الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إبن رشد والإرث الأندلسي

رحيم العراقي

2006 / 6 / 28
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


في كل عام تحصل لقاءات ابن رشد في مدينة مرسيليا عاصمة الجنوب الفرنسي الواقعة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط. ثم تجمع المداخلات في كتاب. وقد أشرف عليه الباحث الفرنسي تييري فابر، وشارك فيه كل من البروفيسور آلان دوليبيرا الأستاذ في جامعتي باريس وجنيف، والبروفيسور محمد عابد الجابري الأستاذ في جامعة محمد الخامس بالرباط، والبروفيسور موريس روبين حيون الأستاذ في الجامعات الفرنسية والمختص بالفلسفة اليهودية في القرون الوسطى.
كما ساهم فيه المؤرخ إلياس صنبر مدير مجلة الدراسات الفلسطينية في باريس، هذا بالإضافة إلى البروفيسور محمد طالبي عميد الجامعة التونسية سابقا وأحد كبار مفكري الإسلام حاليا. وهناك مساهمات أخرى عديدة لا تقل أهمية ولكن يصعب التوقف عندها كلها.
منذ البداية يرى تييري فابر المشرف العام على الكتاب أن اسم ابن رشد يمكن أن يجمع بين كلتا ضفتي البحر الأبيض المتوسط لأنه أثر على المسلمين واليهود والمسيحيين في آن معا.
وبالتالي فلماذا لا يلتقون جميعا حوله: أقصد حول فكره الفلسفي الخصب؟
في الواقع أن الإرث الأندلسي يحتل مكانة خاصة في ثقافة البحر الأبيض المتوسط. ففي ظل الحضارة الأندلسية الزاهرة أعطى اليهود والمسيحيون والمسلمون أفضل ما عندهم وتفاعلوا مع بعضهم البعض وتعايشوا بسلام ووئام على الرغم من الخلافات التي نشبت في هذه اللحظة أو تلك.
في تلك الفترة المجيدة من تاريخ الحضارة العربية لم يمنع الاختلاف الديني فكرة التواصل الحضاري بين الإسلام والمسيحية ولا بين الإسلام واليهودية. وينبغي التذكير بذلك الآن أكثر من أي وقت مضى لأن دعاة صدام الحضارات يسرحون ويمرحون في كل مكان. وهم يحاولون إقناعنا بأن المصالحة بين الإسلام والغرب شيء صعب جداً إن لم يكن مستحيلاً.
ثم يردف الباحث تييري فابر قائلاً:
ولكننا نسألهم: إذا كانت هذه المصالحة قد حصلت في الماضي فلماذا لا تحصل في المستقبل؟ ما المانع في أن تعود تجربة الأندلس إلى الوجود مرة أخرى؟
من المعلوم أن صموئيل هنتنغتون كتب يقول في كتابه المشهور «صدام الحضارات»: إن الصراع بين الإسلام والغرب لا يزال دائرا منذ ألف وثلاثمئة سنة، ولا يتوقع أن يتوقف بين عشية وضحاها. هذا الكلام يركز على أسباب الفرقة والتباعد وينسى عوامل الوئام والتقارب. صحيح أنه حصلت منافسات وحروب على مدار التاريخ بين كلا الطرفين. ولكن صحيح أيضا أنه حصلت لقاءات وتفاعلات ثقافية وتجارية إيجابية بينهما. وبالتالي فلماذا نتذكر السلبي وننسى الإيجابي؟
أما البروفيسور آلان دوليبيرا صاحب الكتب الشهيرة عن التراث العربي وفلسفة القرون الوسطى فقد كتب يقول: لقد ولد ابن رشد عام 1126 وعاش في ظل عهد أبي يعقوب يوسف وابنه يوسف يعقوب المنصور. وهما العاهلان الكبيران لإمبراطورية الموحدين الإفريقية البربرية. وقد عينه الأول قاضياً لإشبيلية عام 1169 ثم قاضيا لقرطبة عام 1182.
ولكن الثاني اضطر إلى طرده وعزله عام 1195 أي قبل ثلاث سنوات من موته، وذلك لكي يرضي الفقهاء المالكيين الكارهين لكل شيء اسمه فلسفة وفلاسفة. ولكن في الوقت الذي اضطهده أهل بيته وحرقوا كتبه راح اليهود والمسيحيون في أوروبا يهتمون به ويترجمون كتبه ويتدارسونها. وهنا تكمن مأساة ابن رشد. فقد نجح في الضفة الأوروبية من المتوسط لا في الضفة العربية الإسلامية التي ينتمي إليها.
أما المفكر التونسي محمد طالبي فيقول في مداخلته ما يلي: إذا كان فكر ابن رشد قد ترعرع على الضفة الأخرى من المتوسط، أي في أوروبا، فإنه لم يلق له أي صدى في العالم الإسلامي. فالمدرسة الرشدية غير موجودة عندنا للأسف الشديد. وذلك لأن فكره مات في أرض الإسلام عدة قرون قبل أن يبعث من جديد مؤخرا ويهتم به مثقفو الحداثة العربية.
أما الأصوليون المتزمتون فلا يزالون يكفرونه ويدينونه.وبالتالي فقد حصلت قطيعة في تاريخ الفكر العربي الإسلامي بعد موت ابن رشد والقضاء على الفلسفة في بلادنا. ولا نزال ندفع ثمن هذه القطيعة حتى الآن. فلو أن فكر ابن رشد العقلاني استمر عندنا لما انتصر التيار الظلامي على التيار المستنير ولما وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم من تخلف وانحطاط. لو انتصر فكره لكنا استطعنا بلورة حداثة إسلامية تليق بالقرن الواحد والعشرين.
