وأخلاق البشر فما علاقة ذلك ، إذن ، بالدين وبالإله .
رابعاٌ وفي الحقيقة ، ينبغي ، إما أن نختار الدين ، أو أن نختار قانون المراحل الثلاثة ، إذ من التناقض العنيف والبشع الجمع بينهما ، وفي الحالة الأولى يذوي أوغست كونت ويذوب ، كما رأينا ، هو وتحليلاته وإطروحاته ، وفي الحالة الثانية فإن قانون المراحل الثلاثة قاصر وناقص ولايستطيع أن يحلل تاريخ سوسيولوجية المجتمع إلا بصورة باهتة ضعيفة ، ويكفي أن ندلل على ذلك من فكره ، هو ، حيث ضرورية الدين للمجتمعات ، ثم إن التقسيمات التي إعتمدها غير دقيقة ، فإن مايسميه أوغست كونت بالمرحلة اللاهوتية هي موجودة في كافة المجتمعات وليست في المجتمعات الشرقية فقط ، كما زعم ، وسوف يمتد إلى المستقبل ، وكذلك المرحلة الميتافيزيقية ، وقضايا أخرى كثيرة ، وأعتقد ، بإقتضاب ، كان من المستحسن لأوجست كونت ، إن أصر على وجود هذا القانون ، أن يؤكد إن تاريخ سوسيولوجية المجتمع إختصر ، حتى الآن ، على ثلاثة أنواع من العقول ، العقل اللاهوتي ، والعقل الميتافيزيقي ، والعقل العلمي . وإلى اللقاء في الحلقة الخامسة والتسعين .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رفح: اجتياح وشيك أم صفقة جديدة مع حماس؟ | المسائية


.. تصاعد التوتر بين الطلاب المؤيدين للفلسطينيين في الجامعات الأ




.. احتجاجات الجامعات المؤيدة للفلسطينيين في أمريكا تنتشر بجميع


.. انطلاق ملتقى الفجيرة الإعلامي بمشاركة أكثر من 200 عامل ومختص




.. زعيم جماعة الحوثي: العمليات العسكرية البحرية على مستوى جبهة