كيف يمكن تفسير هذه القطيعة؟ كيف يمكن تفسير عدم وجود أي تلميذ لابن رشد بعد موته في عالم العرب والإسلام، في حين أن تلامذته لا يعدون ولا يحصون في أوروبا؟الجواب على هذا السؤال نجده عند ابن خلدون. فصاحب المقدمة الشهيرة يقول لنا بأن العلوم العقلانية اختفت من بلاد المغرب العربي في القرن الرابع عشر ولم يعد لها وجود ما عدا بعض النثرات المتفرقة هنا أو هناك والواقعة تحت مراقبة الفقهاء الصارمة.
ثم يضيف قائلا بأن إسهامات التفكير الحر أو الاجتهاد قد انتهت منذ الآن فصاعدا ولم يعد هناك أي ابتكار أو تجديد في العلم. ثم يختتم ابن خلدون كلامه الرائع قائلاً بما معناه: إن العلوم العقلانية في عصرنا قد هاجرت نحو الضفة الغربية والشمالية من البحر الأبيض المتوسط. وقد علمت بأنه أصبح لهذه العلوم أتباع كثيرون في روما وضواحيها وأن طلاب العلم هناك يقبلون عليها من كل حدب وصوب.
وأكبر دليل على زوال العلوم العقلانية في الإسلام ما حصل لمؤلفات ابن رشد في الأندلس والمغرب. فقد أحرقت بالنار بكل بساطة! ولم تعد لها أية أهمية. على العكس أصبح المسلمون يشكون بها ويعتبرونها مصدرا للكفر والابتعاد عن الدين.
وشاعت مقولة من تمنطق فقد تزندق، وأصبح الناس يعتقدون فعلا بأن الفلسفة تؤدي إلى الكفر!
والوقائع التاريخية تثبت لنا أن ابن رشد تعرض للاضطهاد والملاحقة في أواخر أيامه. فقد نفي من بلاده واحتقره فقهاء المالكية وراحوا يهاجمونه في كل مناسبة من أجل إسكاته وإخماد صوته.
لماذا؟ لأن الفلسفة في منظورهم وكذلك المنطق وممارسة التفكير الحر، كلها أشياء قد تؤدي إلى تدمير الإيمان والعاطفة الدينية. ولهذا السبب فإن العلوم الفقهية في صيغتها الدوغمائية الجامدة راحت تتغلب على التفكير الحر في أرض الإسلام. وهنا تكمن أزمة العالم الإسلامي التي لا تزال مستمرة فصولا منذ ذلك اليوم وحتى وقتنا هذا.
ويردف البروفيسور محمد طالبي قائلا: ولهذا السبب فإن التيارات الظلامية هي التي تهيمن على عالم الإسلام اليوم وليس التيارات العقلانية. ولكن هذا لا يعني أن الفكر في الإسلام كله أصبح ظلامياً. فهناك مفكرون مستنيرون في كل مكان لحسن الحظ. ولكنهم لا يزالون أقلية بالقياس إلى ذلك الحشد الهائل من المتطرفين والمتزمتين. أما المؤرخ الفلسطيني المعروف الأستاذ إلياس صنبر فيقول بما معناه:
إن عرب المشرق يشعرون بالحنين إلى الأصول الأندلسية منذ بضع سنوات. إنهم يرغبون في تذكر الأندلس ولكن ليس على طريقة الكليشيهات الشائعة للموشحات وملحمة طارق بن زياد أو الرحلات البحرية الساحرة إلى إشبيلية وغرناطة وقرطبة وإنما على هيئة البحث التاريخي والمعرفة الحقيقية لتلك الفترة من تاريخهم المجيد.في الواقع أن الانتلغنسيا المغاربية لعبت دوراً كبيراً في تذكير عرب المشرق بأهمية الأندلس وبضرورة التعرف على حضارتها واستلهامها أيضاً. نقول ذلك وبخاصة أن عرب المغرب هم الأقرب إلى الأندلس جغرافياً وعاطفياً ووجدانياً.
ولكن ينبغي أن نخرج من الصورة المثالية عن الحضارة الأندلسية لكي نتوصل إلى الصورة الواقعية الحقيقية. لا ريب في أن تلك الفترة كانت رائعة، وقد شهدت تعايشا نادرا بين اليهود والمسلمين والمسيحيين. ولذلك فإن بعض المثقفين الفلسطينيين والإسرائيليين يحاولون استذكارها من أجل قول ما يلي: إذا كنا قد عشنا مع بعضنا البعض في وئام وانسجام سابقا وصنعنا حضارة فلماذا لا نستطيع أن نفعل نفس الشيء اليوم في فلسطين؟
هذا الكلام جميل، ولكن لا ينبغي أن ننسى أن حضارة الأندلس على عظمتها شهدت صراعات أيضا بين كافة الأطراف ولم تكن دائما متناغمة أو منسجمة، وبالتالي فينبغي أن ننظر إلى الواقع التاريخي كما هو ونقدم صورة أقرب ما تكون إلى الحقيقة عن حضارة الأندلس بدون تبخيس ولكن بدون تضخيم أيضاً.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غزة ..هل يستجيب نتنياهو لدعوة غانتس تحديد رؤية واضحة للحرب و


.. وزارة الدفاع الروسية: الجيش يواصل تقدمه ويسيطر على بلدة ستار




.. -الناس جعانة-.. وسط الدمار وتحت وابل القصف.. فلسطيني يصنع ال


.. لقاء أميركي إيراني غير مباشر لتجنب التصعيد.. فهل يمكن إقناع




.. نشرة إيجاز بلغة الإشارة - نحو 40 شهيدا في قصف إسرائيلي على غ